حضور الرّمز وأثره في شعر فدوى طوقان قصيدة ” لن أبكي” أنموذجًا
حضور الرّمز وأثره في شعر فدوى طوقان قصيدة ” لن أبكي” أنموذجًا
Presence of the Symbol and it’s Effecs on Fadwa Tuqan’s poetry
“I will not cry” as a model
زهر عبد الرحمن عميري
Zeher abdulrahman Amiry
تاريخ الاستلام 12/6/2024 تاريخ القبول 25/6/2024
الملخص
يتتبع هذا البحث ظاهرة الرّمزيّة وتطوّرها وتحديد أصولها النّظريّة، بالإضافة إلى المفاهيم الجديدة التي طرحتها، مثل الإيحاء وغموض الشّعر ووسائل تحقيق التجديد في الشّعر. كما يتناول تجليّات الرّمزيّة ومفاهيمها في الشّعر العربيّ الحديث وتأثره بها من خلال تسليط الضوء على بعض الرّموز الواردة في قصيدة الشّاعرة الفلسطينية “فدوى طوقان”، بهدف تبيان قدرتها على إثارة مشاعر المتلقي، وكيفية استخدامها للصّورة المعقدة للإيحاء بمضمراتها. كما اشتمل البحث على خاتمة أوضحت فيها أهم النتائج التي توصلنا إليها، فضلًا عن قائمة المصادر والمراجع.
الكلمات المفاتيح: الرّمزيّة، الشّعر العربيّ الحديث، فدوى طوقان، تجليّات، غموض الشّعر
Abstract
This research attempts to trace symbolism phenomena and it’s development, and determine it’s theoretical origins, in addition to the new concepts it proposed, such as inspiration and ambiguity and the means of achieving innovation in poetry. It also attempts to study the manifestations of symbolism and its concepts in modern Arabic poetry and the extent to which it is influenced by it by highlighting some symbols in the poem of the Palestinian poet Fadwa Tuqan, in order demonstrating their ability to stimulate the feelings of the recipient. And the way she used complex images to indicate hidden meanings . The research also included a conclusion in which explained the most important results we reached, in addition to a list of references and sources.
Key words: symbolism, modern Arabic poetry, Fadwa Tuqan, manifestations, ambiguity.
المقدمة
التّعريف بموضوع البحث
مما لا شك فيه أن انفتاح الأدب العربيّ عامةً والشّعر العربيّ بخاصةً على الثقافة الأوروبيّة كان له أثرٌ واضح في ظهور مذاهب أدبيّة جديدة، ولعل أبرزها المذهب الرّمزيّ الذي كان من أكثر المذاهب شيوعًا وانتشارًا في العالم العربيّ، وكان له أثره البارز على نتاج كثير من شعراء العصر الحديث. وتعدُ قصيدة “الكوليرا” للشاعرة العراقيّة “نازك الملائكة” بداية انطلاق الشّعر الحديث، كما شكّلت أيضـًا تمرُّدًا على القيود التي كانت تفرضها البحور الشّعريّة في نظام الشّطرين والابتعاد عن التّكلّف والتّعقيد، مواكبةً لروح العصر ومتطلّباته، محاكيةً معطيات الواقع بطريقة سلسة ومرنة. فالرّمزُ ظاهرةٌ جديدةٌ في التّجربةِ الشّعريَةِ الحديثةِ، إذ لجأ إليه العديد من شعراء القرن الماضي واستخدموه في أشعارهم بُغية إغنائها وتحميلها إشارات ودلالات لنقل تجربتهم الإنسانية بمختلف جوانبها. ولقد ابتعد أصحاب هذا المذهب من المباشر في التّعبير إلى استخدام الرّموز وما يُعرف بتراسل الحواس “فتعطي المسموعات ألوانًا وتصير المسموعات أنغامًا وتصبح المرئيات عاطرة لتوليد إحساسات تُغني بها الّلغة الشّعرية ولا تستطيع الّلغة الوصفيّة التّعبير عنها” (غنيمي،1892، ص412) وصاحب هذه الفكرة شارل بودلير في قصيدته “تراسل”، والهدف من هذه الوسيلة الفنيّة هو التّوحيد بين الحواس حتى يستطيع الشّاعر أن يتخطّى العالم الخارجيّ في ولوجه للعالم الدّاخليّ الذي هو هدفه المنشود.
