أبحاثالتربية وعلم النفس

تلامذة المدرسة الرسميّة بين التعلّم وضرورة العمل

تلامذة المدرسة الرسميّة بين التعلّم وضرورة العمل

Public School Students Between Learning and the Necessity of Work

بتول عبد الله يوسف[1]  

Batoul Abdullah Youssef

تاريخ الاستلام 25/7/2024                                                 تاريخ القبول 8/8/2024

 

المستخلص Abstract-

مع تدهور الوضع الاقتصاديّ في لبنان، ارتفعت نسبة الأطفال العاملين، حتى بتنا نلتقي فيهم في معظم الأماكن والمحال والأسواق وغيرها. وقد عالجت هذه الدراسة مسألة عمالة الأطفال التّلامذة الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و18 عامًا. وقد كان لهذه الظاهرة تأثير على الصّعيد التربويّ، فانعكس ذلك سلبًا على المستوى الأكاديمي للتّلامذة، لا سيّما تلامذة المرحلة الثّانوية. وقد طرحنا الموضوع من جوانب عدّة حيث انطلقنا من الأسباب التي دفعت لتفاقم هذه الظّاهرة بوتيرة سريعة، ولتداعياتها على التّلميذ والأسرة والمجتمع، وصولًا إلى طرح حلول مناسبة للنتائج التي أسفرت عنها هذه العمالة. وقد اعتمد البحث على المنهجين النفسي في تصوير واقع التّلامذة وتأثير العمالة على سلوكهم، والتّحليليّ لتوصيف هذه الظّاهرة الاجتماعيّة الخطرة وانعكاساتها على التلميذ والأسرة والمجتمع.

(الكلمات المفاتيح: عمالة الأطفال، التسرّب المدرسيّ، ظاهرة إنسانيّة اجتماعيّة، عمالة رخيصة)

Abstract                                                                                                                       

      With the deterioration of the economic situation in Lebanon, the percentage of working children increased, to the point where we now meet them in most places, shops, markets, etc. This study addressed the issue of child labor among students between the ages of 14 and 18 years. This phenomenon had an impact on the educational level, and this had a negative impact on the academic level of students, especially secondary school students. We raised the issue from several aspects, starting from the reasons that led to the rapid worsening of this phenomenon, and its repercussions on the student, the family, and society, leading to proposing appropriate solutions to the results that resulted from this employment. The research relied on the psychological approaches to depict the reality of the students and the impact of employment on their behavior, and the analytical method to characterize This dangerous social phenomenon and its repercussions on the student, family, and society.

(Keywords: child labor, school dropout, social human phenomenon, cheap labor)

 المقدّمة

     الطّفل هو إنسان لم يتخطّ سن الثّامنة عشر من عمره، حسب ما تمّ تحديده من قبل الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، والتي تهتمّ بحقوق الطّفل والمطالبة بها، فهي دعت لحماية هؤلاء الأطفال من أيّ استغلال يتعرّضون له، أو يسبّب ضررًا صحيًّا، جسميًّا أو نفسيًّا لهم. وتعاني المجتمعات في جميع أنحاء العالم من انتشار ظاهرة تشغيل الأطفال، وهو ما يعرف بالعمالة، إذ إنّ “حوالى250 مليون طفل تقريبًا يعملون في مختلف مناطق العالم في وقتنا الحاضر، منهم ما يقارب 150 مليون طفل يعملون في مجال الأعمال الخطرة، وأكثر من مليون طفل يتعرّضون لعملية الإتجار بالبشر”[2]. وقد انتشرت ظاهرة العمالة بين المدن المتقدّمة صناعيًّا والدول النّامية والفقيرة؛ وتُعدّ هذه الظاهرة العالميّة مشكلة معقّدة لا سيّما في المجتمعات التي يكون مصدر العمالة فيها نابعًا من الثّقافة والتقاليد السّائدة في ذلك المجتمع. ولبنان أحد هذه البلدان التي تضاعفت فيه عمالة الأطفال في السّنوات الأخيرة. فما معنى العمالة في المعاجم؟ وما مفهومها؟ وما الأسباب التي دفعت لانتشار هذه الظاهرة في لبنان؟ وما تداعياتها على التلميذ، وعلى الأسرة وعلى المجتمع؟ وهل من مقترحات أو حلول للحد ولمنع تفاقم هذه الظّاهرة؟

1- معنى العمالة: لغةً واصطلاحًا

إنّ ظاهرة عمالة الأطفال هي ظاهرة اجتماعيّة إنسانيّة، وقد أصبحت اليوم على المحك مع ما يحصل في مجتمعاتنا، ما دفعنا أوّلًا لتعرّف معنى العمالة في لسان العرب حيث جاء فيه: ” العملة والعِمالة والعُمالة: أجر ما عمل. وقال الأزهري: العمالة، بالضّم، رزق العامل الذي جعل له على ما قلد من العمل”.[3] وجاء في معجم المعاني الجامع:” العمالة اسم ويعني أُجرة العامل، والعِمالة هي مجموع الأيدي العاملة”[4]. كما يقال: الأجارة والإجارة بضم الهمزة وكسرها بمعنى العمالة”.[5]فعلى سبيل المثال، نقول: يحتاج المصنعّ إلى عمالة كثيرة، والعمالة تعني” حرفة العامل ووظيفته، وقد أُخذت بالقاعدة الصّرفيّة، وهي أنّ صيغة فِعالة بكسر الفاء تدلّ على الحِرفة، مثل: تجارة، صناعة، حدادة، خياطة وغيرها…”[6]. ومصطلح عمالة الأطفال يشير إلى الأشخاص الذين يبذلون الجهد الجسديّ والنّفسيّ والاجتماعيّ من أجل مردود ماديّ.  وعمالة الأطفال هي العمل الذي يضع أعباء ثقيلة على الطّفل، والذي يهدّد سلامته وصحته ورفاهيّته، العمل الذي يستفيد من ضعف الطفل وعدم قدرته على الدّفاع عن حقوقه، فهو عمل يستغلّ الأطفال كعمالة رخيصة مقارنة مع عمل الكبار، العمل الذي يعيق تعليم الطّفل وتدريبه ويغيّر حياته ومستقبله.