ولقد أصبح توظيف الرّمز سمةً مشتركة بين غالبية شعراء القصيدة الحديثة، لما يُسهم ذلك من تعميق في المعنى والارتقاء بشعريّة القصيدة للتّأثير في نفس المتلقي. فغَرفَ الشّعراء من مناهل الرّمز صورًا فنيّة وإشارات ذات دلالات مختلفة لإضفاء جماليّة خاصة وروح تجديديّة على أعمالهم. ومن روّاد هذه الحركة في عالمنا العربيّ نذكر كلًّا من نازك الملائكة والسّياب وخليل حاوي ومحمود درويش وفدوى طوقان وغيرهم الكثير، وتبقى لكل شاعر طريقته في استعمال الرّمز والدّلالة التي يرغب في تحميله إياها. وهذا ما سنعالجه لاحقًا في حديثنا عن الرّمز عند الشّاعرة الفلسطينية فدوى طوقان.
الإشكاليّة
يُعدُّ الرّمز في الشّعر الحديث من التّقنيات التي يكثر استخدامها في القصائد الشّعريّة، وظهر ذلك عند فدوى طوقان بكثرة في قصائدها لا سيما تلك التي نظمتها بعد حرب 1967 كونه وسيلة اعتمدتها الشّاعرة للإيحاء والتّلميح بدل المباشرة والتّصريح، فمن خلاله تنتقل بالقارئ من المستوى المباشر للقصيدة إلى المعاني والدّلالات الضمنيّة التي تكمن وراء الكلمات، والرّمز يُعبّر عن مكنونات النّفس ويفصحُ عما تعجز الّلغة العاديّة التقريريّة عن تبيانه، كما يحمل الرّمز قوةً كامنةً تخترق مشاعر المتلقي وتتغلغل فيه لتلامس وجدانه، إضافةً إلى الجماليّة الشّعريّة التي تستقطب ذهن المتلقي وتحثّه للغوص في أعماقه واستنباط الدّلالات التي يحملها، وهذا ما سنتناوله في بحثنا الهادف إلى دراسة الرّمز ومرامية وغاياته عند الشّاعرة فدوى طوقان في قصيدتها “لن أبكي” أنموذجًا للدراسة منطلقين من عدة تساؤلات وهي:
– هل استطاعت الشّاعرة ملامسة وجدان الملتقي وتحفيز مشاعره من خلال الرّموز التي استعانت بها لاكتناه ما تحمله من أفكار؟
– وإلى أي مدى أثر أدب الشّاعرة المقاوم في العدو؟
– وهل كانت الرّموز ذات دلالات بسيميائيتها قادرة على استنهاض همّة أبناء وطنها وإيقاظ جذوة الوطنيّة لديهم؟
وللإجابة عن هذه التّساؤلات لا بد لنا من الإضاءة على الرّموز الواردة فيه، ومحاولة استنطاق النّص والبحث في دلالاته بُغية الوصول إلى كنهها.
المنهج
يعتمد هذا البحث على المنهج السيميائيّ، “فالسّميائيّة هي علمُ دراسة الإشارات / العلامات، وكلّ ما ينوب عن شيء، وكيفية صناعة المعنى، وتمثيل الواقع بالأصوات والحركات ولغة الجسد والمرئيات والإشارات، سواءً أكانت إرادية واعية كإشارات السير، أم لا إرادية كعوارض المرض، أم غير ذلك. وهي ذلك العلم الذي يبحث في أنظمة العلامات، سواءً أكانت لغويّة أم أيقونيّة أم حركيّة، التي تنشأ في حضن المجتمع (جرجور؛ لبّس 2020،ص 80).
وبناءً على ما تقدم، ارتأينا أنّ هذا المنهج سيساعدنا على الغوص في أعماق المعاني واختراق جُدرِ رموزها، للوصول إلى الدّلالة. وقدم ريفاتير(Riffuterre) في كتابة سيمائيّة الشّعر مفهومه لِلُغةِ الشّعر الذي افترض أن تكون بعيدة من المتداول لتخيِّب ظنّ القارئ، وتثير دهشتهُ، وتترك له مساحةً واسعةً للتوقّع. وحدّد دراسة النّص الأدبيّ باعتباره نتاجًا خطابيًّا أساسه العلاقة الجامعة بين المرسل والملتقّي، متأثرًا بنظريّة جماليّة التلقيّ، كما هو جليّ عند إيزر (Iser) وياوس (Jauss). إضافةً إلى دراسة خصائص اللّغة الشّعريّة ومفرداتها وأسلوبيّتها وموضوعاتها.
الرّمزيّة وخصائصها في الشّعر العربيّ الحديث
ظهرت الرّمزيّة كردّ فعلٍ على الرّومانسيّة والبرناسيّة ولم يُعرف مصطلح “الرّمزيّة” إلّا في العام 1885م، وذلك في مقالة للفرنسيّ جان موريس John Morris)). والرّمزيّة اتجاه ظهر في الشّعر في فرنسا وازدهر في الخمس عشرة سنة الأخيرة من القرن التّاسع عشر، وهو يصوّر حياة الشّاعر الدّاخليّة ويجعل مما يرونه في العالم رمزًا للحالات النّفسيّة ( المذهب الرّمزيّ، alukah.net). ولقد برز تأثير هذا المذهب واضحًا في نتاج الشّعر العربيّ الحديث.
وتمتاز الرّمزيّة بالعديد من السّمات التي تُمكن القارئ من فهم القصيدة ذات الطابع الرّمزيّ، ومن أهم تلك السّمات ما يلي:
1- الوحدة العضويّة للنّص الأدبيّ: حيث تصبح القصيدة جزءًا كاملًا متكاملًا لا يتجزأ، ومن الصّعب قطع جزء من القصيدة عن بقيّة الأجزاء.
2- الاستلهام من التّراث: يعتمد المذهب الرّمزيّ على توظيف الأساطير المختلفة والتراث الأدبيّ والدينيّ والتاريخيّ للتعبير عن أفكار معيّنة تتناسب مع الأسطورة أو القصة أو القصيدة.
3- الغموض وتعدد المعاني: إنّ أحد أهداف الرّمزيّين في الشّعر الوصول إلى العمق، وهذا يجعل النّوع الأدبيّ مبهمًا وغامضًا، ويظهر الغموض من خلال التّناغم الموسيقيّ بين الألفاظ والتّراكيب والدّلالات التي تعطي النّص معاني مختلفة.
4 – اللّجوء إلى الحدس الشّعريّ. إنّ الشّعر عند الرّمزيّين يؤدي إلى الانفعال المزدوج بالقلب والعقل الذي لا يعتمد على نظام الكلام أو وزنه، فالمعنى الأدبيّ قد لا يوجد في الكلمات بشكٍل مباشر، إنما يُترك للتّصوّر الذّهنيّ للقارئ الذي قد يعطيها أبعادًا كثيرة، لذا اعتمدت الرّمزيّة على إعطاء المتلقيّ الحدس والتصوّر الخاص في تفسير الحدس الشّعريّ للنّص (الأصفر،1999)
5- الكثافة التّصويريّة وتراسل الحواس: الأدب الرّمزيّ غني بالصّور الفنيّة المعنويّة والحسيّة التي يرافقها الغموض الذي يمتاز بالغزارة والإيحاء. ويعتمد الرّمزيّون في صورهم على معطيات الحواس من خلال تهديم الجدر بين الحواس لما تبثّه في النّفس من المفاجأة والدّهشة، كما فعل بودلير.
ويُعرّف أدونيس الرّمز بأنّه “هو ما يتيح لنا أن نتأمل شيئًا آخر وراء النّص. فالرّمز هو، قبل كل شيء، معنى خفيّ وإيحاء. إنّه اللّغة التي تبدأ حين تنتهي القصيدة، أو القصيدة التي تكون في وعيك بعد قراءة القصيدة (أدونيس،2005،ص 160). وذلك يعني أن الرّمز يُعين الشّاعر على استيعاب جميع الموضوعات، لإنتاج معانٍ لا تنفذ.
ولقد عملت فدوى طوقان في قصيدتها التي بين أيدينا، إلى تأسيس علاقة توحّد واندماج بين شعورها والمتلقي، من خلال الصّور الشّعريّة التي قدّمتها وألبستها مشاعرها الصّادقة والنّابعة عن تجربة عاشتها بنفسها. لذا استعانت بالرّمز لازدحام الأحاسيس في نفسها التي تعجز اللّغة المباشرة التّعبير عنها وبهذا اقترب الرّمز عندها من الحدس. فالصّورة الشّعريّة قادرة “بما تحمله من معانٍ مستمدة من الواقع أن تكون إحساسًا نابعًا من الذات” (الأغا،1996،ص 124). فالرّمز عند فدوى طوقان له خصوصيّة مرتبطة بمعاناة الشّاعرة نفسها، كونه نابعًا عن تجربة ذاتية.
أولًا: نبذة عن الشّاعرة فدوى طوقان
فدوى طوقان من أهم شاعرات فلسطين في القرن العشرين من مدينة نابلس وهي من عائلة فلسطينيّة معروفة. ولقبت شاعرة فلسطين حيث مثّل شعرها أساسًا قويًا للتّجارب الأنثويّة في الحبّ والثذورة واحتجاج المرأة على المجتمع.