2- العمالة وسوء الوضع الاقتصاديّ الحالي

لا شكّ في أنّ ظاهرة عمالة الأطفال قديمة قدم التّاريخ، إلا أنّها زادت كثيرًا خلال الأزمة الاقتصاديّة الرّاهنة، وهي تشكّل عبئًا ثقيلًا على الأطفال، وتعرّض حياتهم للخطر، وفي ذلك انتهاك للقانون الدّولي وللتشريعات الوطنيّة. والأزمة الاقتصاديّة التي عصفت بلبنان منذ صيف 2019 ولم تستثنِ قطاع التّعليم الذي ناله نصيب كبير منها، فتحوّل التلامذة إلى عمّال. وهنا يبرز قطاع التّعليم في لبنان كواحد من أكبر ضحايا الأزمة الاقتصاديّة المعيشيّة التي تعصف بالبلد منذ أعوام قليلة. فثمّة فئات من اللبنانيين باتت غير قادرة على الحصول على التّعليم، وباتت محرومة من أحد الحقوق الأساسيّة التي ينصّ عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كما أنّ25% من العائلات اللبنانيّة بات عاجزًا عن تأمين كلفة التّعليم المدرسيّ حسب تقرير أظهرته منظمة اليونيسف التّابعة للأمم المتّحدة، فلم يعد الأهل قادرين على تحمّل تكاليف النّقل التي ارتفعت فاتورتها ربطًا بالتّغيير الكبير في جدول المحروقات، إضافة إلى شراء القرطاسيّة والحاجات اللوجستيّة (انترنت، كهرباء..)، ناهيك عن الأقساط المرتفعة التي فاقت قدرات المواطن، وتجاوزت مداخيل الأسرة.

وتأثّر القطاع التربويّ بالأزمة الاقتصاديّة خلّف وراءه ويلات، أهمّها، وهو موضوع بحثنا، ذلك الذي أدّى إلى زيادة في أعداد التّلامذة العاملين، لا سيّما في المدارس الرّسميّة وحصريّا الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و18 عامًا، أي: تلامذة المرحلة الثّانويّة؛ والجدير بالملاحظة أنّ نسبة التّلامذة العاملين في ازدياد دائم، وهذا أمر خطير يهدّد المستوى التعليميّ في لبنان، والمستوى الاجتماعيّ أيضا. وقد توقّعت رئيسة لجنة الطّفل والمرأة البرلمانيّة عناية عزّ الدّين، في مقابلة معها، “حصول تسرّب مدرسيّ نتيجة لهذا الواقع الاقتصاديّ الصّعب وعدم قدرة الكثير من الأهالي على دفع الأقساط المدرسيّة.”[7] فقد وجد التّلميذ نفسه في بيئة قاصرة عن تأمين الخدمات لأبنائها، وبين أسرة تحتاج إلى مداخيل إضافيّة لتستطيع العيش بكرامة، وقد تحوّل وضعه من تلميذ مدلّل محاط برعاية والدين يشجعانه على التعلّم مع تأمين طلباته كافّة إلى تلميذ مهدّد بترك الدّراسة إذا لم يستطيعا تأمين حاجاته الضروريّة. ومع تفاقم الوضع الاقتصاديّ واتجاهه نحو التدهور، وازدياد الوضع المعيشيّ سوءًا، راح الأهالي يفتّشون عن سبل للعيش بكرامة وتأمين الاحتياجات، وذلك يفرض على الوالدين أعباء كبيرة ذات كلفة عالية؛ فالبعض من العائلات اللبنانيّة يرفض طلب المساعدات من أحد لأنّه لم يحتج يومًا لأحد وتعوّد أن يخدم نفسه بنفسه وأن يؤمّن مصاريفه بعرق جبينه دون منّة من أحد. ونحن نعلم كم من الأسر المتعفّفة التي ترفض العيّنات الغذائيّة أو ربما المساعدات الماديّة وغيرها. والكثير من الوظائف والشركات قد توقّفت أو باشرت بتقليص عدد موظّفيها، ما أدّى إلى الاستغناء عن عدد لا بأس به من العمّال الذين بمعظمهم يشكّلون عصب الأسرة وهم الدّخل الوحيد لها. هنا وقعت الأسرة بين أمرين أحلاهما مرّ: إمّا طلب المعونة من الجمعيّات أو المهتمّين والمكلّفين برعاية الأسر المحتاجة، وإمّا اللجوء إلى تشغيل أولادها للمساعدة في تأمين العيش بكرامة. فعدد لا بأس به اختار الاستعانة بأولاده للمساعدة في زيادة دخل الأسرة رغم اقتصار هذه الأسر بمعيشتها على المستلزمات الضروريّة.

وقد يضيء هذا المقال جانبًا من تلك الظّاهرة، تبيّن من خلال المتابعة في المرحلة الثّانويّة للأعوام الدّراسيّة الأخيرة. وانطلاقا من التّجربة، فإنّ نسبة العاملين في الصّف الواحد ربّما تفوق 40% موزّعين بين إناث وذكور. وهذه ظاهرة جديدة وغريبة في مجتمعنا اللبنانيّ، لأسباب متعدّدة يأتي في طليعتها الوضع الاقتصاديّ الذي فرض نفسه على الأهالي ومؤخّرًا تهجير أهالي القرى الجنوبيّة تاركين مصالحهم وأراضيهم ومصادر عيشهم حتى مستلزماتهم. هذه الحرب التي هجّرت الكثير من اللبنانيين واضطرتهم الظروف القاسية إلى إلحاق أولادهم بالمدارس الّرسميّة القريبة لأماكن تجمّعهم أو سكنهم؛ يعانون اليوم أضعاف ما يعانيه غيرهم من سوء الأوضاع ، ما دفع الأهالي إلى العمل بأكثر من دوام لتأمين قوت عيالهم وإبعاد شبح الفقر والعوز منهم؛ فرأينا التّلامذة، لا سّيما المهجّرين من قراهم في الوقت الحالي، يتحمّلون المسؤوليّة إلى جانب أهاليهم، ويحاولون الموازنة بين التعلّم في مرحلة ما قبل الظّهر والّلحاق بالعمل بعد عودتهم من مدارسهم من أجل تأمين مستلزماتهم المدرسيّة وحاجاتهم الضروريّة، والمساهمة أيضًا في مصروف العائلة التي أرهقتها الأوضاع المعيشيّة.