وُلدت فدوى طوقان في مدينة نابلس الفلسطينيّة عام 1917 وفيها تلقّت تعليمها حتى المرحلة الابتدائية، حيث اعتبرت عائلتها مشاركة المرأة في الحياة العامة أمرًا غير مقبول، فتركت مقاعد الدّراسة واستمرت في تثقيف نفسها بنفسها. ثُم درست على يد أخيها شاعر فلسطين الكبير إبراهيم طوقان، الذي نمّى مواهبها ووجّهها نحو كتابة الشّعر، كما شجّعها على نشره في العديد من الصّحف العربيّة، وأسماها “أم تمّام”. ثُم أسماها محمود درويش لاحقًا “أم الشّعر الفلسطيني” ومع أنّها وقّعت قصائدها الأولى باسم “دنانير”، وهو اسم جارية، إلا أنّ أحبّ أسمائها المستعارة إلى قلبها كان “المطوّقة” لأنّه يتضمّن إشارة مزدوجة، بل تورية فصيحة إلى حال الشّاعرة بالتّحديد، فالمطوّقة تعني انتسابها إلى عائلة طوقان المعروفة، وترمز في الوقت نفسه، إلى أحوالها في مجتمع تقليدي غير رحيم (بدر، 1996،ص 18).
توالت النّكبات في حياة فدوى طوقان بعد ما توفي والدها ثم أخوها ومعلّمها الشّاعر إبراهيم طوقان، وأعقب ذلك احتلال فلسطين إبان نكبة 1948، وقد تركت تلك المآسي المتلاحقة أثرها الواضح في نفسيّة فدوى طوقان كما يتبين من شعرها في ديوانها الأول ،”وحدي مع الأيام”. وفي الوقت نفسه فإنّ ذلك دفع فدوى طوقان إلى المشاركة السّياسيّة خلال الخمسينيات من القرن الماضي. سافرت فدوى طوقان إلى لندن في بداية السّتينيات من القرن الماضي، وأقامت هناك سنتين، وفتحت لها هذه الإقامة آفاقًا معرفيّة وإنسانيّة إذ جعلتها على تماسٍ مع منجزات الحضارة الأوروبيّة، وبعد حرب حزيران 1967 خرجت من قوقعتها لتشارك في الحياة العامة في نابلس، فبدأت بحضور المؤتمرات واللّقاءات والنّدوات التي كان يعقدها الشّعراء الفلسطينيون البارزون من أمثال محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وسالم جبران وإميل حبيبي وغيرهم.
خلال حياتها، كانت فدوى طوقان واحدة من أبرز شاعرات فلسطين وكانت تمثّل رمزًا شعريًّا نسويًّا ووطنيًّا. وقد شغلت عدة مناصب جامعيّة، كان آخرها منصب أمينة السّر في مجلس أمناء جامعة النّجاح الوطنيّة بنابلس، وفي مساء السّبت الثاني عشر من شهر كانون الأول العام 2003 ودّعت فدوى طوقان الدّنيا عن عمر يناهز السّادسة والثّمانين عامًا قضتها مناضلة بكلماتها وأشعارها في سبيل حرية فلسطين.
تركت فدوى طوقان إرثًا أدبيًا أثرى المكتبة العربيّة شعرًا ونثرًا، وتُرجمت بعض أشعارها إلى عدّة لغات أجنبيّة كالإنكليزيّة والإيطاليّة والفرنسيّة والروسيّة والتركيّة والفارسيّة والعبريّة. نالت شاعرة فلسطين عددًا كبيرًا من الجوائز والأوسمة كجائزة رابطة الكتّاب الاردنيين 1983،وجائزة ساليرنو للشّعر من إيطاليا، ووسام فلسطين وجائزة كافافيس الدولية للشعر عام 1996، وغير ذلك الكثير.
ثانيًا: دراسة الرّمز في قصيدة ” لن أبكي“
ألقت الشّاعرة قصيدتها في مدينة حيفا التي تنبض حياةً وعمرانًا، لكنها آثرت استحضار صور الخراب والدمار في مدينة يافا والتي كانت كفيلة بأن تثير الشّجن في نفسها ويجري دمع العين ويئنُّ القلب لذكراها. فجاءت القصيدة تعبيرًا عن أساها وحزنها العميق على ما جرى ببلدها فلسطين بعد النّكبة.