علاوة عل ما ذكر أعلاه، فإنّا نشهد، في هذا الوقت، عمالة الإناث دون السّن القانونيّة، فعدد لا بأس به من التلميذات في المرحلة الثّانويّة يعمل في الوقت الممتد من بعد الظهر إلى أوقات متأخرة من الليل، والأهل راضون (أو مرغمون) بما فرضته عليهم الظّروف ليحافظوا على كرامتهم وعزّتهم.  وهؤلاء الأطفال التّلامذة العاملون ذنبهم أنّهم وجدوا أنفسهم فجأة مرغمين على دخول سوق العمل وترك مساحة لعبهم واللهو مع أقرانهم. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ عددًا لا بأس به من هؤلاء لجأ إلى العمل وحاول الجمع بين الدّراسة والعمل، وعددًا آخر، ليس بقليل، أرغم على ترك المدرسة بسبب الظروف التي سبق ذكرها. ولربّما لكلّ عائلة ظروفها الخاصّة فيما يتعلّق بمستقبل أولادها، وإن لجأت معظم العائلات إلى التخلّي عن تعليم أطفالها لفترة معيّنة من الوقت ربّما لسنة أو أكثر ريثما تتحسّن الأوضاع المعيشيّة، لأنّ تكاليف العيش باتت شاقّة وصعبة على معظم العائلات لا سيّما محدودة الدّخل. ويترتب على ذلك تداعيات سلبيّة على المستوى التعليمي والاجتماعي والثقافي، عدا عن رمي شبابنا في ركب الجهل، لأنّ البعض منهم من التلامذة النّاجحين المواظبين الخلوقين الذين أرغمتهم الحياة على التخلّي عن حقوقهم، ومع ذلك يحاولون قدر استطاعتهم أن يؤدوا واجباتهم دون تكاسل أو إهمال ليحافظوا على وجودهم بين أصدقائهم، وليبقوا في نظر معلّميهم أكفاء. وما زاد من تفاقم المشكلة ظهور فئة من الأهل تشجّع أبناءها على ترك المدرسة واللّحاق بسوق العمل لما يجدونه للمال من قيمة وأهمية في الحياة، ودوافعهم لهذا العمل كثيرة ومبرّرة، وربّما يصدر ذلك أحيانا عن جهلهم في استشراف مستقبل أولادهم ورسم الطريق السّليم لهم، لأنّ استشراف المستقبل يجب أن يكون هدفًا عند الأهل، فيطلعون أولادهم على أهميّته وضرورته في بناء مستقبل ناجح. وليكن المال وسيلة من الوسائل التي ستساعد في بناء المستقبل لا هدفًا رئيسًا وفريدًا في الحياة.. وأنّ ما فرضته الأوضاع الحاليّة على تلامذتنا يجب أن يعوا أنّها مرحلة مؤقتة وعليهم التمسّك بالدّراسة لأنّها السّبيل الوحيد لرسم مستقبل زاهر ومشرق، فالتّعلّم هو السّلاح الوحيد للقضاء على الجهل والتخلّف.

إنّ عدم المعرفة في إدارة الأمور واستشراف مستقبل الأبناء المترافق مع سوء الوضع الاقتصاديّ  والسّعي إلى جمع المال وتصويره كمنقذ وحيد من الأزمة والمغيّر لأحوال النّاس والهدف المرجوّ من الجميع  وهو عصب الحياة، وفهمهم لقوله تعالى:” المال والبنون زينة الحياة الدنيا” (الكهف، الآية 46) بالتّشجيع على حبّ المال وجمعه، قد عزّز عند الناس حبّهم  للمال ودفعهم للاستغناء عمّا تعلّموه من الحياة وما سمعوه ٍممّن سبقوهم، ذلك” دفع بفئة واسعة من التّلامذة إلى الانقطاع عن التّعليم لا سيّما من هم بين 15 و18 عامًا من العمر”[8]، وهم الأكثر تأثرًا بما يسمعونه، ويبنون طموحاتهم وأحلامهم على ما يرونه أمامهم، وسيؤدّي ذلك حتمًا إلى كوارث اجتماعيّة  تربويّة إذا لم نتدارك الأمر، لأنّ المال بيد الأطفال وبمعزل عن رقابة الأهل وتوجيههم سيعرّضهم للكثير من المشاكل ويخلق لديهم الأزمات.

3- أسباب عمالة الأطفال الّتلامذة

الوضع الاقتصاديّ السيّئ في لبنان فرض ظروفًا صعبة على المواطنين، وقد ترافقت معه مجموعة من الأسباب التي دفعت بالتّلامذة إلى سوق العمل، منها:

1-  الفقر وهو من أهم أسباب عمالة الأطفال، والأحداث اللبنانيّة شكّلت حافزًا أساسيّا لزيادة نسبة هذه العمالة، إذ إنّ فئات كثيرة من النّاس لم تعد قادرة على تعليم كلّ أفراد أسرتها، وبقي البعض منهم دون تحصيل علميّ، فدفع بهم الأهل إلى سوق العمل باكرًا لمساعدتهم على إعالة بقيّة أفراد العائلة.

2- “ المستوى الثّقافي للأسرة له دور أساس في التّشجيع على العمل من أجل المساعدة في الإنفاق، ففائدة التّعليم غير معروفة لديهم؛ ٍ كما أنّ انتشار الفقر والأميّة بين الأهالي في بعض المجتمعات يساعد في التسرّب المدرسيّ لوجود حاجة إلى عمل الطّفل وللحصول على دخل يؤمّن احتياجات الأسرة.

3- عدم وعي الأهالي بالآثار السلبيّة والضّارّة النّاتجة من عمل الأطفال في سنّ مبكرة.

4- ارتفاع نسبة البطالة بين البالغين من الأهالي، ما يدفع بالأهالي لإرسال أولادهم للعمل لتوفر فرص أوسع لديهم.

5- انتشار بعض القيم الثّقافيّة التي تشجّع على عمل الأطفال في بعض المجتمعات.

6- المشاكل الماليّة والدّيون المتراكمة التي تعاني منها بعض الأسر، ما قد يدفع الأطفال للعمل لسدادها”[9].

إضافة إلى هذه الأسباب، فإنّ نسبة عمالة الأطفال ارتفعت بعد الأزمة الاقتصاديّة، لا سيّما طلاب المدارس الرسميّة، وبحكم إضراب الأساتذة الطويل في الآونة الأخيرة، لجأوا إلى العمل خلال هذه الفترة ومن ثمّ استمرّوا في العمل لأنّهم لاحظوا تحسّنًا في المصروف وارتياحًا في الدخل العائلي. ونعتقد أنّ هناك صعوبة سيواجهها الأهل والتّلامذة في حال تحسّن الوضع الاقتصاديّ وزيادة المداخيل فلا رجوع عن العمل، لأنّه كان مشجّعا للأهل ومغريًا لأبنائهم. وقد لوحظ في الآونة الأخيرة أيضًا أنّ عددًا ليس بقليل من موظفي القطاع العام يدفعون بأولادهم إلى سوق العمل لمساعدتهم في تأمين الإنفاق على الأسرة. ولنا في ذلك أمثلة كثيرة نواجهها في الثّانويات الرّسميّة، فأغلبية التلامذة (الذكور) مرتبطون بدوام عمل بعد الظهر، فتراه صاحب مسؤوليّة ولديه شخصيّة ثابتة في الدفاع عن أسرته وفي تبرير أسباب العمل، ولا يفوتنا ذاك الوعي الاجتماعيّ الذي يتحلّى به هؤلاء التّلامذة العاملون في حقول مختلفة من قوة في مواجهة الأزمة واستعدادهم للتغلّب عليها، فهم يحّدثونك عن الواقع المرير كما لو أنّهم رجال خبروا الحياة وتعرّفوا دهاليزها،  وربّما يكون ذلك من إيجابيات العمالة المبكرة، ويعود السّبب في ذلك إلى  تحمّلهم هذه الأعباء والمسؤوليّات  ودفعهم لسوق العمل  في سنّ مبكرة، واختلاطهم بالعالم من حولهم ومقارنة أوضاعهم بأوضاع آخرين، وفهم متطلّبات الحياة الصّعبة؛ ونحن نؤكّد أنّ هذا الوعي للواقع سببه الأوّل ما يسمعه ويتلقّنه الطّفل في أسرته، فبات يرى أنّ العمل أمر مشروع دون الالتفات إلى قانونيّته أو إلى انعكاساته عليه تعليميًّا واجتماعيًا و..

4- تداعيات عمالة الأطفال

ظاهرة تشغيل الأطفال هي ظاهرة غير قانونيّة من خلالها يعمل الأطفال من هم دون الثامنة عشر من العمر مقابل مبلغ من المال للحصول على حياة كريمة. لكن كرامة العيش قد يُخطط لها من آخرين للسقوط في فخ الاستغلال أو غيره ممّن يشجعون على الربح السريع والشهرة التي يدفع ثمنها الأطفال أولا ثم الأهل ولات ساعة مندم. هذا جانب من تداعيات عمالة التّلامذة الأطفال ونموذج من التّلامذة الذين يتأثّرون بوسائل التواصل، ويسعون للشهرة وكسب المال الوفير بشكل سريع.  وهناك نماذج أخرى أشدّ إيلامًا لبعض التلامذة الذين يحصلون على منح دراسيّة للتخصّص في الخارج بناء على معدّلاتهم الدراسيّة، لكن يفاجئنا الأهل بمعارضتهم للسّفر، لأنّهم أحوج إلى مدخول ولدهم، ولنا في ثانوياتنا نماذج على هذه الحالة، في الفترة الأخيرة، التي تقشعرّ لها الأبدان وتلين لها القلوب. إذ كيف للأهل أن يمانعوا ويحرموا ولدهم من حقّه في المنحة والتعلّم لأنّهم بحاجة إلى مدخوله؟ وهم أيضا بحاجته إلى جانبهم حيث تقع على عاتقه مهمّات معيّنة في الأسرة. وهنا نطرح سؤالًا: مَن الجهة المخوّلة إقناع الأهل بضرورة إكمال ولدهم لدراسته؟ وما الضمانات للأهل لقاء الّدخل الذي كان يضيفه الطّفل إلى مصروف الأسرة؟ هذا واقع مرير حقا، فالأهل بلا منازع يطمحون لتعليم أبنائهم، ويتمنّون لهم اختصاصات قيّمة لا سيّما في مجالي الطبّ والهندسة، ويدركون أهميّة ذلك، ويدركون أيضًا تكلفة هذه الاختصاصات في الجامعات الخاصّة في لبنان، لكنّهم هم أيضًا مرغمون على التخلي عن المنح الخارجيّة لأولادهم المتفوّقين بسبب صعوبة الوضع الماديّ الذي تعاني منه الأسرة، ِوالغصّة في الحناجر ريثما يتحسّن الحال.  هذا النموذج الأكثر تأثيرًا في ذاكرتي، ويتكرّر كلّ عام في ثانوياتنا، لأنّنا نرى كم من التّلامذة يسعون نحو المنح الدراسيّة ويجهدون أنفسهم؛ بالمقابل هناك ممّن تقدّم له ويرفضها الأهل لأنّهم يعتمدون في معيشتهم على ما ينتجه أولادهم القاصرون ويقدّمونه لهم. ولكن أيّ مستقبل ينتظر هؤلاء التلامذة؟ هؤلاء الذين فضّلوا الوقوف إلى جانب أهاليهم على حساب تعلّمهم وتأمين مستقبلهم. فأيّ طفل هذا الذي يتحمّل كلّ هذه الأزمات؟ وأين حقوق الطفل التي تنادي بها القوانين والمواثيق الدوليّة؟ فلنضرب بها عرض الحائط إذا لم تطبّق في مجتمعاتنا، ولم تحترم الإنسان، ولم تبالِ بأوضاع طلابنا الأبرياء الذين يدفعون ثمن جريمة لم يرتكبوها.

إنّ تداعيات عمالة التلامذة الأطفال وخيمة، فمخاطرها تكمن في نوع العمل الذي يقومون به. وهي أعمال متنوّعة سبق وأشرنا إليها لكن أشدّها خطرًا ما يتمّ عبر الانترنت الذي يسرق وقتهم وبراءتهم وطفولتهم التي لم تنضج بعد، فعالم الانترنت عالم مبهم يحمل في طيّاته خفايا لا يدركها الطّفل التّلميذ لكنّها تسيطر على عقله وتفكيره وتغيّر في مسار حياته وتأخذه إلى أمور ليست بالحسبان، فيحصل ما لا تحمد عقباه. أضف إلى أنّ عددًا كبيرًا من الأطفال يعملون (أونلاين) دون مراقبة أهاليهم، وهو أمر مقلق. فالمال بيد الأطفال يدفعهم إلى أمور كثيرة ومغريات لا تعدّ، وما أكثر المشجّعين الحقيقيين والافتراضيين على ذلك، وأخطر المغريات هو ترك المدرسة، ونسيانها لما فيها من صعوبة والتزامات وهدر للوقت وتقزيم للّعب واللّهو مع الرّفاق وبُعد عن وسائل التواصل وغيرها الكثير، إضافة إلى مخاطر أخرى. ولا أجد ضرورة للدخول في أتون الابتزاز والاستغلال وغيرها من الأمور المغرية للأطفال.