ولقد تضمّنت قصيدة “لن أبكي” للشّاعرة الفلسطينية فدوى طوقان عددًا من الأساليب البلاغيّة الموحية بدءًا من مطلع القصيدة حتى نهايتها، حيث جاءت هذه الأساليب متحدّةً مع الجو العام للقصيدة. وسأكتفي بدراسة الرّمز دون سواه من أنماط الصّور الشّعريّة، لضيق المساحة المحدّدة للبحث. فتقنيّة الرّمز كانت وما زالت أداة فنيّة في صياغة الصّور والمعاني المتجدّدة، ومن خلالها تتمّ عمليّة الفهم والإفهام لدى المتلقي الذي بدوره يقوم بتحليلها وتأويلها للكشف عن الدّلالات الضمنيّة التي تكمن وراء الكلمات.
ويمكننا القول إنّ الرّمز لم يكن موجودًا في القصائد التي نظمتها الشّاعرة قبل نكسة حزيران 1967، ونجده بشكلٍ ملحوظ في في القصائد التي نظمتها بعد عام النكبة، وربما استعانت به الشّاعرة للتّنفيس والتّفريغ عّما في نفسها من ألم، وتغير نوعها الكتابيّ، حتى أصبحت القضيّة هاجسها الأول والأخير وحملت عبئًا ثقيلًا من الهموم والأحزان جرّاء الاحتلال، ولم يخفّف عنها سوى التّعبير،على حد قولها، في مقابلة بثّتها قناة العربيّة السّعودية، وفيها تقول: إنّ الكتابة كانت عملية تطهير، تطهر النفس والدّاخل من كلِّ الرواسب السيئة. وهكذا جاءت رموزها مُشعّة وموحيّة لأنّها ناتجة عن انفعالات صادقة مبعثها أعماق نفس الشّاعرة. ويُلاحظ في شعرها ذوبان ذاتها الوطنيّة بذوات المقاومين والثّوار كسمة صبغت أشعارها كافة.
تُعد قصيدتها “لن أبكي” أوّل قصيدة وطنيّة تلقيها أمام جمهورها الفلسطينيّ بعد نكبة حزيران، وكان لها عميق الأثر في نفوس جمهورها، حيث شكّلت القوّة الدّافعة والمحفزة للمقاومين من أبناء وطنها لمواجهة العدوان بصبر وصلابة. ولقد قسّمت فدوى طوقان قصيدتها” لن أبكي” إلى أربعة مقاطع:
على أبواب يافا يا أحبائي
وفي فوضى حطام الدور
بين الردم والشوك
وقفت وقلت للعينين:
قفا نبكِ
على أطلال من رحلوا وفاتوها
تنادي من بناها الدارْ
وتنعى من بناها الدارْ
وأنَّ القلب منسحقًا
وقال القلب: ما فعلتْ؟
بك الأيام يا دارُ؟
ضمّنتِ الشّاعرة هذا المقطع العديد من الرّموز المرتبطة بمدينة يافا وعكست من خلال هذه الأبيات صور الدّمار والخراب الذي ألمَّ بيافا؛ كالفوضى والحطام والرّدم والشّوك، وكلّها ألفاظ تدلّ على هَولِ المشهد وهمجيّة العدو فبدل كلمة البيوت أو المنازل استعملت الشّاعرة كلمة “الدّور” وهي البيوت الصّغيرة التي لم تنجُ من آلة العدو المدمِّرة، وكلمة فوضى رمزت لفقدان التّرابط بين أجزاء المدينة وتراكم معالمها بشكل عشوائيّ حتى طُمست تلك المعالم، واستعملت كلمة حُطام لأنّها أقدر على التّعبير من كلمة الهدم، فهي أشد وقعًا في النّفوس منها، حتى أنّ هذا الحطام طال النّبات والشّجر والزّهر ليحلّ محلّه الشّوك وبقايا الرّدم. ولقد أسهمت هذه الصّور المغلفة برموز ذات دلالات إيحائيّة حزينة في انصهار ذات المتلقي مع الشّاعرة واستطاعت ببراعتها الفنيّة أن تخترق وجدانه وتبعث الأسى والحزن في نفسه.
ثم تطالعنا كلمة الأطلال وهي بقايا التّراث البشريّ التي تبقى ظاهرة بسبب هجر الناس أماكن سكنهم، فالوقوف على الأطلال عادة شعراء الجاهلية الذين استعملوها في مطلع قصائدهم، لكن أطلال يافا تختلف عن أطلال شعراء الجاهلين التي لا أمل في عودة الحياة إليها مجددًا، بينما أطلال “يافا” وإن لم يبق منها سوى الحطام، ففيها خميرة دم الشّهداء التي ستنُبِتُ جيلًا ثائرًا في وجه العدو يعيد بناء ما فات.
ويظهر البُعد الطّلليّ صادقًا لمناسبته الحادثة التي تتكلّم عنها، ذاك أنّ الحسَّ النسويّ العميق أكثر تدفقًا للعاطفة منه عند الرجال. فالشّاعرة استوقفت عينيها للبكاء بدل الأصحاب، فالعينان رَمَزَا لأبناء وطنها المكلوم، ليشاركوها الألم والحزن على ما حلّ بيافا.
وأنَّ القلب منسحقًا
وقال القلب ما فعلتُ
بكِ الأيام يا دارُ
والأنين صوتٌ يصدر نتيجة التّوجع أو التّأوه ألمًا وهو شيء محسوس يمكن سماعه والانسحاق فعلٌ ماديّ، فكلاهما متعلّق بالمحسوسات، إلا أنهما خَرَجا عن دلالتهما الرئيستين ليرمزا إلى القهر والحزن العميق الذي يملأ قلب الشّاعرة ووجدانها. وسؤال القلب الحزين عن الدّار التي هي مدينة يافا برمتها والأيام ليست تلك التي نعرفها بل هي أيام الحرب المدمرة “حرب السّتة أيام“. وتُنهي الشّاعرة بشيء من التفاؤل والأمل بالغد القادم مستخدمةً لفظة “مشاريع الغد الآتي” والمشاريع يُخطط لها، وهذا ما أرادته الشّاعرة لتحقيق حُلم الغدِ المشرق ليافا ولبلدها. وتكمل تصوير المشهد برمزية لوصف ما عانته في يافا فتقول (شبلي،ص459):
وكان ما هناك جمعُ البوم الأشباحْ
غريب الوجه واليد واللسّان وكان
يحوم في حواشيها
يُمد أصوله فيها
وكان الآمر الناهي
وكان .. وكان
وغصَّ القلب بالأحزانْ
وكلمة البوم رمز للخراب والشّؤم، والأشباح دليلٌ على الفراغ وخلو المكان من أهله، ولقد استعانت بهما الشّاعرة لتصوير خلو المدينة من أهلها وأصحابها. فالبوم والأشباح رَمَزا للعدو الغريب التي يستبد بها أمرًا ونهيًا وطائراته تجوب أطرافها كيفما شاء، ويمدّ أصوله ترمز محاولة التجذّر بالأرض المسلوبة، فهو يزرع جذوره في أنحاء المدينة ليطمس هويتها الحقيقية. وتعجز كلماته أمام هول هذا المنظر لتقول: وكان… وكان
وفي المقطع الثاني من القصيدة تخلع الشّاعرة عباءة الحزن والألم وتمسح الدّمع وتخاطب أحبتها الفدائيين لتعلن انضمامها إلى صفوفهم وتمدّ يدها إلى يدهم وتستمد منهم القوة والإيمان لتسمو معهم نحو الشّمس، رافعة جبهتها بإيمان لا يتزعزع بما ستؤول إليه الأوضاع في قادم الأيام. فهي لم تُعّد جزعةً على وطنها المسكون في وجدانها بل خجِلت من دمعها المذروف على أطلال يافا.
فوا خجلي لو اني جئت ألقاكم
وجفني راعش مبلول
وقلبي يائس مخذول
وها أنا يا أحبائي هنا معكم
لأقبس منكمُ جمرةْ
لآخذ يا مصابيح الدجى من
زيتكم قطرةْ؛
لمصباحي
وها أنا يا أحبائي
إلى يدكم أمدُّ يديَّ
وعند رؤوسكم أُلقي هنا رأسي
وأرفع جبهتي معكم إلى الشمس
فالرّعشة دليل عدم الاستقرار والخوف، واستخدمتها الشّاعرة لتصوير اليأس والخذلان اللذين كانا يسيطران عليها قبل اشتعال الثّورة. والجمرة لها دلالة الحرق واللون الأحمر الذي يمثّل دماء الثّوار حيث استخدمتها لترمز إلى اشتعال الثّورة التي ستكلف الكثير من الدماء لاسترجاع الحق المسلوب وإعادة ما كان. واعتبرت الثوار الذين يبذلون الروح لإضاءة الدرب لأبناء وطنهم كالمصابيح توهجًا وإشراقًا، لذا سعت الشّاعرة إلى الاستعانة بزيتهم الطّاهر لتشعل جذوة الثّورة في نفسها، فهي كانت توقن بأنّ الطريق إلى الحرية معبدًا باللحم والدم، وهما السبيل الوحيد للخروج من الهزيمة إثر عدوان 1967.