أ- تداعيات العمالة على صحّة الطفل وأسرته:

– عدم قدرة التّلميذ على متابعة دروسه بشكل جيّد.

– الإرهاق الجسدي الذي نلحظه في سلوكه في الفصل الدّراسيّ يترافق مع عدم قدرته على التجاوب مع المعلّم أو المشاركة في الشّرح والاستنتاج، ناهيك عن غفوته في أثناء الدرس فيغطّ في النّوم بسبب الدوام الليليّ الذي فُرض عليه. فبدل أن يكون بين أهله يقوم بواجباته المدرسيّة ويتلقّى الّرعاية اللّازمة من والديه مع تأمين حياة مريحة له وجوّ دراسيّ سليم، نراه يصارع الحياة للتغلّب على الحاجة. وما ساعد في ذلك هو وسائل التواصل الاجتماعيّ التي شجّعت على العمالة وربطت ذلك بجني المال الذي يؤمّن السّعادة الأبديّة حسب زعمهم، وقد بات هذا الفكر مرتبطًا بمفهومهم للحياة. وما بين جني المال والعوز اختار الأطفال المال سعيًا نحو حياة أسهل وأكثر راحة، وهذا ما أثّر سلبًا على فكر التّلامذة واستهواهم، فالسّماح بالعمالة لتلامذة المدارس سيخلق جيلًا على حافة الهاوية.

ولم تنحصر تداعيات عمالة التلامذة الأطفال في جوانب محدّدة من الحياة، بل يعمل التلامذة في العديد من المجالات المختلفة، وتختلف آثارها باختلاف الأعمال التي يقومون بها، ولكنّها بالمجمل تعود عليهم بأضرار عديدة، ولا سيّما الجانب الصّحي في المستقبل البعيد، بالإضافة إلى الإرهاق والأذى النفسيّ اللّذين يلحقان به. ولا ننسى مخاطر استخدام بعض الأدوات الحادّة في العمل أو حمل الأوزان الثّقيلة وغيرها…

ب- تداعيات العمالة على المجتمع:

كما ويتأثّر الجانب الاجتماعيّ بشكل سلبيّ للأطفال العاملين، فبدلًا من قضائهم مرحلة الطّفولة باللّعب مع غيرهم من الأطفال، والاستمتاع مع أفراد عائلاتهم، والتفاعل مع الآخرين بطريقة سليمة وصحيحة، فإنّهم يقضون الكثير من الوقت في العمل ما يؤدّي إلى ضعف قدراتهم على التواصل الاجتماعي مع الأسرة والمجتمع، إلى جانب ضعف كبير في بناء شخصيّاتهم وانخفاض ثقتهم بأنفسهم. وقد انتشرت ظاهرة العمالة بشكل كبير بسبب الحاجة والعوز بالدرجة الأولى، فشكّلت تهديدًا على حياة الأطفال. ولكن الأشد خطرًا هو التسرّب المدرسيّ، الذي طال بشكل مباشر تلامذة المرحلة الثّانويّة؛ ونحن نعلم خطورة هذه الظّاهرة، فترك الطّفل للمدرسة يؤثّر بشكل كبير على تعلّمه وتطوّره العلمي والعاطفي، فيشعر بأنّه يفقد احترامه لنفسه، ويقلّل من ارتباطه بعائلته، ومن الّصعب تقبّله من الأطفال الآخرين. وكذلك تطوّره الاجتماعيّ والأخلاقيّ، فيصبح لدى الطّفل رغبة في الانتماء للجماعة أو التعاون مع باقي الأشخاص. ولم ينحصر التأثير السّلبي للعمالة بهذه الأمور فقط، بل له آثار سلبيّة اقتصاديّة على نموّ المجتمع على المدى البعيد، إذ يمكن أن تعاني المجتمعات التي ترتفع فيها نسبة عمالة الأطفال من فقد التوازن المجتمعي بسبب ارتفاع نسبة العمالة غير المتعلّمة، ما يحدث تدنّيًا في مستوى الإنتاج وجودة السّلع المنتجة، لذا لا بدّ من السّعي للحصول على جيل جديد قادر على تحدّي الصّعوبات بهدف السّعي للحصول على إنتاجيّة أفضل في المستقبل، ويكون ذلك من خلال إرسال الأطفال لتلقّي التّعليم فضلا عن تشغيلهم، حيث سيكون لهم دور فاعل عند تلقّيهم التّعليم المناسب؛ الأمر الذي قد يرفع من إنتاجيّة وجودة السّلع على المستويين المحلّي والدّوليّ.

ج- تداعيات العمالة على المستوى التّعليميّ:

وللعمالة المبكرة أيضًا تأثير على المستوى التعليميّ للتّلامذة، إذ يقضي الّتلميذ معظم وقته في العمل بدلًا من تخصيصه للدّراسة ما يشكّل عبئا عليه، ويسبّب له التّعب والإجهاد وذلك يضعف من قدرة الطّفل على متابعة تعليمه، وقيامه بالنّشاطات الدّراسيّة والأكاديميّة، والاندماج بالبيئة التعليميّة، وعدم قدرته على التوفيق بين المدرسة والعمل، ما يخلق لديه شعورًا بالقلق وضعفًا في التّركيز وتدنيًا في أدائه المدرسيّ وربما انقطاعه عن التّعلّم، وهذا ما شهدناه  في المرحلة الأخيرة مع مجموعة لا بأس بها تركوا المدرسة بعدما شعروا بقيمة المال في انتشالهم من واقعهم المرير وانطلقوا للعمل، وإن كان بثمن زهيد، لكنّه يساهم في إنعاش العائلة فيشعر التّلميذ بشيء من الراحة إذا ما لاحظ أنّ الأهل مرتاحون وراضون. ولم يمض وقت طويل حتى يجد التّلامذة العاملون أنفسهم قد دخلوا ميدان العمل وأصبحوا جزءا منه بعدما كان موسميّا في أغلب الأحيان، وفي هذه الحالة يشعر التّلميذ أنّ فرصته في العودة إلى المدرسة قد تقلّصت، فسرعان ما يصبح العمل الذي اعتاد عليه أسلوب حياة، وفيما بعد يصبح من الصّعب التّخلّي عنه.