وتؤكد الشّاعرة معاني الثبوت والتمسّك بالأرض، فتنتزع رموزها من جمال الطّبيعة في فلسطين كغيرها من شعراء فلسطين الذين استوحوا من طبيعة بلدهم رموزًا شعريّة حيث تقول:
وها أنتم كصخر جبالنا قوةْ
كزهر بلادنا الحلوةْ
والصّخر رمز للصّمود في الأرض والصّلابة والقوة كما الجبال رمز للرّفعة والإباء. فالثّائرون يمثّلون الثبات في وطنهم فهم مغروسون في الأرض كما الصخور العنيدة التي لا تنزاح، والتي توحي بالقوة والعنفوان ثم تنتقل لتستعير من الطبيعة الفلسطينية الحلوة رمز الزهر الذي يمثل أعمار أولئك المقاومين الأبطال، فتُقسم يمينًا صادقًا نابغًا من أعماق الروح بعدم البكاء بعد هذا اليوم حين تقول: يمينًا، بعد اليوم لن أبكي! والنفي بلن يمثل وثبة الجرح المقاتل عند الشّاعرة.
أحبائي حصان الشعب جاوزَ
كبوة الأمسِ
وهبَّ الشعب منتفضًا وراء النهر
أصيخوا، ها حصان الشعبِ
يصّهلُ واثق النّهمه
ويفلت من حصار النحس والعتمة
ويعدو نحو مرفئه على الشمسِ
وتلك مواكب الفرسان ملتمّهْ
تباركه وتفديه
ومن ذوب العميق ومنْ
دم المرجان تسقيهِ
ومن أشلائها علفًا
…
حتى نطرد الأشباح والغربان والظلمة.
ولقد استعانت الشّاعرة في المقطع الثالث من القصيدة بالاسطورة واتخذت منها مطيّة لاستنهاض همم الثوار في دفاعهم عن وطنهم المسلوب وحثّهم على الاستمرار، فاستحضرت صورة حصان طروادة وفرسانه من إلياذة هوميروس لتمجيد صنائع المقاومين. فحصان الشعب هو الثّورة التي انبثقت بعد هزيمة حزيران بشراهة ونهم لتكسر حصار النّحس والعتمة. فالنّحس يوحي بالشّقاء والشّدة والعتمة اشتداد الظّلمة الموشح بالسّواد الذي يرمز إلى الحزن والحداد على أرواح من رحلوا. إلّا أنّ النحس والعتمة عند الشّاعرة يرمزان إلى الاحتلال الغاصب الذي دمّر وهجر أبناء وطنها. ودم الثوار يروي أرض الوطن من “ذوب العقيق ودم المرجان”؛ والعقيق الأحمر حجر كريم غال الثّمن، استعملته الشّاعرة دون غيره من الحجارة الكريمة مع المرجان كرمز لغلاء دم الشهداء الذي يذود عن الوطن ويفديه بأغلى ماعنده، ولم يكتفوا بالدماء بل جعلوا من أجسادهم ذخيرة للثورة التي يلتئم الشعب خلفها كجيشٍ واحد في أرض المعركة المتمثلة بالوطن على امتداده، لطرد جماعة الأشباح أي الغرباء والغربان والظلمة والتي تجمع بينهما سمة السّواد إلّا أن الشّاعرة رمزت بالسّواد للغُزاة الصهاينة.
أحبائي مصابيح الدجى، يا أخوتي
في الجرح
…
ويا سرَّ الخميرة يا بذار القمحْ
ويعطينا
ويعطينا
على طرقاتكم أمضي
وأزرع مثلكم قدميَّ في وطني
وفي أرضي
أزرع مثلكم عينيَّ
في درب السنى والشمسْ.
وتستكمل فدوى طوقان في المقطع الأخير من القصيدة مخاطبة المقاومين لكن هذه المرة بنبرة تفاؤلية أكثر مما سبق، معتبرة إياهم سِرُ خميرة الأرض الولّادة التي ما انفكت تمنح الحياة للأجيال الذين يبذُرون أرواحهم في باطنها كي يولدوا من جديد، جيلًا تلو الجيّل على خطى من سبقوهم، وتنضم إليهم فدوى طوقان لتزرع قدميها في الوطن على أمل الوصول إلى الحرية والسلام.