كما يغفل بعض الأهل الآثار السلبيّة لتشغيل أطفالهم على المدى البعيد، فقد تتعارض عمالة الأطفال مع تلقّيهم التّعليم في المدارس، إلى جانب افتقارهم إلى القدرة على رفع الإنتاجيّة وزيادة أرباحهم المستقبليّة، ما يعني انخفاض الدّخل المستقبلي لأسرهم الأمر الذي سيؤدّي إلى انتشار الفقر وزيادة احتمالية تشغيل أطفالهم في المستقبل.

د- تداعيات العمالة على المستوى النّفسيّ للطّفل:

وما بين الفقر والحرمان تكبر معاناة الأطفال، ويتردّد على مسامعنا ما نسمعه من أفواه تلامذتنا “أنا مضطرٌ للعمل لكي أعيش”. فحرمان الأطفال من طفولتهم يعرضهم للمس بكرامتهم وإمكاناتهم كما يعيق قدرتهم على التمتّع بحقوقهم كافّة. وقد يترك ذلك آثارًا تلازم الطّفل بقيّة حياته على المستويين النّفسي والجسدي. فما الشعور الذي يراود كلّ تلميذ ترك المدرسة خارج إرادته، وهو يعمل بعد الظهر في أماكن يرتادها معلّموه أو رفاقه؟ ماذا عساه يقول؟  وبمَ يشعر عند مشاهدتهم له في أماكن ليست له؟ فلا غرو في أنّه شعور مؤلم جدًا، لا سيّما عند مشاهدته لرفاقه يواظبون على النّوادي الرياضيّة وقت فراغهم، أو يلتقون بالرّفاق، أو يزورون الأصحاب والأقارب برفقة أهاليهم، أو يقصدون منتدى أو مسبحًا أو استراحة لتناول كوب من العصير، فيما صديقهم يعمل بهذه الأماكن. تُرى أية حياة يحياها هذا الطفل؟ وأيّة معاناة؟ وأيّة مشاعر تلك التي تراوده؟! أليس لدى هؤلاء التّلامذة العاملين طموحات وأحلام يسعون إليها أو يتمنّون تحقيقها؟ مَن يدفن تلك الطموحات ويمحو تلك الأحلام ويحطّم الآمال؟ فمستقبل الأطفال إلى أين؟ وممّا لا ريب فيه، أنّ هؤلاء التّلامذة سيواجهون مشاكل نفسيّة كالاكتئاب، لأنّ الأغلبيّة تعمل لساعات طويلة ولا وقت للّراحة لديهم، وهم عرضة أكثر من غيرهم لاكتساب عادات سيّئة وغير سليمة منها الإدمان على المخدرات، وهي معضلة شائعة اليوم في مجتمعاتنا لا سيّما في صفوف الشّباب المراهقين،  إضافة إلى تعرّضهم للتنمّر والمضايقات والرّفض من بعض زملائهم  في المدرسة،  وربّما أقاربهم إلى جانب عدم تلقّيهم لمعاملة عادلة ما يؤدّي إلى تنمية العزلة الاجتماعيّة لديهم، وضعف روابطهم العاطفيّة، وإمكانيّة ممارسة سلوكيّات غريبة أحيانا كإحداث الفوضى في الصّف و عدم احترامهم لمعلّميهم والاكتراث لكلامهم، وخطيرة أيضا  كالجرائم. كلّ ذلك سببه العمالة المبكرة وعدم نيل الطفل حقوقه والاستخفاف بها من الأهل، وعدم احترام خصوصيّاته، وغيرها من الأسباب التي تنعكس سلبًا على سلوكه فيصبح عدوانيًّا.

5-  مقترحات وحلول

إنّ استمرار ظاهرة العمالة وتسارعها بهذه الوتيرة ينبئ بخطر كبير يهدّد الأطفال ومستقبلهم والمجتمع بأسره. وبعد أن عرضنا لبعض أسباب تشغيل الأطفال التّلامذة دون السّن القانونيّة ولتداعياته، نسأل هل من حلول مقترحة للحدّ من تفاقم هذه الظاهرة أو منعها؟

إنّ من أهم الأمور التي يجب الالتزام بها للحدّ من عمالة الأطفال هي التزام المعنيين بالحد الأدنى لسن القبول في العمل، والأهم التّعليم الإلزامي كما نادى به المركز التّربويّ للبحوث والإنماء، وذلك لإبعاد هؤلاء الأطفال عن كلّ ما يسبّب لهم الخطر على حياتهم. أمّا التلامذة العاملون دون السن القانونيّة فيجب إبعادهم عن التشغيل المبكر وإعادتهم إلى أماكنهم الطبيعيّة بين رفاقهم وزملائهم على مقاعد الدّراسة، ولينعموا بحقوقهم كاملة كما بقيّة الأطفال، وكما تنصّ القوانين والتّشريعات. وهنا تقع على عاتق الأهل مسؤولية كبيرة، ونحن نقدّر هذا الأمر، ونعلم أنّ هناك أسرًا بحاجة ماسّة إلى من يعيلها في تأمين قوتها. ومن هنا تبدأ المشكلة في كيفية تأمين مستلزمات العيش لهذه الأسر في ظل أوضاع معيشيّة صعبة للغاية، وهم بأمس الحاجة لعمل أبنائهم لأنّهم يسدّون ثغرات كثيرة من حاجات أسرهم.