ويمكننا القول أنّ شعر فدوى طوقان المقاوم، استطاع أن يبث الحماس في نفوس أبناء شعبها بقوة، وأن تزعزع قوة جيوش الاحتلال، مما دفع السلطات لمنع نشر قصئدها آنذاك، وما اضطر رئيس أركان جيش العدو “موشيه ديان” لاستدعائها إلى دارته، حيث عبّر عن غضبه واستنكاره لقصائدها التي كما قال عنها “أنّ كل قصيدة من قصائدها تخلق عشر مقاومين“. وبذلك تكون قصيدتها “لن أبكي” قد شكّلت نقطة تحوّل لا في مسيرتها الأدبيّة فحسب، بل أيضًا في مسيرة النضال الفلسطيني.
الخاتمة
هكذا نرى أن الشّاعرة فدوى طوقان التي شهدت نكبة 1967 وعايشت ويلاتها وشهدت انطلاقة الثّورة الفلسطينية، وقد أستطاعت بشعرها أن تنقل المتلقي من أجواء الهزيمة والدمار الذي خلفته الحرب، إلى نهضة المقاومة وامتطاء حصان الشّعب ليتحول الوضع العربيّ والفلسطينيّ -على وجه الخصوص- إلى قاعدة ثوريّة نتجت من جراح عميقة. واستطاعت بقولها لن أبكي أن تقنعنا بنفي الهزيمة والخلاص منها وعدم الوصول إلى عدميّة الثّورة بل إلى انتصارها الحتميّ التي سينجزه المقاوم، ولذا رأينا أن قصيدتها تنتقل من مراحل الحزن والبكاء والهزيمة في قسمها الاول إلى مرحلة التفاؤل والحث على الثّورة التي هي حتميّة الوجود الفلسطيني، وهذا هو دور الشّعر عبر كل العصور، أن يبشر بالآتي وليس بالنوح على أطلال الماضي. فالشّعر رسالة يجب أن تأخذنا باستمرار إلى الأمام.
وقد ظهر لنا في هذا البحث لجوء الشّاعرة إلى الرّمز لتعبِّرعن جيشان نفسها الممتلئة بالأحاسيس، فجاء الرّمز في قصيدتها هذه شفافًا وغير مغلق كما نجد في كثير من شعر اليوم. إنّ شفافية الرّمز في قصيدة فدوى طوقان نابعة من أنها تريد مخاطبة شعبها وتحريضه على المقاومة ولذا جاء رمزها غائصـًا في شعبها، ومقاومتها، وليس في نخبة محدودة العدد. وهكذا جعلت الرّمزيّة في شعرها وسيلة للحض والإثارة والمقاومة وليس للنوم على أطلال الماضي المزدحم بالهزائم، فضلًا عن الجماليّة التي أضفاها على قصائدها والتي لم تكن غاية في حد ذاتها، ونجحت في ذلك بشهادة من العدو نفسه.
المصادر والمراجع
– الآغا، يحيى زكريا (1996). جماليات القصيدة في الشّعر الفلسطينيّ المعاصر (ط1). الدوحة: دار الثقافة.
– أدونيس (2005). زمن الشّعر. بيروت: دار السّاقي.
– الأصفر، عبد الرزاق (1999). المذاهب الأدبية لدى الغرب. طبعة إلكترونية، منشورات إتحاد الكتّاب العرب.
– بدر، ليانه (1996). فدوى طوقان ظلال الكلمات المحكية (ط1). القاهرة: دار الفتى العربيّ.
– تودوروف، تزيفيان (2017). الرّمزيّة والتأويل (ط1)، تر.إسماعيل الكفري. دمشق: دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع [نُشر العمل الأصلي عام 1978].
– جرجور، مهى؛ لبّس، جوزف (2020). دليل مناهج البحث العلميّ (طبعة إلكترونيّة). بيروت: كليّة الأداب والعلوم الإنسانيّة – الجامعة اللّبنانية.
– الجيوسيّ، سلمى (1997). موسوعة الأدب الفلسطينيّ المعاصر. بيروت: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر.
– شبلي، عمر (2005). الأعمال الشّعرية الكاملة / فدوى طوقان. جمعها وقدم لها عمر شبلي. بيروت: دار العودة.
– غنيمي، هلال (1892). النقد الأدبي الحديث، (ط1). بيروت: دار العودة.
– المذهب الرّمزيّ، https://www.alukah.net/literature_language/ تم استرجاعه بتاريخ 1/2/2024 الساعة الرابعة عصرًا.
عدد الزوار:68