ونشير إلى أنّ هناك مبادرات عديدة ومتنوّعة طُرحت لحل مسألة تشغيل التّلامذة في سنّ مبكرة على حساب متابعتهم لدراساتهم وهي كثيرة ومتنوّعة، منها الفرديّ ومنها ما يتم عبر جمعيات وخيّرين ومؤسسات وما شابه ذلك.  وقد   بدأ العمل على محاولة الحد من انتشار هذه الظّاهرة الخطرة “منذ اعتماد اتفاقيّة منظمة العمل الدّوليّة ( international labor organization) اختصارًا (ILO) المتعلّقة بأسوأ أشكال عمالة الأطفال 1999م؛ حيث تمّ اتّخاذ مجموعة من الإجراءات المهمّة لمعالجتها، وعلى الرغم من ذلك لا تزال هذه الظاهرة سائدة في معظم أنحاء العالم”[10]. وقد عمد البعض إلى إيجاد حلّ لهذه الظّاهرة بالاتفاق على اليوم العالمي لمحاربة تشغيل الأطفال، لكن ليس هناك من حسيب أو رقيب، ولم نسمع يومًا، في لبنان، على وجه الخصوص بمحاسبة مرتكبي هذه الجرائم ضدّ الأطفال، بل نشهد ازديادًا في أعداد الأطفال، وقد انضمّ إليهم في الآونة الأخيرة تلامذة المدارس الرّسميّة.

وعلى الرغم من الجهود الحثيثة التي بُذلت من أجل توفير بيئة حاضنة لهؤلاء الأطفال لا سيّما التّلامذة العاملين، والذين يجمعون بين التعلّم والعمل من تأمين المستلزمات المدرسيّة من كتب وقرطاسيّة وألبسة مدرسيّة، إن كان من الجهات الدّاعمة كاليونيسيف أو من القوّات الدوليّة التي تدعم في كثير من الأحيان مدارس رسميّة معيّنة، وتقدّم لها مساعدات عينيّة لتيسير أمور التّلامذة وغيرهم، إلا أنّها تبقى جهودًا ناقصة، لأنّ التّلامذة العاملين ما زالوا مستمرّين في العمل.  فالوضع يفوق إمكانية هؤلاء المساعدين ليشمل أوضاع الأسر التي تحتاج إلى مساعدات مستمرّة وفاعلة تغنيهم عن تشغيل أبنائهم، أو تضطرهم للتغيّب عن المدرسة من أجل إكمال العمل خوفًا من حسم في الأجرة كعقاب له على التّأخير أو الغياب أو غيرها من الأمور التي تكون سببًا في حسم الأجرة.

وهناك حلول فرديّة تُدرج في لائحة الحدّ من عمالة الأطفال والتي يمكن للأفراد تقديمها للمجتمع من أجل المساعدة، منها: التبرّع بمبالغ ماليّة من أجل دعم الأسر المتعفّفة، والمبادرة إلى رعاية الأطفال المرغمين على العمل، أو الذين دخلوا مجالات العمل، وذلك من خلال التّكفّل بدراستهم. وهذا حتمًا سيساعد في تخفيف الأعباء وبناء مجتمع سليم، كما يهيّئ الأطفال جيّدا قبل دخولهم مجال العمل. والتواصل مع الأهل والإدارات المدرسيّة يساهم في دعم هؤلاء الأطفال ومساعدتهم لتخليصهم من هذا العمل وإرجاعهم إلى المدارس حتى يكملوا تعليمهم، وكذلك في توعية المجتمع من مخاطر عمالة الأطفال، وذلك من خلال العروض التقديميّة في عدد من المؤسّسات، مثل: الجامعات والمنظّمات المحليّة؛ إذ تؤثّر هذه الطريقة في زيادة الوعي لدى الجميع حول ظاهرة تشغيل الأطفال وتشجعيهم على الالتزام بالعمل الإيجابيّ السّليم.

وهناك حلول أسريّة، والأسرة جهة مسؤولة مباشرة عن تشغيل الأطفال، فهي الأساس في دفعهم للعمل، وفي حال إيجاد حلول لتحسين حال الأسرة، فمن المؤكد “بأنّها لن تلقي بأطفالها نحو العمل”[11]. وهي حلول تسهم في تحسين وضع الأسرة لتصبح قادرة على رعاية الأطفال وحمايتهم، منها:

-معالجة الفقر الذي تعاني منه الأسر والذي يؤثّر سلباً على تعليم الأطفال ورعايتهم.

-التخلّص من مشكلة البطالة للكبار لنضمن عدم تشغيل الأطفال، فعندما لا يحصل الأبوان على عمل يكفي متطلّبات الأسرة يستعينان بأطفالهما وغالبًا ما يتوفّر العمل للصغار قبل الكبار بأجور متدنّية.

-معالجة مشكلة تدنّي مستوى الدّخل، إذ بات الأبوان غير قادرين في الوقت الحالي على تأمين أدنى متطلّبات أطفالهما.

-ضرورة وجود شبكة اجتماعيّة آمنة وفاعلة، قادرة على تأمين الأسر بمصدر بديل للدّخل في حال عدم الحصول على العمل، وذلك تجنّبًا لدفع الأطفال نحو العمل من أجل المال والتّكفّل بالأسرة.

ومنذ زمن طويل يسعى المجتمع الدّوليّ للحدّ من ظاهرة تشغيل الأطفال وحمايتهم، وقد تبيّن ذلك من خلال “مجموعة من القوانين والاتّفاقيات التي صدرت خلال سنين متواصلة وحتى وقتنا الحالي، ويدرج فيما يأتي عدد من هذه القوانين والمبادرات والاتّفاقيات:

  • صدور قانون معايير العمل العادلة عام 1938م(FLSA)، وهو أحد قوانين العمل في الولايات المتّحدة الأمريكيّة.
  • صدور اتفاقيّة الحد الأدنى لسنّ العمل عام 1973م، وقد صادقت عليها 172 دولة عالميًا.
  • صدور اتفاقيّة حقوق الطّفل عام 1989م.
  • تأسيس البرنامج الدوليّ للقضاء على عمل الأطفال(IPEC).
  • إصدار اتفاقيّة أسوأ أشكال عمل الأطفال والتي صادقت عليها 186 دولة في العالم، وذلك عام 1999م.
  • إعلان الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة بأنّ عام 2021 هو العام الخاص بالقضاء على عمل الأطفال”[12].

كما أنّ هناك بعض الطرق العلاجيّة التي يمكن أن تساعد في تفادي ظاهرة تشغيل

  • التلامذة الأطفال بعد الدوام المدرسيّ، بعدما ازدادت أعدادهم في السّنوات الأخيرة، وأدّى إلى تدنّي المستوى الدّراسيّ. ومن هذه الطّرق: تفعيل القوانين والعقوبات على أرباب العمل ليتمّ تحسين الظّروف المعيشيّة لهؤلاء الأطفال، ومتابعة الأطفال في المدارس، ونصحهم بعدم ترك الدّراسة الأكاديميّة وغيرها.

الخاتمة

صفوة القول، إنّ عمالة الأطفال ظاهرة اجتماعيّة وإنسانيّة قديمة، وقد اعتادت الشعوب الفقيرة على تشغيل أولادها دون تردّد أو تعنّت، سواء أدركوا أم لم يدركوا تأثيراتها السّلبيّة على أطفالهم وجهلهم بالأعباء التي تثقل كاهلهم وتستغلّهم. كلّ ذلك تفاقم بعد الأزمة الاقتصاديّة التي حصلت مؤخّرا لا سيّما في لبنان، والتي شجّعت بدورها التّلامذة دون سن الثاّمنة عشر على العمل في دوامات ليليّة، أو بعد الانتهاء من المدرسة. فتدهور الوضع الاقتصاديّ في البلاد أثّر سلبًا في الوضع التربوي، فشهدنا تسرّباً مدرسيّا كبيرًا. وإنّ توجّه طلابنا نحو العمل ترافق معه تقصير وإهمال وغيرهما ما أحدث خللًا في المسيرة التّعليميّة للطّفل. والجدير بالذكر، أنّ العاملين من التّلامذة توزّعوا بين إناث وذكور لأسباب عديدة: كالفقر وتدنّي المستوى الثقافي للأسر، وعدم وعي الأهل للآثار السلبيّة للعمالة، إضافة إلى المشاكل الماديّة والدّيون وغيرها الكثير. فظاهرة تشغيل الأطفال هي ظاهرة غير قانونيّة آذت التّلامذة ووضعتهم في مواجهة مع الأزمة، فحُمّلوا فوق طاقتهم.. لذا، كان للعمالة تداعيات شتّى وخطيرة، على مستويات متعدّدة، صحيةّ، اجتماعية، أسريّة، تربويّة، سلوكيّة، نفسيّة، تعليميّة…ولكن الأشد خطرًا هو التسرّب المدرسيّ. أمّا الحلول التي اقترحت للحدّ من تفاقم عمالة الأطفال، وبناء على القوانين والتّشريعات الدّوليّة، فلم توفّق في علاج هذه الظّاهرة رغم الجهود المبذولة، فتطبيق هذه التّشريعات يتطلّب التّضحيات والمساعدات والدّعم المالي الكافي للأهل، وتأمين البدائل من أجل الارتقاء بالمستوى الأكاديميّ والاجتماعيّ، وصولًا لمجتمع راق وواعٍ لما يدور حوله. ولكن هل يمكن لبلد مثل لبنان الذي يعاني اليوم من أزمات متنوّعة أن ينجح في إعادة التّلامذة إلى مدارسهم ومساندتهم للتّخلي عن العمل لصالح التعلّم؟ وهل يضمن مستقبلهم في الدّراسة والتخصّصات الجامعيّة التي باتت عبئا ثقيلا على الأهل لارتفاع الأقساط وصعوبة تأمين السّكن وارتفاع أجرة النّقل من الجامعة وإليها؟

 

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

1 – ابن منظور، لسان العرب. ج11، ص476.

2- الأزهري، محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي أبو منصور. تهذيب اللغة، تح: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي/ بيروت، ط1، 2001م.

3-الدويكات، سناء. مايو 2020ظاهرة تشغيل الطفال. موقع ” موضوع”.

4-  اليونسف، البحث عن الأمل، نظرة قاتمة لشباب وشابات لبنان الذين يتأرجحون عند حافة الهاوية/ لبنان، 27 كانون الثاني 2022مم.

5- برجاوي، نعيم. أيلول 2022، كلفة التعليم.. كابوس نالي إضافي يؤرق اللبنانيين/ موقع الأناضول.

6- حسن، عباس(ت:1398ه) النحو الوافي (3/196)، ط15، ج4، دار المعارف.

7- كاظم، سميرة عبد الحسين. 2023م، عمالة الأطفال في العراق: الأسباب والحلول.

 

8-Child labour, unicef.  in, Retrieved 4-3-2020. Edited.

9-Eric Edmond, 2019, Child labour:  causes, consequences and policies to tackle it, p: 14, 24. Edited.

 

10-Kathryn Reid, 22-6-2021, Child Labor; Facts, FAQS, and how to help end it, World Vision, retrieved 22-1-2022, Edited.

 

 

 

 

[1]  بتول عبد الله يوسف باحثة لبنانيّة تعدّ أطروحة الدكتوراه في اللّغة العربيّة وآدابها في الجامعة الإسلاميّة، بإشراف الدكتور علي نسر، وحائزة على شهادة الماجستير، الفرع اللغويّ من الجامعة اللّبنانيّة. والأطروحة موسومة بعنوان:” العزوف عن النّحو في المناهج اللّبنانيّة في المرحلتين المتوسّطة والثّانويّة”. وأستاذة في التّعليم الثّانويّ الرّسميّ منذ عام 2000م.

 

[2] الدويكات، سناء. مايو 2020ظاهرة تشغيل الطفال. موقع ” موضوع”.

[3] ابن منظور. لسان العرب، ج11، ص 476.

[4] الأزهري، محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي أبو منصور. تهذيب اللغة، تح: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي/ بيروت، ط1، 2001م.

[5] ابن منظور، لسان العرب. ج11، ص476.

5 حسن، عباس(ت:1398ه) النحو الوافي (3/196)، ط15، ج4، دار المعارف

[7] برجاوي، نعيم. أيلول 2022، كلفة التعليم.. كابوس نالي إضافي يؤرق اللبنانيين/ موقع الأناضول.

[8] اليونسف، البحث عن الأمل، نظرة قاتمة لشباب وشابات لبنان الذين يتأرجحون عند حافة الهاوية/ لبنان، 27 كانون الثاني 2022مم.

[9] Child labour, unicef.  in, Retrieved 4-3-2020. Edited.

[10] Eric Edmond, 2019, Child labour:  causes, consequences and policies to tackle it, p: 14, 24. Edited.

[11] كاظم، سميرة عبد الحسين. 2023م، عمالة الأطفال في العراق: الأسباب والحلول.  ص26بتصرّف.

[12] Kathryn Reid, 22-6-2021, Child Labor; Facts, FAQS, and how to help end it, World Vision, retrieved 22-1-2022, Edited.

عدد الزوار:32

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى