أبحاثاللغة والأدب والنّقد

تحوّلات الاستعارة في النّظريات المعرفيّة واللّسانيّات التّداوليّة

تحوّلات الاستعارة في النّظريات المعرفيّة واللّسانيّات التّداوليّة

Metaphor Transformations in Cognitive Theories and Communicative Linguistics

الدّكتورة دورين نصر والأستاذ وعد آل حسن([1])

Dr. Dorine Nasr and researcher Waad Al-Hassan

تاريخ الاستلام 13/8/2024                                          تاريخ القبول 29/8/2024

الملخّص

 إنّ الاستعاراتِ الإدراكيّةَ العرفانيّةَ عمليّةٌ ذهنيّةٌ تصوّريّة، مفادُها التّفكيرُ وأساسُها الفَهم، وهناك جانب كبير مِن تصوّراتِنا وتفكيرنا -غيرَ الواعي- حولَ الظّواهر غيرَ الماديّة تحكمُهُ البلاغةُ، مثلما تحكمنا القواعد التّوليديّة -عند تشومسكي (Chomesky)- على استخدامها أثناء الكلام. بذلكَ تُشكِّلُ التّداوليّةَ إحدَى الطّرقِ الموصلةِ إلى اكتشافِ المعاني  رةَ إثباتٌ للحِجاج وإقناعٌ بها، بغيةَ تغييرِ سلوك المتلقِّي وصولًا إلَى إحداث الانقلاب الاجتماعي كما في الخِطاب الدّيني عُمومًا. يُضافُ إلى المُقوِّماتِ السّابقةِ الوظيفةُ الجَماليّة، التي هي في ذاتِّها مِن وسائلِ التّأثيرِ ولفتِ انتباهِ المتلقّي وجَذبه.

الكلمات المفتاحيّة: التداوليّة، التّخاطب، الاستعارات التّصويريّة، المقصديّة، الاستلزام الحواري، الذهن، البلاغة، القول، العلامة، السّياق.

 

 

Abstract                                                 

Cognitive conceptual metaphors are a mental conceptual process, the essence of which is thinking and its foundation is understanding. A large part of our unconscious perceptions and thinking about non-material phenomena is governed by rhetoric, just as generative grammar – according to Chomsky – governs our use of it during speech. Thus, pragmatics forms one of the ways leading to the discovery of meanings not apparent on the surface, as long as its most concise definition is: how do we say something and mean something else? The aspect of pragmatic rhetoric can be traced in daily conversations, poetry, and political, religious, cultural, and social discourse; meaning that metaphor is a proof of argumentation and persuasion with it, with the aim of changing the recipient’s behavior to reach social revolution as in religious discourse in general. Added to the previous components is the aesthetic function, which is in itself one of the means of influence and attracting the attention of the recipient.

 

Keywords: Pragmatics, Communication, Conceptual Metaphors, Intentionality, Conversational Implicature, Mind, Rhetoric, Utterance, Sign, Context.

المقدّمة

إنّ الطُّروحاتُ التّجريبيّةُ التّفاعليّةُ للاستعارة، لجورج لايكوف (George Lakoff) وآخرينَ  أثبتَت أنّه مِن الاعتباطِ الاحتفاظ بنظريّةِ الاستبدالِ في فَهمِ ماهيَّةِ الاستعارةِ، فهي أكبرُ مِن نقلِ كلمةٍ ومُبادلتِها بأخرَى، لكونِها وسيلةً تجريبيّةً وإدراكيّةً، وهي فِكريَّةٌ قَبْلَ أنْ تكونَ لِسانيّةً لغويّة، بها نفَهمُ ما حولَنا ونُعيد تَشكيلَه، ولهذا لا مناصَ مِن التّركيزِ على البُعدين؛ التّواصليِّ والتّداوليِّ في مقاربتِهما، فهُما الكفيلانِ بفكِّ تَشفيرها وتأويلِ بنيتِها. لقد اخترنا دراسةَ آليّةِ اشتغالِها وأبعادِها التّداوليّة في خطابٍ مُهمٍّ، هو الكتابُ المُقدّس العهدُ الجديد، الأناجيل الأربعة: متّى، مرقس، لوقا، يوحنّا.

وذلك لِما لها مِن أهميّةٍ بالغةِ الأثرِ، في تكوينِ إيديولوجيّاتٍ جَمّة، سواءٌ أَكانتْ على مستوَى الفَهمِ والإدراكِ الاجتماعيِّ أم على مستوَى الاستعارةِ التي بلورَتْ جُملةَ المجازاتِ بالخِطابِ الرّوائيِّ والأدبيِّ. والقارئُ المُطَّلِعُ يَجِدُ الكثيرَ مِن الاستعاراتِ الإنجيليّةِ مُوظَّفةً على صعيدِ الشِّعرِ وبعضِ النِّتاجِ الأدبيِّ، لا سيِّما تراسُلُ الحواسِّ الذي يُعنَى بوصفِ حاسّةٍ ما بِصفاتِ أُخرى، ليسَ مِن طبيعةِ الأولَى. وقد شَرَحَ جورج لايكوف ذلك بقوله: إنَّ الاستعارةَ هي “إسقاطٌ عابرٌ للمجالاتِ في النّظامِ المفهوميّ، وما العِبارة الاستعاريّة إلّا تَحَقُّقٌ سطحيٌ لتلكَ العمليّاتِ مِن جُملةِ تحقيقاتٍ أخرَى، كائنةً في الخِطاب العاديِّ والإنشائيِّ قيامًا واحدًا” (لايكوف وجونسون، ٢٠٠٩، ص٢١).

ولبلوغ الغاية، قسمنا البحث قسمين: الجانب النّظريّ حيث نلقي الضّوء على مفهوم الاستعارة كونها عمليّة إدراكيّة كامنة في الذّهن، والجانب التّطبيقيّ حيث نعالج بعض الاستعارات الواردة في الأناجيل الأربعة.

 

أوّلًا- الجانب النّظريّ

إنَّ دراسةَ الاستعاراتِ في الأدبِ والبلاغةِ، ما هو إلّا توسِعةٌ وإضافاتٌ جاءَتْ مِن دروبِ استعارةِ المحادثاتِ اليَوميّة، وبِما أنَّ نسق الاستعارةِ اليوميّةِ هو الأكثر بروزًا، كونه مساهمًا في إدراك الاستعارةِ الشِّعريّة، باعتبارها مركزيَّةٌ تصنعُ أغلبَ القوالِبِ الأدبيّة، فإنَّهُ لا مناصَ مِن الابتداءِ، معَ هذا النَّسقِ اليوميِّ، الذي تبلورَ في أحادِيثِ السّيّد المسيحِ مع تلامِذَتِهِ وإرشادِ النّاس، فهي خيرُ تمثيلٍ علَى تداوليّةِ القول ومعنَاه، وبلاغةِ الاستعارةِ كوسيلةٍ للتأثير والتّعبير والفَهم والاحتجاج بها لتغييرِ سلوكِ المُتلقِّي.

1-الاستعارة تمثيل ذهنيّ

ليسَتْ الاستعارةُ، كَلمةً يَتِمُّ تحديدُها بأنَّها تعبيرٌ لُغَويٌّ جديدٌ أو شِعريٌّ بلاغيٌّ، حيثُ تُستخدَمُ كلمةٌ أو جملةٌ مِن أجلِ تصوُّرٍ أو تَشابهٍ ما، خارجَ المعنَى الوَضعيِّ الحَقيقيّ لتلكَ الكَلمةِ أو العِبارةِ، فليسَ مَكانُ الاستعاراتِ هي اللغةُ فحَسَب، إنَّما “بالطريقةِ التي نتخيّلُ بِها بواسطةِ الذِّهن التّجريبيِّ مِجالًا ما -مجرَّدًا أو ميتافيزيقيًّا- مِن خِلال مجالٍ آخَرَ مادِّيٍ أو مُجرَّبٍ” (لايكوف وجونسون، 2009، ص 23).

فهي لم تَعُد ظاهرةً لغويّةً ناتجةً عَن استبدالٍ أو عُدولٍ عن معنًى حرفيٍّ إلى معنًى مجازيٍّ، بل هي “عمليّةٌ إدراكيّة كامنةٌ في الذّهن، تؤسّسُ أنظمتَنا التّصوّريّة وتحكمُ تجربتَنا” (أحمد، ٢٠١٤، ص٥٦).

إنّ الاستعارةَ قديمًا وحديثًا هي من الصُّور البيانيّة المتداولة بكثرة، وذلك لأفضليّتها في تمثيلِ الخِطابِ وتكوينه، علاوةً على شموليّتها وتغلغُلِها في سائرِ النّتاجِ الأدبي؛ لأنّ اللغةَ -أيّ لغةٍ- بطبيعتها استعاريّةٌ، وهيَ تقومُ على المُواضَعةِ وترابطاتِ المُشاهدةِ الصّوريّة، وهذا ما رمَى إليه أمبيرتو إيكو (Umberto Eco) الإيطاليِّ في كتابهِ، “السّيميائيّةُ وفلسفةُ اللغةِ” (١٩٨٤).

وهكذا فتخصيصُ تلكَ التّرابطات المُشاهدة عبرَ المجالاتِ المتنوِّعة، التي أفرزتْها البيئةُ، هو ما يُعطي نَظريّةً عامّةً لموضوعِ الاستعارةِ. والأمرُ يتعلّقُ هنا تَحديدًا بالتّصوّراتِ المُجرَّدةِ غيرِ المَلموسة، كالزّمنِ والحَالاتِ العَاطفيَّةِ والعلاقاتِ السَّببيّةِ، ومثالُ ذلك قولُنا: الزّمن يَمضي، والحُبُّ رحلةٌ، والحَقيقةُ أنَّ الزّمنَ لا يَجري، ولا الحُبُّ سَفرٌ، ولكِنَّنا نُقاربُ المَعنويَّ بالمُجسّد، أي أنَّنا نقومُ بعمليّةٍ ربطيّةٍ لنتَفهَّمَ أو نَتصوَّر، مجالًا غيرَ مَفهومٍ أو ضَبابيٍّ -مِن خلالِ تَجرِبَتِنا ومعرفتِنا- بمجالٍ آخرَ سَابقٍ في المَعرفةِ والوضوحِ، أي المواضعَةُ والبناءُ عليه، وبذلك نُسقِطُ اللامعروفَ واللاواضحَ، على الذي سَبَقَتْ مُمَارستُهُ، أي باقتباسِ تصوّراتٍ مِن الواقعِ وتطويرها خياليًّا مِن مَسيرةِ الحياةِ وأحداثِها.

فالإنسانُ لا يُفسِّرُ مَاهيّةَ الأشياءِ ولا يَستطيعُ أن يُفكِّر بها إذا كانتْ غائبةً عنه، إلّا إذا كانتْ لها صورة سابقة تُماثلُها في ذِهنِه، إذًا لا بُدَّ مِن مُستوياتِ التَّمثيلِ الذّهنيِّ، لتكونَ المعلومةُ التي تُقدِّمُها اللغةُ مُنسجمةً مَعَ طبيعةِ الإدراك عنده، وكذلك فإنَّ المعلوماتِ القادمةَ مِن البيئةِ المُحيطة، كالسّمع والرّؤية والشّمّ، إذا لم تتوافرْ فيها تلك المستوياتُ الذّهنيةُ يكونُ مِنَ الصّعب عندئذ، توظيف اللغةِ في عمليّة الإفهامِ والإخبارِ (أحمد، ٢٠١٤، ص 59).

والجدير بالذّكر أنَّ النّظرةَ الكلاسيكيّة القديمةَ للعبارةِ الاستعاريّة، تفترضُ أنْ تكونَ مُخالفةً لاستعمالِنا اليوميِّ العادي؛ باعتبار أنّ لغتَنا اليوميّةَ في المحادثات، لا تتضمّنُ مركبًّا استعاريًّا، وعليه فالاستعارة -حَسَب الكلاسيكيّين- لا بُدّ أنْ تَستخدمَ آليّاتٍ بلاغيّةً خارجَ نطاقِ اللغةِ اليوميّة.

ولعلَّ أولّ مَن خالفَ هذه الفرضيّةَ القديمة، هو مايكل ريدي (Michael Redy) (١٩٧٨) في بحثِ أكاديميٍّ تحتَ عُنوان: “استعارةُ المجرَى”، إذْ بيّنَ أنّ لغةَ الحديثِ اليوميّةِ الطّبيعيّة، هي لغةٌ استعاريّة، وليستِ الاستعارةُ -كما عند التّقليديّين- مَحصورةً بالمجازِ والبلاغةِ والشّعر، كما أثبتَ بحثُ مايكل ريدي أنّ مقامَ الاستعاراتِ قابعٌ في ذهنِ الإنسانِ وفكرِه، وليسَ في اللّغة، كما أنّ الاستعارةَ جزءٌ رئيسيٌّ في تصوّر العالَم، وفي طريقةِ التّعبير والحديث اليوميِّ، فضلًا عن سلوكنا اليوميّ المرتبط بتجاربنا الشّخصيّة (ابن دحمان، ٢٠١٠، ص 32).

استنادًا إلى ما سبق، إنّ الفُنونَ البيانيّةَ، خـيرُ وسـيلةٍ في أيـدي الأديـبِ وغيره، ليصـوّرَ ما في ضميره، ولِيربطَ بها بين أمورٍ عديدة كالتّراسلِ، وما تداخل الحواسِّ إلّا من أبرز مظاهرها الماثلةِ في مُحادثاتِنا اليوميّة، كالانتقالِ من البصريِّ إلى اللّمسيِّ، حيث يُبنَى غالبًا علَى أَساسِ الاستعارةِ المكنيّـةِ والتّشـبيهِ، مثل قولنا: رائحةُ الورودِ حلوةٌ وجميلةٌ وطيّبةٌ، أو في قولِ أحدِهم: رائحةُ البخيلِ حامضةٌ مُرَّةٌ. إذًا يمـزجُ الأديـبُ هـذا النّـوعَ مِنَ التّعبـير بـين مـدركاتِ الحـواسِّ، فيصـفُ بعضـها بصـفاتِ غيرِهـا، أو يصـفُ الأمـورَ المعنويَّـة بمـا يخـتصُّ بـالحواسِّ الظّـاهرة، وذلك حينمـا يسـعفُهُ هـذا الامتـزاجُ في بيـانِ أغراضِـه. و”العرفنةُ نشاطُ الذّهن في عموم مظاهره، يَشمُل التّذكرَ، والتّعقل، وحلَّ المَسائل، والتّخيلَ، والحُلم، والتّخطيط، والإحساس، والشّعور، والتّعلم، والتّبرير، والتّكلم، والرّسم، والرّقص، وجميعَ ما تتصوّرون من الأنشطة الذّهنيّة الحسيّة العصبيّة، ممّا له صلةٌ بالذَّكاء الطّبيعي” (أَمين، ٢٠١٤، ص١٣٤).

إنّنا، من خلال ما تقدّم، نسعى إلى تبيان دورِ التّصويرِ في زيادةِ المَعرفة، والاستعاراتِ التّصويريّة المفهوماتيّةِ العرفانيّة، في الكِتابِ المُقدّسِ، للوقـوفِ علـى كيفيّـة اسـتخدام هــذا النّوع مــن التّعبير، والذي جاءَ مليئًا بالمعاني المجازيّة والصّور. إنّ الإنجيلَ يتميّز باحتوائه على هـذا النـّـوع مِـنَ التّعبـيرِ الاستعاريّ، فهو يحفّز الحاسّـةَ المُناسِبةَ، لِيَبنِيَ ويُؤآخي عليها استعارةَ الذّهن، محاولًا الامتـزاجَ بها في خطابهِ للمُتلقّي، غيرَ مُبتعِدٍ عنِ المعاني والرّموز الإشاريّة، التي يفرِضُها الدَّالُّ الواحدُ على مدلولٍ واحدٍ محدّد، كما في الصّورتين السّمعيّة والذّهنيّة في كلمةِ شجرة وبحر مثلًا،  كما ورد عند دي سوسير (De Saussure)، وبيرس (Perce).

إذًا، لا يُمكِنُ حَصرُ الاستعارةِ وإبقاؤها قائمةً على التّشبيه، فكثيرٌ مِن الاستعارات لا تُفهمُ إلّا مِن خلال سياقٍ مَخصوصٍ بين منشئِ الخطابِ ومُتلقّيه كما في أفعالِ الكلام عند سيرل (Searle)، ما يدلُّ على أنّ مبدأ التّشبيهِ غيرُ كافٍ بمفردِه. والاستعارة قابلةٌ للتّأويلِ في أحيان كثيرةٍ، كما في كلمة عين التي تدلُّ على معانٍ عديدة. فربطُها بعِلمِ النّفسِ أدَّى إلى اكتشافِ استعاراتٍ لا واعيةٍ، هي نِتاجُ اليدِ الخفيّةِ للذّهن اللاواعي، كالاستعارات الاتّجاهيّة، والانطولوجيّة، والاستعارات الوضعيّة القاعديّة الأوليّة البسيطة المُجسّمة، التي طُوِّرَت إلى استعاراتٍ شِعريّة إبداعيّة فيما بعد، وهذه الأخيرةُ نِتاجُ العقلِ الواعي، وما هي إلّا توسيع للاستعاراتِ اليوميّة الوضعيّةِ التّصوّراتيّة.

ونظريّةُ الدّمجِ أو المَزجِ الاستعاري، “هيَ نظريّةٌ تفسِّرُ اشتغالَ الذّهنِ البشريِّ (…)، وهي آليّة عِرفانيّة تحكمُ تفكير الإنسان وتميّزُه. والتّفكيرُ ذاتُّهُ هو دَمجٌ بين فضاءاتٍ ذهنيّةٍ مختلفةٍ، ونحنُ في شتَّى ضُروبِ تفكيرنا، حتّى البسيطةُ منها، نقوم بالدّمجِ بينَ الفضاءاتِ الذّهنيّة” (البوعمراني، ٢٠١٥، ص١٤).

وتجدر الإشارة إلى أنّ الاستعاراتِ في النِّتاج الرّوائيّ، أخذَ مادّتَهُ الخام مِن الاستعاراتِ الأوّليّة الوضعيّة في الكتابِ المُقَدّس -كما في أغاني فيروز وأشعار المهجر الشّمالي- الذي كانَ المصدرَ والمُلهِمَ في تكوينِ الاستعاراتِ، ثُمّ أُدخِلَتْ عليها عناصِرُ التّوسعةِ والخيال، لِتُصبِحَ استعاراتٍ إدماجيّة تركيبيّةً، ثم جاءَتْ مرحلةُ التّمييزِ في إطارِ فكرِ ما بعدَ الحَداثة، للكشفِ عن هذا المزجِ المُرَكّب، الذي هو مَلكَةٌ لا واعيةٌ كسائرِ المَلَكات الذّهنيّة المُصاحِبَةِ للخيال، وذلك وِفقًا لنظريّة فوكونيي (Fauconnier) وتورنر (Turner)، التي ارتكزَت على مَبدأ المزجِ التّصوّري، فقد بيّنا أنّ الاستعارةَ تقومُ على دمجِ المجالِ المصدرِ في المجالِ الهدفِ (Fauconnier & Turner, 2002, p. 53). أي مِنَ المُستعارِ منه إلى المستعار له، ويُقصَدُ بالمجالِ المَصدرِ المُستعار منه أو المُشبّه به في التّقاليدِ البلاغيّة، والمجالِ الهدفِ هو المُستعارُ له، فعلَى سبيلِ المثالِ في استعارة: الحُبُّ تجرِبةٌ مُرَّةٌ، تكونُ التّجرِبةُ المُرَّةُ هيَ مجالُ المصدرِ كونُها ماديّةً، في حين يُمثِّل الحبُّ المجالَ الهدف كونُهُ معنويًّا مجرّدًا.

وحَسَبَ تحليلِ أحمد المُتوكّل  تَكونُ كلمةُ تَجرِبة، هي بؤرةُ الخِطاب، في حين تُصبِحُ كلمةُ مُرَّة الذّيلَ، وكلمةُ الحُبّ هي المِحور الحَمل (المتوكّل، 2010، ص 83)، ومِن هذا المثالِ الأخيرِ سننطلقُ للولوج في أعماق الأناجيل الأربعة لاستِكناه ماهيّة الاستعارات وتحليلها وفقَ منظورِ اللسانيّاتِ العرفانيّة التّجريبيّة (رتشاردز(Richard)  ولايكوف وجونسون (Johnson) وأمبرتو إيكو، وفوكونيي) كمقامٍ أوّل، إضافة إلى أقلامٍ أُخرَى، ستطلُبها أبوابُ الدِّراسةِ. كما أنّ “القولَ بارتباط اللغة بالعرفان البشري يعود إلى نظريّة الجشطلت Gestalt، التي مِن أبرز أطروحاتها (….) القولَ: بأنّ الذّهنَ البشريَّ هو الذي يُبَيِّن الكونَ وينظّمه، (…) والأفرادُ يبنونَ أشكالًا بها يدركون الوضعيّات، وأنّ طريقةَ عملِ الذّهن تكون بناءً على التّركيزِ على الثّوابت” (قريرة، ٢٠١١، ص١٥).

وعليه فإنّ العرفانيّة الاستعارّية، تَلتقي مع النّظريّات المُعاصرة، وما بعد الحداثة التي تَعمد إلى جعلِ القارئ واعيًا الوسائط البنيويّة التّداوليّة لسياقِ القصِّ، مع ما تؤدّيه الاستعارة، مِمّا يُشكل تكاملًا لنظامٍ جديدٍ، “ويجعلُ مِن الممارسة النّقدية على حدٍّ تعبير جوناثان كولر (Jonathan Culler)، مجموعةً مِن التّوقعاتِ بين القارئ والنّصِّ” (محمد، ٢٠١٦، ص٣١٦).

ولأنّ النّظرياتِ الإنسانيّة تتوالد من بعضها البعض، فإنّ العملَ البحثي يحاولُ أنْ يُسلِّط الضوءَ على التّأسيس النّظري لهذه الأفكار المستجدّة وتطبيقاتها على دراسة الاستعارة بوصفها ظاهرةً ذهنيّة، يُمكن أنْ تتمظهرَ لغويًا في خطابات متنوِّعةٍ. هذا التّمظهرُ اللغويُّ يدفع البحثَ إلى التّساؤلِ عن الكيفيّة التي تعاملتْ بها النماذج المعرفيّة، التي اخترنا عرضَها مِن الإنجيل.

ولمعرفة تنوُّعاتِ الاستعاراتِ في العهدِ الجَديد، التي امتزجتْ بالحواسِّ الخمس الظّاهرة، وتضافرتْ في تكوين صُوَرٍ بيانيّة قلَّ نظيرها، تمَّ التّحويل فيما بينها، كزوايا مربَّعية، كمربَّعِ كريماس (Greimas) (Carré sémiotique)، وهذا الأخيرُ يَجري تداولُهُ في النّصوص السّرديّة، لمعرفةِ نقاطِ التّقابلِ والتّقاطعِ في النّصوصِ المكتوبة، ليكونَ أداةً لتحليلِ بعضِ المفاهيم السّيميائيّة.

إذًا، ترتكزُ الاستعارةُ التّصويريّة على مبدأ الإسقاطِ، أي إسقاطُ مجالين تصويريّين، الطرفُ الأوَّلُ يُمَثِّل المصدرَ(أ)، والثّاني يُمَثّل الهدفَ (ب)، وبالتّالي نُسقِطُ المصدرَ الذي يكون عادةً مادّيًّا، على المجالِ الهدفِ، وغالبًا ما يكونُ معنويًا أو ميتافيزيقيًّا أو مُجرَّدًا، وقد نَستدركُ في الاستعارةِ –أي المُتكلِّم مُنشِئ الخطاب- إسقاطَ مجالينِ، مجالٌ مجرَّدٌ على آخرَ مجرّدٍ أيضًا، بغيةَ تحقيقِ عمليّةِ الفَهمِ والإدراك للمُخاطَب المُتلقّي.

وكمثالٍ توضيحيٍّ على ذلك، نذكرُ: التّضخّمُ خيبةٌ للوطنِ، فكلمةُ تضخُّم معنويّة وهي مجالُ الهدفِ، قُمنا بإسقاطها على المجالِ المصدرِ وهي كلمةُ خيبة، لأنّنا لا نستطيعُ إدراكَ المعنويِّ المجرَّد غيرِ المحسوس، إلّا مِن خلال صورةٍ متعارف عليها، وقارَّةٍ في الذّهن أي في الدّماغ البشري، بذلكَ استطعنا أنْ نكوِّن تصوُّرًا محسوسًا لذلك التّضخّم عبرَ إلباسه بآخر أكثرَ عُرفيَّةً. وبذلك تمكِّنُنا الاستعارةُ التّصويريّةُ مِن تخيُّلِ أفضلِ المفاهيم غيرِ المحسوسةِ، وتمثّلها كأنّها مُدركةٌ بالحواسِّ الخمس. إضافة إلى مفهوم الاستعارةِ التّصويريّة السّابقةِ، هناك مبدآن أساسيّان تركّزُ عليهما هذه الاستعارة:

“١_ إنّ نظامنا التّصوُّري قائمٌ في جزءٍ كبيرٍ منه على أُسسٍ استعاريّة.

٢- الاستعاراتُ التي نحيا بها، هي نِتاجُ تصوّراتنا الثّقافيّة، وأيُّ استعاراتٍ خارجَ هذه التّصورات الثّقافية التّجريبيّة، قد تؤدّي إلى تعطيلِ عمليّة الفَهم والتّواصل” (البوعمراني، ٢٠١٥، ص١٢٤).

كما تعتمِدُ الاستعاراتُ التّصويريّة على روافدِ نظرياتٍ أخرَى، كالمزجِ التّصويري، أو نظريّة الدّمج التّصويري المفهومي، أسَّسها الفرنسي جِيل فوكونيي والأمريكي مارك تورنر، في كِتابهما المُشترك، “The way we think”، حيثُ نُشِرَت بَعضُ مضامينها قبل ١٩٨٠، وهي نظريّة نفسيّة عرفانيّة، يقوم بها فردٌ ما، في اللاوعي، بواسطة مَلَكَةٍ عرفانيّةٍ تعتمدُ على تجميعِ المعلوماتِ مِن وراء حجاب، وتَتَفَلَّتُ مِن الوعي، لتبقَى قابعةً في أفضيةٍ ذهنيّةٍ في اللاوعي، ولتوضيحِ ذلك نطرحُ المثالَ الآتي كي نعرفَ آليّة الدّمج التّصويري في بِنية الذّهنِ الدّاخليّة:

“تلك المرأة رئيسَةُ المَصرِفِ الفاسدةِ”.

يتّضحُ لنا أنّ المثالَ السابق، مُكوَّنٌ مِن قطبين اثنينِ مُتباعدين، الأوّلُ قطب الزّعامةِ والرئاسة، وقطب ثانٍ هو الفسادُ، ومِن خلالِ دمجِ القطبين السّابقين ومزجهما (أ) و (ب)، سينتجُ عنهما الحصيلة الآتية (ج): سَرِقَةُ المالِ العامِّ ورُزُوح المجتمع تحت وطأة الفقر، نتيجةَ التّعسُّفِ في مُزاولةِ السّلطة، وهناك قطب جامع (د)، يُبلور (أ) مع (ب)، لِما فيهما مِن عناصرَ مشتركةٍ، فَمِن قطب الرئاسة تظهرُ علاقةُ الغايةِ بالوسيلة، بشكلٍ غيرِ متوافق -لعلاقة الغاية بالوسيلة لقطب الفساد- بأنْ تكونَ الوسيلةُ هي الرئاسة، والغايةُ هي النّجاح. عندئذٍ يحدثُ التّمازج التوليفيُّ والتّقريب بين وسيلةِ الفاسدِ وغايتِها، ألَا وهي السّرقةُ، وجملةُ مقامِ هذه العبارة مُستقرٌ في القطبِ المزيج، وتحصيلُ ناتجِ العبارة السّابقةِ هو الفشل.

 

2-الاستعارة في بعدها التّداوليّ

وبالعودةِ إلى العُنوان، الذي يَنمازُ بِحَدَّيهِ، وبعد أنْ شرحنا ما يتعلَّقُ بحَدِّه الأوّل العرفانيّة التّصوّريّة الاستعاريّة، نأتي الآنَ إلى الجانبِ الثّاني منه، وهي التّداوليّةُ وتعاريفُها المُتشظِّيةُ، غيرَ أنَّنا سنُحَدِّدُها بمنطلقاتِ تشارلز موريس (Charles Morris) (١٩٣٨) الذي ربطَ التّداوليّة بالعلوم السّيميائيّة، مثلَ دراسة التّراكيب، والدّلالات في الخطاب، ودراسة العلامات بِمُؤوِّلِها ومُفَسِّرِيها، ومِن الأخيرة، استفادَ التَّفكيكيّون، كما عند جاك ديريدا (Jacques Derrida) في كُتُبِهِ الثّلاث (١٩٦٧) في التّقويض والتّشريح، وإعادةِ البناء، والغراماتولوجيا، وهذه الأخيرةُ تُعنَى بدارسة أنظمة عِلمِ الكِتابةِ.

وتختلف التّعريفاتِ التّداوليّةَ من باحث إلى آخر، فكلُّ واحد يحاولُ أنْ يُعرِّفَها وِفقَ الجَانب المعرفيِّ الذي يعتمدُهُ في بحثه، فتعريفُ اللغويِّ يختلفُ عن تعريفِ الاجتماعيِّ، وتعريفُ الأخيرِ يختلفُ عن تعريفِ النّفسانيِّ وهكذا دواليك… ولكنّ السّمةَ الغالبةَ التي تجمعُهم جميعًا تُركِّزُ على التّواصلِ والاستعمالِ الحقيقيِّ للغة، فهي تعاريفُ متفاوتَةٌ مِن حيثُ العموم والخصوص. وقد نَجَمَ عن هذا التّنوعِ غنًى لا نظيرَ له، مِن حيثُ التّوظيف المفاهيمي والمعجميّ. غيرَ أنَّ هناك مَن حدَّد التّداوليةَ وربطها بالذّهنيّة واللسانيّات، لذا يقترحُ ستيفن. ك. ليفينسون (Stephen C. Levinson)، في كتابهِ “اللغة البراغماتيّة” (١٩٨٣) تعاريفَ كثيرةً نذكرُ منها:

– “التّعريف الأوّل دراسةُ اللغة في إطارها الوظيفيّ، أي فَهمُ بنياتِ اللغة، وربطِها بالسّياق.

– التّعريف الثّاني: التّداوليّة دراسةٌ للعلاقاتِ بينَ اللغةِ والسّياق، أو هي دراسةُ الشّكلية (…).

– التّعريف الثّالث: التّداوليّة دراسةٌ لظواهرِ بِنيةِ الخطابِ اللغوي مِن تضميناتٍ، واقتضاءاتٍ، أو ما يُسمَّى بأفعالِ اللغة” (مَقبول، ٢٠٠٦، ص٢٦٣-٢٦٤).

واضحٌ جدًا مِن التّعاريفِ السّابقة، أنّها تتمحور حول الدّلالة والاستعمال. فدراسةَ الاستعاراتِ العِرفانيّة التّداوليّة تنضوي تحتَها عناصرَ تفاعليّة، مِن مُتكلّمٍ، ومُستمعٍ، ومقاصدَ ونوايا، وسياقٍ، ومقامٍ، وهي كلُّها تتضافر مع بعضها البعض لتبرز المعنى.

ومِنَ الأوائلِ الذين ربطوا بينَ السّيمياء ومصطلحِ التّداول، هو تشارلز موريس ١٩٣٨م، عندما استخدم التّداوليّة لتعريف علوم السّيمياء الثّلاث:

“١ – عِلمُ التّركيب: syntaxe أو syntactics، وهو يُعنَى بدراسة العلاقات الشّكليّة، بين العلاماتِ بعضها ببعض.

٢ – عِلمُ الدِّلالة: semantique أو semantics، وهو يَدرسُ علاقةَ العلاماتِ بالأشياءِ التي تُحيلُ أو تدّلُ عليها.

3 – التّداوليّة: pragmatics، تهتمُّ بدراسة العلاماتِ بمؤوِّليها ومفسِّريها (نَحلة، ٢٠٠٢، ص٩).

وهذا التّرتيبُ الذي اعتمده موريس في هذهِ الفروع ليسَ اعتباطيًّا، بل هو ترتيبٌ يَنتقلُ مِن الخاصِّ إلى العامِّ، حيثُ تتعالقُ العلاماتُ اللغويّةُ في الاستعارةِ المفهوماتيّة التّصوراتيّة فيما بينها، وفقَ نظامِها الخاص، ثم تأتي مرحلةُ الإحالةِ على مراجعها، ولولا التّركيبُ لَمَا حدَثَتْ إحالةٌ وحَصَلتْ المقصديّة وزالت الاحتماليّة، فهذه العلومُ الثّلاثة هي في الحقيقةِ ليستْ مستغنيةً عن بعضها البعض.

ورغم استعمالِ مصطلح التّداول المبكر مِن تشارلز موريس، فإنّه لم يتبلورْ ليصيرَ نظريّة مُستقلّة أو عِلمًا محدَّدَ الأركانِ لمجالاتِ اللغة، إلّا بعدَ زمنٍ ليس باليسير، فقد أسهمَ ثلاثة فلاسفةٍ في تطويرهِ وإنمائه: جون أوستن (John Austin) في كتابه الموسوم “الأفعال الكلاميّة” (١٩٦٢) والذي استفادَ منه فيما بعد، بول جرايس (Paul Grice) (١٩٦٩) وسوريل (١٩٧٩). وكانَ هؤلاءِ الثّلاثةُ مِن أنصارِ مدرسة فلسفة اللغة الطّبيعية أو العاديّة، التي تهتمُّ بطريقة إيصالِ معنَى اللغة الطّبيعيّة للإنسان، مِن خلالِ إبلاغ رسالةٍ ما، إلى مُرسَل إليه -مُخاطَب- يؤوِّلها، ومع ذلك لم يستعملْ واحدٌ مِن هؤلاءِ الثّلاثة، هذا المصطلح في بحوثِهِ ومؤلّفاته (نحلة، ٢٠٠٢، ص 83).

وعليه فإنّ الاستعارةَ في بُعدها التّداولي، مرتبطةٌ بالوعي واللاوعي، وتحليلُ النِّتاج النّفسي مُنعكِسٌ حُكمًا على الأربعةِ: اللسانُ، والكلام، والفِكر، واللغة. لذا فإنّ الاستعارةَ التّداوليّة فيها قُوَّةَ حجاجيّةِ الخطاب ودرجاتِ الإقناع، كما تُؤكِّدُ على مَقصِديّةِ المُتكلِّم، وتَفرِضُ الاستلزامَ الحواري بين المُتخاطِبين. فالاستعارةَ ليستْ شرطًا لزوميًّا في إعمالِ المعرفة وإنتاجها، وتأويلِ استعمالها حَسَب مَقصديّة المُتكلّم؛ بل أنّها وسيلةٌ تقريبيّةٌ مِن خلالِ التّشبيه والتّشخيص، لِما لها مِن حضورٍ بارزٍ في التّخاطُب الأدبي.

 

ثانيًا- الجانب التّطبيقيّ: نماذج لتحليل الاستعارات التّصويريّة من الأناجيل وفقَ المنظور العرفانيّ

نَهدفُ مِن خلال هذا المبحثِ، تقديمَ صورةٍ عمليّة توظيفيّة، بالانكبابِ على تمثيلِها بطريقةٍ أكثرَ قُربًا وتفصيلًا، مما تَنثوي عليه بالنّظريّات التّجريبيّة في الاستعارات المعاصرة. وكما بيّنا سابقًا فإنّ الاستعارة لا تنهضُ لوحدها لإدراك القصد منها، بلْ بجملةِ الإطاراتِ المحيطة بها، وهو ما يُمكِن تسميتُهُ بمبدأ إعادةِ المُعالجةِ، باستعمال الآتي:

  • المُتكلّمُ وخلفيّته المقصديّة.
  • المُتلقّي وقابليّة التلقّي.
  • الانسجام بين الكلام والسّياق.
  • الزّمكان والسّياق والنّصّ.
  • إعمال المُخيّلة الذّهنيّة، الذي يعتبرُ شرطًا لعمليّاتِ التّرميز المعرفي المرتبط باللاوعي، وهو مِن الأبعادِ الأساسيّة في نتاجيّة المعاني وتأويلها. فالخيالُ مساهمٌ  في عمليّات تطوير المعارف، ثم تأتي الاستعارة مُبرِزةً إيّاه. إنّ الاستعارةَ المعاصرةَ تلتقي معَ عِلْمِ البيان، في أداء المعنَى الواحدِ والفكرةِ الواحدة بأكثرَ مِن أسلوب، وهو ما يجعلُ الاستعارةِ كثيرة الانتشار، كونها تعبيرًا يَشمُلُ سائرَ النّشاطاتِ الفكريّة عندَ الإنسان.

 

1-الاستعارةُ البِنيويّة

نجدُ الاستعارة في إنجيلِ متّى المَسبوقةِ بالتّشبيه، في مَعرضِ حديثه عن حساب يومِ القيامة، وكيفَ يَميِّزُ اللهُ بينَ الصّالحين والمُذنبين “وتُحشَرُ لديه جميع الأمم، فيفصل بعضَهم مِن بعض، كما يفصل الرّاعي الخراف عن الجِّداء، فَيُقيم الخرافَ عن يمينِهِ والجِّداءَ عنِ شماله” (متّى، ٢٥: ٣٢- ٣٣).

تظهرُ الاستعارة بقوله: فَيُقيمُ الخِرافَ عن يمينِهِ والجِّداءَ -جمع جَدِي- عن شماله، ويكونُ المعنَى الحَرفيّ: فيُقيم اللهُ المؤمنين عن اليمين، والكُفّار عنِ الشمال لمحاسبتهم بالعدل. “ثم يقول للذين عنِ الشّمال: إليكم عنّي أيّها الملاعين إلى النّارِ الأبديّة المُعدّةِ لإبليسَ وملائكتِه” (متّى، ٢٥: ٤١).

إذًا قد شبّه المؤمنين والكفّار بالخِراف والجِداء على التّوالي، وهي استعارةٌ تصريحيّةٌ حيثُ حذفَ المُشبّه المؤمنين والكفّار، وأطلق المشبّه به الخِراف والجداء على سبيل المقاربة وبيان الغاية. غير أنّ فكرة الاستعارة التّصويريّة لا تعتمدُ علاقةَ المُشابهةِ، إذ لا تشابُهَ بين الخِراف والجِداءِ من جهة وعامَّة البشر من جهة أخرى. ولنأخذْ تحليلَ السّمات الدّلاليّة كما عند أمبيرتو إيكو في تحديدِ المُقوّماتِ المُشتركة بينَ المَجالين:

  • الإنسان: +عاقل +ثديي +ناطق +ساقان +ذهني +دم وعظام +متنوّع الغذاء +مُفكّر.
  • الخِراف والجداء: +حيوان +ثديي +غير عاقل +أربع قوائم +عاشب +غير ناطق +غير ذهني +غير مُفكّر +لحم وعظام.

يُظهِرُ التّشريحُ لكلا الجِّنسين تناقضًا بَيِّنًا بين المكوّنين، إذ إنّ فمُؤدَّى المعنَى بالاستعارة الإنجيليّة يتّضِحُ من خلال مقصديّة المُتكلّم المرتبطة بالسّياق، والتي تعني تنبيهَ الإدراك بالمجال غيرِ المُجرّب، وذلك باستعمال المجال التّفاعليّ التّجريبيّ المُجرَّب. وعبرَ دمجِ المجالين في الإطار الذّهني -حَسَبَ نظريّة المزج التّصويري- نَتَجَت حالةُ التّمييز بين المتناقضين. إنّ نظامَ التّصويرِ في الآية السّابقة، متأثّرٌ حُكمًا بالبيئةِ المكانيّة آنذاك، حيث تمَّ التّمييزُ بناءً على الواقع المعيش، الذي أفرزتهُ معطياتُ الطّبيعة والنّظام الاجتماعي. فالمُمَايزةُ تمّتْ عبرَ إسقاطها الرَّعويّ الزّراعيِّ، إذ استعار معنَى العِناد والصّلابة والقسوة مِن الجَديِ، ثمّ أسقط تلك المعاني السّلبيّة على الكافرِ الرّافض.

غيرَ أنّ استبدال نظام تعريف المؤمنين والكافرين بالخِراف والجّداء لم يأتِ صدفةً، بل جاء للاستدلال على معانٍ خبيئة في البِنيةِ العميقة للمُتكلّم والمُتلقّي، فالخِراف تشير إلى مَدى الإطاعةِ والخضوع والاستجابة واللين، بينما الجداءُ ترمز إلى العِناد والقسوة وصعوبة المِراس، ومِن خلال الحالتين انطلَقَتْ استعارةٌ تصويريّةٌ بالعناصرِ السّابقة.

بهذا فإنّ الخِطاب يتضمّن السّيميائيَّ والرّمزيَّ، ولا نصلُ إلى تفسيرِ العلاقة الرّمزيـّة إلّا عن طريقِ الانزياحات، “الذي يحملُ كلّ التّطوراتِ والعلامات النّفسية والاجتماعيّـة، فيُعـدُّ جانبـًا تحفيزيّا للتدليلِ على كيفيّة اشتغال النّص من خلال مبادئِ الإزاحةِ أو التّكثيف والاستعارة” (لخدادي، ٢٠١٤، ص٢٢٢).

ولا يُمكِنُ إسقاط الاستعارة السّابقة على معطيات عصر الحداثة، حيثُ المعطياتُ التّداوليّةُ والزّمكانيّة أفرزتْ قوالِبَ عصريّةً، إذ لا تنتمي بالضرورةِ إلى عالَم الحيوان. فلو أرادَ أحدُنا أنْ يقدّم مثالًا عن استعارة تميّز بين رُكنينِ أو صِنفين مُتداخِلين لقالَ مثلًا: يستطيع الأستاذُ تمييزَ طُلابِه بالامتحان، فيضعُ المُثابرين في صفٍّ، والمتأخّرين في آخر. فالمثابرون تعني طلابًا بعلاماتٍ عاليةٍ، والمتأخّرون تعني طلابًا بعلاماتٍ دونَ الوسط، وهكذا دواليك…

 

2-استعارةُ الاتّجاهِ

تَبرزُ في الاستعارةِ الإنجيليّة السّابقة -الجداء شمالًا والخرافُ يمينًا- دورَ الاتجاهٍ الذي تحدّثَ عنه لايكوف وجونسون، وهي استعارة تجسيديّة اتّجاهيّة تستنِدُ إلى شكل الجسد البشريّ المستقيم، كون الإنسانِ طبيعةً مُفَكِّرةً يميّزُ الجّهاتِ الأربعِ، مع تفضيلِه جهةَ اليمينِ للأعمال الصّالحة، والجّهةَ العُليا للقِيَم الإيجابيّة، أمّا الأسفل والشّمال فعكس ذلك.

وهذا يعود بطبيعةِ الحال، إلى الموروث التّاريخي والعَقائدي والثّقافي، طالما كان المطرُ الهابطُ مِن الأعلَى يُحيي الأرضَ ويُنبِتُ الزرع السّفلي، تغدو عنده السّعادة قيمةً عُليا بالمعنَى الفوقي الإيجابي، والسّلبيّات بالاتّجاه السّفلي. أما لماذا اليمينُ بالتَّحديدِ غالبٌ في حركاتِ الإنسان؟ فمَردُّ ذلك راجعٌ إلى طبيعة تكوين الدّماغ؛ فالقسمُ الأيسر هو الأكثرُ نشاطًا عندَ عامّة البشر، وهو المسؤولُ عن وظائفَ مُتعدّدة كاللغةِ والتّفكيرِ والتّحليلِ والتّخييلِ وحركةِ اليدِ اليُمنى. تَنبعُ هذه الاتِّجاهات مِن وضعيّة الجّسد وكيفيّة اشتغاله في المُحيط الفيزيائي، “غير أنّ هذه التّعالقات مع التّجربة الفيزيائيّة غيرَ كافيةٍ لوحدها، بلْ لابُدّ من العامل الثّقافي الذي يُحَدِّدُ نوعِ التّعالق المختار حيث تُقدِّم التّجربةُ الثّقافيّةُ والفيزيائيّةُ العديدَ مِن الأسسِ المُمكِنة” (عمايري، ٢٠١٧، ص١٤٩).

ونحنُ نلمحُ مثل هذه الاستعارات، التي تَغزُرُ كثيرًا في إنجيلِ يوحنّا ناقِلًا عنْ المسيح قوله: “جئتُ أنا إلى العالم نورًا، فكلّ مَن آمن بي لا يبقى في الظّلام، وإنْ سَمِعَ أحدٌ كلامي ولم يحفظه، فأنا لا أدينُهُ، لأنّي ما جئتُ لأدينَ العالمَ، بل لأخلِّصَ العالم” (يوحنّا، ١٢: ٤٦، ٤٧).

ومنَ الآيتينِ السّابقتين نَجِدُ ثلاثَ استعاراتٍ، مدركةٍ بالعقل، مع إهمالِ الحِسّ وفعلِ المُخيّلةِ.

  • الأولى: جئتُ نورًا، بدلَ جئتُ هِدايةً على التّصريح بحذف المُشبّه.
  • الثّانية: لا يَمكثُ في الظّلمة، بدلَ الظّلالِ والباطلِ. على التّصريح
  • الثّالثة: لأخلِّصَ العالَم، بدلَ الخطيئة والجهل. على التّصريح.

ومِن اللافتِ للنظر، غَلَبَةُ الاستعارات التّصريحيّة في الأناجيلِ الأربعةِ على ما سواها مِن الأنواعِ الأخرى، التي ترتكزُ على طريقةٍ تعويضيّة، أي تعويضُ لفظٍ بآخرَ يخلو مِن المرونة والمِداد الخَيالي، على عكس المكنيّة التي هي الأبلغُ في إرادةِ التّعبير والمقاربةِ والتّجسيمِ والتّصوير والتّشبيه. ويؤكّد أبو بكر الصّولي في كتابه “أدب الكاتب”، أنّ الاستعارةَ المكنيّة، أجلُّ استعارةً وأحسنَها فَهمًا لبساطَتِها، وهي الغالبةُ علَى كلامِ العربِ (الصولي، ١٩٢٢، ص 125).

كما ظهرَت في الأناجيلِ استعاراتٌ على غرار التّشبيه، ونستطيعُ تمييزها مِن خلال مُركّبِ الجملةِ بدلَ استعارةِ الكلمة المفردة، نحو: “أمَ أيَّةُ امرأةٍ إذا كان عندها عشرةُ دراهمَ، فأضاعَتْ درهمًا واحدًا، لَا تُوقِد سراجًا وتكنسُ البيتَ وتجدُّ في البحث عنه حتّى تجده؟ فإذا وجدته دعت الصّديقاتِ والجّاراتِ وقالت: افرحنَ معي، فقد وجدتُ درهمي الذي أضعته! أقول لكم: هكذا يفرح ملائكةُ الله بخاطئ واحدٍ يَتوب” (لوقا: ١٥: ٨- ١٠).

نتبيّنُ مِن التّمثيلِ السّابق، بيانَ استعارةٍ ضِمنيّةٍ، وهو ما يُسمَّى بالاستعارة التّمثِيليّةِ المنتزعةِ مِن مُتعدِّد، حيثُ أقامَ المُتكلِّمُ الدِرهمَ الضّائعَ في البيت، مكانَ الإنسان الشَّارد الضّال في الدّنيا. كما أقامَ المُتكلِّمُ المرأةَ الباحثةَ، مكانَ الرّاعي الأمين أو الكنيسة، التي تبحثُ عن العُصاةِ لتهدِيَهم سبيل الصّلاح. وقد نتجت الاستعارة عن الخيالَ التَّصويريّ من خلال مُزاوجة انطباعاتٍ سالفةٍ في الذّهن، ليستلّ منها مقارباتٍ تَشبيهيَّةً. فأسقطَ صورةَ البيتِ وما يشتمل عليه على سماتِ البيتِ الكنَسي، فضلًا عن تجسيدِ المُجرّدِ بالمحسوس، حيثُ حَوّلَ الضّال إلى درهم، والهداية باتت كفرحِ المَرأةِ مع الجَاراتِ بالعثورِ على الدِّرهم. وهذا النوع مِن الاستعارات يعتمدُ على إعمالِ المِخيال الذّهني، لإدراكِ واقعٍ مُراد قَصديّ محسوس، هدفهُ تجسيمُ الخيالِ غيرِ الموجود.

 

3-الاستعارةُ البَسيطةُ الأوّليّةُ

وهي تظهرُ لنا في استعارةِ تَحذيرِ بعضِ الفرِّيسيِّين ليسوع: “اخرُجْ فاذهبْ من هنا، لأنّ هيرودس يريدُ أن يقتلكَ. فقال لهم: اذهبوا فقولوا لهذا الثعلب: ها إنّي أطرد الشياطين وأجري الشّفاء اليومَ وغدًا، وفي اليوِم الثالث ينتهي أمري” (لوقا، ١٣: ٣١، ٣٢).

حيثُ استعارَ المُتكلِّمُ كلمةَ الثّعلب للدلالة على القيصرِ هيرودس، وعليه استعارَ صفاتٍ مُحدَّدةً، لمطابقةِ الوصف الذي يَتحلَّى به الملك، لِما في الثّعلبِ مِن سِماتِ المَكرِ والغَدر والخَديعة، لذلك تفيدُنا الاستعارةُ في بيان شخصيّةِ قيصرَ آنذاك، كالمراوغةِ والدّهاء وسفكِ الدّم. إنّ هذا النوعَ مِن الاستعارات يُمكِنُ تصنيفهُ ضِمنَ الاستعارةِ الحقيقيّة البسيطة، لِما بين المُستعار لَه والمُستعار مِنه مِن مُقوِّماتٍ موجودةٍ في الواقعِ المألوف.

فاسترجاع الاستعارةِ لا يحتاجُ إلى خيال، أو إجالةِ فكرٍ وعقلٍ وتدبُّر؛ لكن هذا لا يعني التّطابقَ التّامَّ بين الثّعلب والقيصر، إذ إنّه تطابقٌ في صفاتِ الحالِ والسّلوك فحسب. لكنّنا نتناسَى المُبالغة والتّشبيه، ونصبحُ أمامَ انصهار تداوليّ ما بينَ المعنيين، بغيةَ إثارةِ الفِكر والتّحريضِ على فعلٍ ما، بهدف التّغيير.

مِن ضمنِ معطياتِ التّعبير التّداولي، إقامة جسرٍ بين الظّاهرِ والمُضمرِ، وأفعالُ الكلامِ في التّعبير الاستعاري -هذا الثعلب- تشيرُ إلى حالاتِ الخَوف الاجتماعي وطبيعة الاستبداد، وعدم رضَى المسيحِ والسّائرين على خطاه على تلكَ النّظمِ الاجتماعيّة، التي كانتْ تميلُ إلى صالحِ الفرِّيسيِّينَ آنذاك.

يُعتبر هذا التّشبيه تشبيهًا معنويًّا لا حرفيًّا، أمّا القرينةُ التي تمنع من إرادة المعنَى الحقيقي، فهي استحالة أنْ يقولَ المسيحُ: اذهبوا فقولوا للثعلبِ الحيوانِ، فلا وجودَ لثعلبٍ يَعقلُ أو يُخاطَبَ بالكلام. كما أنَّ هذا النّوع مِن الاستعارات القديمة، ما زال أثرهُا مستعملًا -كما عند بول ريكور (Paul Ricœur)- حتّى اليوم، ولكنّه يُسمّيهِ بالاستعارات الحيّة والميّتة، نظرًا لِبساطتِها وسهولةِ تلمُّسِها واستحضارها مِن طبيعةِ المعيش اليومي. وعليه “فإنّ الاستعارة لا تعني النّقل المجرّد بل الادّعاء، أي إثباتُ المعنَى والمبالغةُ فيه، وكونُ الاستعارة أبلغُ مِن الحقيقة، وإدخالُ المشبّه في جنس المشبّه به، كلُّ هذه الأمور تنفي أنْ تكونَ الاستعارة مجردَ نقل” (هاشم، ١٩٩٤، ص٣٨).

فالاستعارةُ السّابقة لا تنقلُ، بالقدر الذي تُفسِّر لنا ماهيّة الحُكم القَيصري، كونُه مجالًا بعيدًا يشوبُه الغموضُ، حتّى صارَ في حُكمِ المُجرّدات، ومِن خلال تَطعيمها بآخر حِسّيِّ كالثّعلب، يغدو المجال مُجرّبًا مُجَسدًا.

وقد طرحنا أعلاه مثالًا: “هذه المرأة رئيسَةُ المَصرِف الفاسدة”، وبيّنا كيفيّة تداخل قطبين متباعدين (أ) و(ب) لإنتاج قطب ثالث (ج)، وكذلك كيفيّةُ إنتاج قطب رابع (د) جامع. ويُمكِن تخطيطُ الاستعارةِ الإنجيليّة على النّحو الآتي:

  • (أ) = قيصر والسّلطة/ الغاية.
  • (ب) = الثّعلب/ وسيلة.
  • (ج) = المَكر والخَديعة / وسيلة.
  • (د) = المَظلَمةُ والقتل / نتائج.

لكنّنا لا نستطيعُ الرُّكونَ إلى أنّ الاستعارةَ تأخذُ جانبَ تسميةِ الأشياء، لذا فهي تواصليّة، صحيحٌ أنّها تُعنَى بهذا الجانب؛ ولكن لا تقتصرُ عليه فَحَسَب.

إنّ الدّماغ البشريّ قائمٌ على مبدأ التّصويرية، كونُه يُعمِلُ الحواسَّ الخمسَ في إدراكِ ماهيّةِ الأشياءِ في بعض أحوالها، وهذا ما أكّدَهُ لايكوف وجونسون غيرَ مرّة في كتابهما: “الفلسفةُ في الجّسد والذّهن المُتجّسد”، ١٩٩٦م، كما بيّنَا أنّ اللغةَ بطبيعتِها استعاريّةٌ، كونُ اللغةِ هي مِن صناعةِ نظامِه التّفكيري. ونحنُ نلاحظُ في الاستعارة هيرود -الملك -ثعلب، أنّها استعارة بسيطة أوّليّة، وعلى كونِها حقيقيّةً كما بيَّنا سالفًا، لذا نَجِدها تُحَقِّقُ أعلَى نِسَبِ التّداوليّة في الذّيوع والانتشارِ والاستمرار في اعتمادها أمثالًا مسكوكة. ويَرَى جوزيف غرادي (Joseph Grady) أنّ الاستعاراتِ المُعقّدةَ “ناتجةٌ عن استعاراتٍ أوّليّةٍ، تَنبني على تجربتنا اليوميّة بحيث ترتبط تجربتَنا الحسيّة الحركيّة، بمجال أحكامنا الذاتيّة (…)، فمثلًا الاستعارة التّصورية الأوليّة (..) الحنـان دفء؛ لأنّ تجربتَنا الأولَى مع الحنـان تُوافـقُ التّجربة الماديّة للدفءِ النّاتج عن الاحتضان والاتصال الجّسدي” (حفصي، وشقروش، ٢٠٢١، ص٩٩).

وِمِثلُ هذه الاستعاراتِ الأوّليّةِ البسيطة، تتكرَّرُ في العهدِ الجّديد، كما أنّها تُعادُ بصفاتٍ أُخرَى مُتباينةٍ في الخِطابِ المسيحيِّ عُمومًا، فقد شُبِّهَ المسيحُ بالحَمَلِ الوديعِ في جامعِ الوداعةِ والأُلفَة، لِما في طبيعةِ الرُسُلِ مِن اللينِ ومحبّة النّاس والتّواضع والخُلُقِ الرّفيع، على سبيل الاستعارة التّصريحيّة “وفي الغدِ رأى [يوحنّا] يسوع آتيًا نحوه، فقال: هوَذا حَمَلُ اللهِ الذي يرفعُ خطيئةَ العالم” (يوحنّا، ١: ٢٩).

جاءَ تشبيهُ المسيحِ بالأسد في جامعِ الهيبةِ والشّجاعةِ والإقدام، في دفاعِه عن المظلومين ورباطة جأشه في مواجهة الجِّدال الفرِّيسيِّ. لا تناقُضَ بين الاستعارتين التّشبيهيّتين البسيطتين، إذ لا يُشتَرطُ التّطابقُ بالصّفات، طالما يستطيع الإنسانُ أنْ يجمعَ أكثرَ مِن صفةٍ واحدةٍ في سجاياه. وقد لاحظنا أنّ الأناجيلَ الأربعةَ خَلتْ مِن تَشبيهِ المسيحِ بالأسد، وأنّ مثلَ تلكَ الاستعارة البسيطة، لا يُعَوَّلُ عليها في إدراك المجالات الغامضة مِن خلال أُخرى مُجرّبة، بمعنَى أنّ تلكَ الاستعاراتِ تبقَى قابعةً في دائرةِ التّشبيهِ والمَديحِ والمبالغةِ، ولا يُمكنُ عدُّها مِن وسائلِ الفَهمِ والإدراكِ وبناءِ معرفةٍ جديدةٍ “فقال لي واحدٌ مِن الشّيوخِ: لا تبكِ. ها قد غلبَ الأسدُ من سِبطِ يهوذا، ذُرّيّة داودَ: فسيفتح الكتاب ويفضّ أختامه السَّبعة” (رؤيا، ٥:٥).

 

4-الاستعارةُ الأنطولوجيّةُ

تُعَدُّ الأنطولوجيّة توسِعَةً لبعضِ المفاهيم المُجرَّدةِ كظاهرةِ الغلاءِ والطّلاقِ ، مِن خلال إلباسها بعضَ العناصرِ المُجَسّمة، بغيةَ فَهمِ بعضِ أبعادِها المجهولةِ، فنقولُ مثلًا: ارتفاعُ نِسَبِ الطّلاقِ يُدمِّرُ الأسرةَ في لبنان.

إذًا صار الطّلاقُ مفهومًا مِن مفاهيم تشريدِ الأولادِ وتحطيمِ الأواصر الأسريّة وهكذا، غير أنّنا نلتمسُ في الطّلاق معاني أُخرى غير السّالفة، فقد يكون حَلًّا اجتماعيًّا لبناءِ حياةٍ أسريّة ثانية وإبعادًا للسجالِ والخصومات، لذا فنظرتُنا للمجرّد تختلف حسَب رؤيتنا للزّمان، والمكان الذي نتواجد فيه. وعليه نُلاحِظُ الاستعارة بقولِ المسيحِ: “أنا البابُ. فمَنْ دخلَ منّي يَخْلُصُ يَدخُلُ ويُخرُجُ ويَجِدُ مَرعى” (يوحنّا، ١٠: ٩). وكذلك قوله: “أنا الطّريق والحقُّ والحياة” (يوحنّا، ١٤: ٦).

في الآيتين السّابقتين نَجِدُ استعارتين أنطولوجيَّتين، البابُ والطّريقُ، وسنكتفي باستعارة الباب، فهل المسيح بابًا كأبوابِ البيت الحديدي أو الخشبي؟ لقد جاءَتْ الاستعارةُ أنطولوجيّةً في معنًى مجازِيٍّ، في معاني الدّخول إلى جادةِ الإيمانِ والشّفاعةِ والأمن مِن المخاوف، غيرَ أنّ المعاني السّابقة لا يُمكنُ إدرُاكها، إلّا مِن خلالِ عمليّات التّقريبِ الأنطولوجي، وكما أكّدَتْ عليه النّظريّة التّداوليّة إنّ السّياق المحيط بالاستعارة المركزيّة ضروريُّ في تقصّي تلك الاستعارة -المسيح باب- فقد ذُكِر بَعدَها فَمَن دَخَلَ بي.

إذًا يُحيلنا السّياق إلى تفريعِ الاستعارة إلى الأقاليمِ الأرضيّة (الحاويات) وعليه يُشبِّهُ المسيحُ بابَهُ بالمجالِ الحاوي، الذي له جوانيّةٌ داخليّةٌ وخارجيّةٌ سطحيّةٌ، فالبابُ صارَ كالأوعيةِ الكبيرةِ الحاضنة، التي لها سقفٌ وأعمدة وجُدرانٌ وفواصلُ كمُشتملاتِ البيت مثلًا، وفي حالة الولوجِ فيه نكونُ داخلًا بالمحتوَى المادّي، المكوَّن مِن الهيكل وكذلك في حالةِ الخروج، عِلمًا أنّ البيتَ ليس فيه الحدودُ الحقيقيّة، هي حدودٌ معنويّةٌ مُفترَضَةٌ تخيُّلًا.

بهذا المنظورِ نتبيّنُ درجةَ التّفاعلِ بين الوجودِ المُحيطي للسّياق والوجود الفيزيائيّ لنا كجسد. كمثالٍ توضيحي آخرَ نورد ما يلي: دخلتُ ساحةَ المعركةَ الآن، بمعنَى افترضتُ أنّ الميدانَ حاويةٌ مغلقة أو مجالٌ محدودٌ بسور، وله داخلٌ وخارجٌ وأبعاد. وبمثل هذه النّماذج الاستعاريّة اعتقد لايكوف وجونسون أنّها استعارات وعائيّة، غير أنّنا نراها مجازًا عقليًّا، وقد وُضِعت الألفاظُ على حقيقتها، ثُمّ اُستعمِلت لغيرها مِن باب التّوسعة والتّطور والمجاز.

ولعلّ هذه الاستعارةُ تتطابقُ تمامًا مع حديث الرّسول مُحمّد (صلعم): “أنا مدينةُ العلمِ وعليٌّ بابُها” تحتَ استعارة المقولاتِ الكلاسيكيّة أوعية، ترثُ المقولاتُ خصائصها المنطقيّة، “مِن الخصائص المنطقيّة للأوعية، ما يجعلُ إحدَى الخصائص المنطقيّة الأساسيّة للمقولات الكلاسيكيّة، هو تقيُّدُها بالقياس المنطقي الكلاسيكي (…)، وما دام هناك احتفاظٌ بالخصائص الطوبولوجيّة للأوعية في عمليّة الربط، فالنتيجةُ إذًا ستكون صحيحة” (ابن دحمان، ٢٠١٢، ص٩٤).

وهنا نشيرُ إلى أنّ بعضَ نُقّادِ الأدب واللسانيّين، ما زالوا ينظرون إلى اللغةِ اليوميّة والأدبيّة الرّسميّة، على أنّهما تنتميان إلى عالمينِ منفصلين، وعليه ينبغي دراسة كِلا اللغتين بشكلٍ منفصلٍ، غير أنّ لايكوف وتورنر وإيكو، يَنظُرون إليهما على أنّ بينهما أواصرُ مشتركة. إنّ الاستعارات الثّلاث البِنيويّة والأنطولوجيَّة والاتّجاهيّة تمتلكُ تأسيسًا ثقافيًّا مُنبثِقًا مِن طبيعة الإنسان، وباعتبارها مِن طبيعته فهي -الاستعارة- مُتجذّرةٌ فيه.

إنّ استعاراتِ الجِّذورِ التي يتحدثُ عنهـا ريكور هي استعارات ارتبطتْ بمفاهيمَ مُتجذرةٍ في الصُّورِ الذّهنيّةِ للبشر، ولهذا فهي مُرتبطةٌ معًا، وقادرةٌ على استدعاء بعضها لمُجرّدِ ذكرِ بعضها الآخر؛ فكلمةُ اللهُ تَستدعي كُلَّ هذه المعاني أو الصّفاتِ المُرتبطةِ به، فهو المَلكُ، وهو القاضي، وهو الراعي.  فالتّجربـةُ هـي الـتي تـَضُـخُّ تلكَ المعاني، فإذا ذَكـرَ أحـدٌ هـذه الألفاظُ استدعَى مِن خلالِ الشّبكةِ الذهنيّةِ باقيَ الصُّورِ الاستعاريّةِ والصّفاتِ المُستقرَّةِ في الذِّهن، والمُتكوِّنةِ نتيجةَ التّجربةِ، وهذا التّرابطُ بين الصُّورِ الاستعاريّة يجعلُها ثابتةً مُستقرةً في الذّهن لارتباطها بالتّجربةِ، والتّجربةُ الجّديدةُ هي التي تجعلُ الصورةَ حديثةً ومُتجدِّدةً (Ricœur, 1975, p. 142- 160).

ويُمكننا القولُ إنّ الاستعاراتِ الأنطولوجيّةَ أكثرُ إفادةً في تَجسيد الفَهم خصوصًا في المعاني المُجرّدة، إذ تقوم بتجسيمها عبرَ صور قريبة من ذهن المتكلّم. وقد تختلفُ تلك القرابةُ من متكلِّمٍ إلى آخر حسَب النّسق الثّقافيّ الذي يستند إليه. مثلًا نُصوِّرُ: التّشدُّدَ نجسّده برجلٍ شرير، أو ترسُمه أنساقنا بالانغلاق والعصبيّة، أو بالأصولي المُحافظ.

إذَا فالاستعارةُ حسَب رأينا لا تخضعُ لِتجرِبة الإنسان وتصوراته فحسَب -بخلاف النّظرية التّصويريّة والمزجيّة والتّفاعليّة- بلْ تدعَمُها اللغةُ والمخزونُ الأدبي، ونحن على يقينٍ أنَّ الأدباءَ والشّعراء أكثرُ إبداعًا في رصف استعاراتِهم مِن الشّخصِ البعيدِ عنِ الدِّراسات الأدبيّة، وكذلكَ التّجربةُ والمكتسباتُ التّصويريّةُ وغنَى الخيال، كلّها تمدُّ الاستعارةَ بمدادٍ معرفيٍّ إضافي. وعليه تستدعي كلُّ استعارةٍ استعارةً أُخرى قابعة في اللاوعي، أو ترسمُ صورة إضافيًّة في شبكة الذِّهن، فتنمو بذلك معارفَ جديدةً.

 

5-الاستعارةُ في بُعديها الثّقافيّ واللّغويّ

تنوّع الخطابُ الإنجيليُّ بين الأُسلوبِ الكلاسيكيّ المُتمثّلِ بروايةِ الأخبارِ والقَصَصِ والأحداثِ بطريقة السّرد، وبين الأُسلوبِ الفلسفيّ المجازيّ، خصوصًا في أجوبة السّيّد المسيحِ المُكثّفةِ، لذا يحتاجُ الباحثُ إلى تأمُّلٍ وإعادةِ نظرٍ في الدِّلالاتِ التي تَرمي إليها استعاراتُهِ، وعلى سبيل المِثال: “وقال [السّيّد المسيح] لآخر: اتبعني! فقال: إيذَن لي أنْ أمضيَ أوّلًا فأدفنَ أبي. فقالَ له: دع الموتَى يدفنونَ موتاهم، وأمَّا أنتَ فامضِ وبشّر بملكوتِ الله” (لوقا، ٩: ٥٩، ٦٠). ونُلاحظُ كذلك ردَّه لأحدِ مريديهِ وأنصاره، الذين يُريدون اللحاقَ بهِ: “وقال له آخر: أتبعُكَ يا ربّ، ولكنِ ائذن لي أوّلًا أنْ أودِّعَ أهلَ بيتي. فقالَ له يسوع: ما من أحد يضعُ يدهُ على المحراثِ، ثمّ يلتفتَ إلى الوراءِ، يَصلُحُ لملكوتِ الله” (لوقا، ٩: ٦١، ٦٢).

وفي أمثالِ هذه الخطاباتِ إشاراتٌ ورموزٌ قويّة، غير التي تظهرُ على السّطح، ففي: دعِ الموتَى يدفنونَ الموتَى، استعارةُ صفةِ الأموات لبيان حالِ الأحياء وما هم عليه آنذاك مِن الضّياع والانحلال، وهي دلالةٌ إلى كلِّ مَن يعيشُ الخَطيئةَ فهو بِحكمِ المَيّت، وإن كانوا أحياءً بين النّاس، أي أنّهم مَيِّتون في الضَّمير والإخلاص، وما حملُهُم لميِّتي الأجسادِ سوَى العِظَةُ منها والعِبرة. ولعلّ هذا ما تَنبّهَ إليه الإمامُ الشّافعي (ت/٨٢٠) حين قال:

قد ماتَ قومٌ وما ماتَتْ فضائِلُهم،     وعاشَ قومٌ وهُم في النّاسِ أمواتُ.

والجدير بالذّكر أنَّ بعضَ الاستعاراتِ انتقلتْ مِن زمانٍ إلى زمانٍ آخرَ، كما هو حالُ البحثِ في الأدبِ المُقارَن، في التّلاقُحِ الثّقافي وانتقال الآدابِ مِن أمّةٍ إلى أخرَى.

يمكننا القول إنّ الاستعاراتِ في بعضِ النّتاج الروائي والشّعريِّ، أخذَت مادتها الخام مِن الاستعارات الأوليّةِ الوضعيّةِ في الكتابِ المُقَدّس، الذي كان المصدرَ والمُلهِمَ في تكوينها، ثُمّ أُدخِلَت عليها عناصرُ التّوسعةِ والخيال، لِتُصبِحَ استعاراتٍ إدماجيّةً تركيبيّةً، ثم جاءَت مرحلةُ التّمييزِ في إطارِ فكرِ ما بعد الحداثةِ، للكشفِ عنْ هذا المزجِ المُرَكّب، الذي هو مَلكَةٌ لا واعية كسائرِ الملَكاتِ الذِّهنيّة المُصاحِبَةِ للخيال، وذلك وِفقًا لنظريّة فوكونيي وتورنر، التي ارتكزَتْ على مبدأ المَزجِ أو الدّمجِ التّصوري. فقد بيّنت النّظريّة أنّ الاستعارة تقومُ على دمجِ المجالِ الهدفِ في مادّةِ المجالِ المَصدرِ.

إذًا نستنتج أنّ الاستعارة لا تعتمدُ فقط على جانبِ ِخيالِ الذّهني والإسقاطاتِ التّصويريّة، بلْ تَدخلُ في صِناعتِها عَواملُ التّأثير الثّقافي واللغوي، وهذا ما وجدناهُ في بعضِ الأحاديثِ النّبوية في قول الرسولِ محمّد (صلعم) عن عُمر بن الخطاب: “كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤول عن رعيته، والأمير راع”. وفي هذا القول تّناصّ مع قولِ السّيّد المسيحِ: “أنا الرَّاعي الصّالح، أعرِفُ خرافي وخرافي تعرفُني” (يوحنّا، ١٠: ١٤). وفي الرّاعي الصّالح تشبيهٌ بليغٌ.

وفي تشبيه السّيّد المسيح لنفسه: أنا الرَّاعي الصَّالح، لا تعني رعايةَ القطيع، وإنْ كانَ المسيحُ استعارَ اللفظَ مِنَ الرّعيِ للغنمِ؛ لكنّهُ أطلقَه للدلالةِ على معنَى القِيادة ومتابعة شؤونِ النّاس وهدايتهم، فمقصديّةُ المُتكلّمِ ومُناسَبةُ الاستعارةِ للتَّدليلِ فيها، ضرورةٌ في فَهمِ الهرمنوطيقيا.

وعليه استقرّتْ منذُ ذلكَ الزّمانِ الغابرِ مفهوماتُ الرّاعي الخليفة والنّاس الرّعيّة. إنَّ مثلَ هذه التّداوليّةِ وانتقالِ بعضِ الألفاظِ والأفكارِ، لا تعني جمودَها على معانٍ ودلالاتٍ غائيّة، وإنّما تتطوَّرُ لِمحاكاة الضَّروراتِ وتسميةِ الأشياء، فكما تتطوّرُ الصّناعةُ الحديثة، كذلك الأفكارُ والاستعارات والقَالِبُ اللغوي، مع بقاءِ قوّة الجّذر القديم مِحورًا أساسيًّا فيها، ما يعني أهميّة الجوانبِ التّعويضيّة مِن ذلك الجّذر، لتغطيةِ بعضِ النّواقص التي تعتري الجَانبَ اللغوي في لاستعارةِ، فالكائنُ البشري يَخلقُ استعاراتٍ خارجَ نِطاقِ اللغةِ القديمة لضرورةِ الاستمرار “تخلق اللغةُ استعاراتٍ حتّى خارجَ الشّعر، وذلك لضـرورةِ تسمية الأشياء” (إيكو، ٢٠٠٥، ص٢٦٤).

ومِن وجهةِ نَظَرٍ أخرَى فإنَّ قَبولَنا انفرادَ المتكلِّمِ بالمعنَى الحصريِّ للاستعارة، يترتّبُ عليه تنحية المَخَاطَب، الذي هو شريكٌ في عمليّة التّخاطب الاستعاري، فليسَ شرطًا عليه أنْ يَفهم المُتكلّم، وهنا قد تُحْمَلُ الرسالةُ الاستعاريّة على غيرِ المُرادِ منها، لذا يقولُ إيكو  في كتابهِ “التّأويل بينَ السّيميائيّات والتّفكيكيّة” (2000، 54): إنّ عمليّة تأويل الاستعارة تقومُ على التّفاعليّةِ، تفاعليّةُ المؤوّل مع النّصِّ، مع النّظر إلى المحيط الاستعاري وسياق النّصِّ ومراميه. إنّ الدَّوالَّ السّابقةَ مساعدٌ إساسيٌ في التّأويل، ولا علاقةَ لها بقصدِ المُتكلِّم. وعليه لا بُدّ مِن إعمالِ المتلقّي كطَرَفٍ لا غِنًى عنه في العمليّةِ الاستعاريّة التّداوليّة. وهذا ما لاحظناه في سؤال تلميذه يوحنّا الرّائي بن زبدي، إذ يسألهُ: “يا معلّم، رأينا رجلًا يطرد الشّياطينَ باسمكَ فأردنا أن نمنعه، لأنَّه لا يتبعك معنا. فقال له يسوع: لا تمنعوهُ، فمَن لم يكن عليكم كان معكم” (لوقا، ٩: ٤٩).

ففي قولِ السّيّد المسيح الكثير من التَّكثيفِ: لأَنَّ مَنْ لم يكن عليكم كان معكم، قد يُفهم مِنها أنّها مكيافيليّة سياسيّة إيطالية (١٥٢٧) التي تُبَرِّر المَكرَ والازدواجيّة لِمَن أراد أنْ يسوسَ الحُكمَ والزّعامةَ، فالغايةُ تُبرِّرُ الوسيلة، بالذّات حينما تظهرُ الأنانيّة صارخَةً عندَ التّلاميذ في منعِهِم عملَ الخيرِ بقولهم: فَمَنَعنَاهُ، وقد يُفهَمُ القصدُ: نحنُ فقط مَن يفعَلُ الخيرَ للنّاس بهذهِ الحياة.

لكنّ المقولةَ لا تعني الظّاهرَ والسّطح كما شَرحنا، وإنّما المعنَى يكتملُ بما يُفرِزُهُ السّياق مِن دعاماتٍ تَعزيزيّةٍ، وإلى خلفيّات التّأويلِ في آيات الأناجيل الأخرَى، التي تَرتبطُ بتلكَ القصّة، إضافةِ إلى معطيات السّاردةِ في الإصحاح رقم ٤٩ عند لوقا، بمعنى لا بُدَّ مِن إعمال التّعاضدِ المُشترك في بيانِ تداولِ القَصد، خصوصًا إذا تَعارض التّفسير التّداولي مع قولِ المسيحِ: “مَنْ لم يكن معي كان عَلَيَّ” (متّى، ١٢: ٣٠).

وعليه فقد غاب عنِ التّلاميذ، فكرةَ أنّ عملَ الخيرِ لا يقتصرُ على السّيّد المسيحِ، وإنّما يتعدّاهُ لكلّ مَن لم تُتَحْ لهُ فرصةُ اللحاقِ به، وكذلك المَسكونيّةُ الكَنَسيّةُ التي لا تقومُ على التَّجمعاتِ، بلْ على الإيمان.

أمَّا في ما يَخُصُّ الحرفيّة الاستعاريّة، نكونُ قد قَصرنا المعنَى الحاصلَ على معطياتِ المعاجم، وتركنا في المقابلِ فكرة أنّ لكلّ مقام مقال وعاملَ السّياق، وبذلك سنصبحُ أمامَ تفسيرٍ مُعجميٍّ أُحاديٍّ، لا ينتمي إلى الواقع؛ ولكن هناك استثناءٌ لقَبولِ قصدِ المتكلّم، وذلك في حالة انتمائهم إلى مقامٍ مُشترك وثقافة مُشتركة ، وبذلك يكون بين الاثنين -تناغم- فضاءٌ بيئي مشتركٌ جامعٌ، ومع ذلكَ قدْ تخرجُ الاستعارةُ عن معنَى المُتكلِّم.

ولنضربْ مثلًا بأنَّ المتكلِّمَ قالَ في معرض كلامِه: إنَّ المَلِكَ اللبنانيَّ زارَ مِنطَقَةَ عمشيت، فالمتلقِّي سيفهَمُ أنّ المتكلِّمَ يقصدُ الرَّئيس، فليسَ هناك ملكٌ في لبنان؛ ولكن قد تكونُ كلمةُ ملكٍ مقصودةً، بمعنَى التّمليك الانتقائي في احتكار ملكيّةِ الطَّائفة المارونيّة من دونَ باقي المسيحيّين، خصوصًا إذا ما كانَ تمديدًا دكتاتوريًّا كصفقةِ تسييسٍ تِجاريّةٍ، وبذلكَ سَنَفهَمُ أنّ المتكلّمَ الأرثوذوكسيَّ مُمتعضٌ ومُعترضٌ، فلا مَلِكَ عِندهُ إلّا السّيّد المسيح. وهذا ما يُمكن تَسميَتُهُ بالاقتضاءِ المعرفي المَسكوتِ عنه ضمنيًّا، “أنَّ الكلام الملفوظ (…) قد يقتضي معلوماتٍ (..) غيرَ واردة في التّلفظ، وقد يَطرح المتلقّي أسئلةً (…)، عندما أقول: مَلِكُ فرنسا، فهناك (…) أشياءُ يَجبُ أنْ تبقَى داخـلَ ذِهن المتلقّي، أفترضُ: لسْتَ متأكدًا أنّ لِفرنسا ملكًا، نُدرِك أنّ المُلقِي (..) ليس مجبرًا على إعطاءِ كلّ (..) المعلوماتِ للمُتلقّي” (مِصباحي، ٢٠٢١، ص٧٢٤).

لذلك يقولُ إيكو في هذا الصّدد “إنّ الاستعارةَ ليستْ بالضرورةِ ظاهرةٌ مقصودةٌ، فمِن المُمكن أنْ نتصوّرَ حاسوبًا يُنتجُ مِن خلال تراكيبَ عفويّةٍ عباراتٍ مثلَ: وسـط، درب، حياتنا، لـيـقـومَ مـؤوِّلٌ ما، بمنحِها معنًى استعاريًّا” (إيكو، ٢٠٠٠، ص٢٣٨).

بذلك يضَعُنا أمبيرتو إيكو أمامَ مبدأ العفويّة غيرِ القَصديّة، بمعنَى قد يقولُ أحدُنا استعارةً عفوَ الخَاطرِ، تَخلو مِن أيّ إشارةٍ إلى معنًى مِن المعاني، وكأنَّها روتينٌ صادرةٌ عنِ اللاوعي مِن غيرِ إرادة المتكلِّم، ما يجعلُ المؤوِّلَ أمامَ خيارين: إمّا الرِّجوعُ إلى السّياقِ لاكتشافِ معناها الحقيقي، وإمّا إهمالُها بحسَب المعطياتِ الثقافيّة المُشتركة بينهما.

وقد عُنِيَتِ التّداوليّةُ زَمنَ موريس (١٩٣٨) بالخِطاب التّواصلي؛ لكنّها توسّعتْ لتحليلِ الخِطاب مثل: أنْ نقولَ كلامًا ما مع إرادةِ شيءٍ ثانٍ، وإلى مَن كانَ الكلامُ؟ ومن أجلِ أيِّ شيءٍ؟ ومَنْ المُتكلّمُ؟ وما القصد المجازي؟ فقد درسَ موريس علاقةَ العلامة بالمُستخدِم مع مراعاةِ المقام والضّمائر والزّمكان والاستعاريّة؛ لكنّ التّطوّر الملحوظَ جاءَ مع جون أوستن (١٩٥٥/ ١٩٦٢) وويليام جيمس (William James) اللذين يشكّلان قطبَي الرّحَى في ربطِ التّداوليّةِ بالحديثِ اللغوي لِفَهمَ مَقصِديّةِ الكلامِ وتواصُليَّتَهُ، عبرَ الثّلاثيّة التّقاطبيّة، المُلقي والمُتلقّي والحَدث الكلامي. كما تَهتمُّ التّداوليّة بتوصيف العمليّة التّخاطبيّة. والشّروطُ السّابقةُ مأخوذةٌ بالاعتبار عندنا بجدليّة الحِجاج والكلام الاستعاري. وتَجدُرُ الإشارةُ هنا، إلى أنّ الخطابَ الإنجيلي يَكادُ يخلو مِن تراسلِ الحواسّ، كتداخل حاسّة الشّمّ باللّمس، والسّمع بالنّظر… إلخ، فهل كانتِ اللغةُ وقتئذ قاصرةً عنْ إعمالِ التّراسلِ المعروف حاليًّا، في تطوير خطاباتِها بالانزياح عن التّقليد الكلاسيكي؟!

 

الخاتمة

توصّلَتْ هذه الدّراسة إلى أنّ مصادر هذه الملفوظة “الاستعارة” منذ القِدَم قد أحدثت إرباكًا في آليّة التّعاطي معها. والباحثُ في البلاغةِ عمومًا يجدُ نفسه مُخيّرًا أمامَ نظريّتين: النّظريّة الكلاسكيّة التي فسّرتِ الاستعارةَ بقيامِها على الجّانبِ اللغوي خصوصًا التّشبيه، إضافة إلى علاقاتِ الاستبدالِ والمُقارنةِ بينَ المعنيَين: التّعيينيّ والتّضمينيّ أي المجازيّ، وقد حاولَ أصاحبُ هذا الاتّجاه وضع مؤلفاتٍ ترسمُ قوانينَ عملِها في الأعمالِ الأدبيّة.

وجاءت النّظرياتُ المُعاصرةُ لتعتبر المجازَ عُمومًا مِن المُنجزات الحياتيّة للبشر، وليس بكونها إبداعًا أدبيًّا فحسب، بل باعتبارها متداولة في حياتنا اليوميّة.

وعليه فهي لا تقتصرُ على الشّعرِ والرّواية بلْ نجدها في الخِطاب اليوميّ، سواءٌ أكان دينيًّا أم سياسيًّا أم إعلامّيًّا أم قضائيًّا، والسّبب في وجودها يعودُ إلى طبيعتِها وطبيعتنا معًا، كونها تتماهَى مع طبيعة الأنساقِ التّصويريّة للإنسان، الذي يستند إلى المعرفة الاستعاريّة لفَهمِ العالَم وميتافيزيقيا المُجرَّدات، وبذلك فكلُّ معرفةٍ جديدةٍ في حياتنا تتطلّب تبادلاتٍ استعاريّةً بين سابقٍ ولاحقٍ،

فالنّظريّات الحديثةِ التي عُنِيَتْ بدراسة الاستعارة، كالنّظريّة الاستبداليّة تتطابقُ  إلى حدٍّ ما مع الكلاسيكيّة، وتختلف معها في التّشخيص. أمّا النّظريّة السّياقيّة فقد انطلقتْ مِن السّياق أساسًا لعملياتِ التّفسير وفَهم أبعاد الجملة الاستعاريّة، بمعنَى أنّ بِنيةَ السّياقِ لا غنى عنها لتأويلِ الاستعارة.

أمّا فيما يَخصُّ النّظريّةَ التّفاعليّة فقد أفردنا الاهتمام بها، كونِ النّظريةِ البِساطَ الأوّل والوعاءَ الحاضنَ للاستعارة التّصويريّة، فقد فَسّرتِ الاستعارةَ مميّزة بين البؤرة الاستعاريّة والإطار المحيط لها.

وعليه لقدْ تميَّزَ الخِطابُ الإنجيليُّ بعباراتٍ واضحةٍ مأنوسةٍ سهلةِ الفَهمِ والإدراكِ، بعيدةً عن التّكلفِ والتّعقيد كونه خطابًا يُحاكي جميعَ شرائح النّاس، عبر الأساليب القَصَصيّة تارةً، وتنوِّع أحداثها بضربِ المَثل تارةً أخرَى.

وقد عنيت دراستُنا تُعنَى بالجّانبِ الاستعاريِّ والتّداوليِّ فلا يُمكنُنا فَصل الجّملة المجازيّة والاستغناءُ بها عنِ السّياق ومجرياتِ قصَصِ الأحداثِ وتاريخها، إذًا لا بُدَّ أثناء تحليلها مِن إشراكِ المرجعيّات التي ولَّدتْ الأثرَ الاستعاري في الإنجيل. كذلك لا بُدَّ مِن إشراك القارِئ في إنتاج المعنَى مِن خلال معطياتِ السّياقِ والنّصِّ كاملًا.

وعليه لا يُمكِنُنا الجّزمُ باصطباغِ الطّابع الشّخصي في توليدِ الاستعارة بمؤلِّفي الأناجيل مرقس ومتّى ولوقا ويوحنّا، غيرَ أنّهُ مِن الطَّبيعي أنْ يتأثّر الخِطاب بِمنتجه وإن كان تسجيلًا للمواقف، وهذا ما نلحظُهُ في تَبايُن الأساليب الخبريّة والإنشائيّة وتلوّنها في تداوليّة أفعالِ الكلام. ونشيرُ هنا إلى أنّ طبيعة اللغةِ الشّفوية تختلفُ عنْ طبيعةِ اللغة المكتوبةِ، فقياسُنا على دلالةِ الاستعارة وبعدِها التّداوليِّ سيتأثّرُ بالحمولات المعرفيّة لتلك الطبيعة المنقولة. إنّ الإنسانَ بطبيعته لا يُفسِّرُ ماهيّةَ الأشياءِ ولا يستطيعُ أن يُفكِّر بها إذا كانتْ غائبةً عن بالِه، إلّا إذا كانتْ لها صورةً سابقةً تُماثلها في الذّهنِ.

فالمعنَى الاستعاري عنده لا ينكشفُ إلّا مِن خلال سياقاتٍ متعدّدةٍ مختلفة. وبناءً على ما ذُكِرَ فالسّياق التّداولي يتبلورُ في شخصية المُتكلِّم والمتلقّي، نضيف إلى ذلك العواملِ الاقتصاديّةِ والاجتماعيّة، والأحوال الزّمكانيّة والنّفسية.

بالتّالي فإنّ هذا التّفاعلَ بين النّصِّ والمتلقّي إذا افتقدَ إلى هذه العوامل التبس المعنى. من هنا لا بُدَّ مِن تعدُّد القراءات وتحليلِ الخِطاب وفقَ تأويل معيّن، وقرينةٍ تجمع بين الجّملة اللغويّة والعوامل المحيطة. وبذلك نستطيعُ الكشفَ عن البُعدِ الحقيقيِّ في المجاز الاستعاريِّ، إذ لا يخلو خطاب مِن الخطاباتِ إلّا وفيه انزياحٌ عن الأصل الوضعيِّ للّغة، بحكمِ التّقدمِ الزّمني وتطوُّرِ الإنسانِ.

غيرَ أنَّ أثرَ بقائِها مَحكومٌ بأمرينِ اثنين: الأوّل يكمن في شهرتها قوّة دلالتِها وتأثيرها في أفعالِ الكلام المُتولِّدةِ عنها، والثّاني إعجابُنا نحنُ -إعجابُ المُتكلِّمينَ بها- مِن خلالِ قناعاتٍ أديولوجيّةٍ مَحضة، فَنُبدي التّرديدَ باستعمالِها كأثرِ استتباعٍ وتقليد، لا لأنّها ذاتُّ حمولاتٍ وأبعادٍ عميقةٍ، بلْ كنوعٍ مِنَ الافتتانِ والإعجاب وعادةِ التّقليد.

وأثبتت الاستعارات التّصويريّة بأنّ مُفرزاتِ الزّمكانَ، لها حَمولاتُ تصويرٍ نَقليّةٍ، تُسهِمُ في تَطبيقِ المُشاهداتِ في الذِّهن، أي نتيجةَ الاكتساب البيئي.

وبالتّالي، إنّ الاستعارات الإنجيليّة جاءت من صلب بيئة السّيّد المسيح ومجتمعه، وكانت قريبة من فهم النّاس وتفكيرهم، هدفها التّعليم والإرشاد، لكنّها بقيت رغم مرور الأيّام مناسبة لكلّ زمان ومكان؛ فهل يعود السّبب إلى انتشار الكتاب المقدّس، وتحديدًا العهد الجديد، وتداوله عبر الأجيال؟ أو، بمعنى آخر، هل بقاء إرث ثقافيّ أو دينيّ يساهم في بقاء الصّورة البيانيّة واستمرار استعمالها متحدّية تبدّل الأحوال والتّطوّر الذي يصيب المجتمعات؟

 

قائمة المسارد (المصطلحات) مع المقابل الأجنبيّ ودلالاته الاصطلاحيّة

 

الاستبدالُ inference: “عَلَيْنَا التَّسْلِيْمُ بِدَوْرِهِ، ونَظَرًا لِانْعِدَامِ العَلَاقَةِ بَيْنَ الكَيَانَاتِ والكَلِمَاتِ، فَإنَّ مُهِمَّةَ المُسْتَمِعِ تَتَمثَّلُ فِيْ الاسْتِدْلَالِ الصَّحِيْحِ الّذي قَصَدَ المُتَكَلِّمُ تَحْدِيْدَهُ باسْتِخْدَامِ تَعْبِيْرِ إشَارَةٍ مُعَيَّنٍ” (يول، ٢٠١٠، ص٤٠).

 

تحليلُ الخطابِ Discourse analysis: “لتحليلِ الخطاب تحديدات متنوّعة (…) فهو تحليل استعمال اللغة، كما هناك تعريف آخر: دراسة الاستعمال الفعلي للغة من قبل ناطقين حقيقيّين في أوضاع حقيقيّة. وفي البلدان الأنجلوساكسونية خصوصًا، العديد من الناس ينظرون إلى تحليل الخطاب وتحليل الحديث وكأنّهما شيء واحد نظراً لكونهم يعدّون الخطاب نشاطاً تفاعليًّا أساسًا” (منغنو، ٢٠٠٨، ص٩).

 

التّداوليّة Linguistic pragmatics: هي دراسةُ كيفيّةُ إيصالِ أكثرَ مِمّا يُقال” (يول، ٢٠١٠، ص١٩).

 

الحِجاجُ Argumentation: “هو في صلب التّصوّر القديم للخطابة (…) الذي قد يرتبط به أي الإقناع. وقد وضع هذا الأثر في المرتبة الأولى في التعريف الكلاسيكي الجديد الذي وضعه برلمان وأولبراخت وتيتاكا. فموضوع النظرية الحجاجية هي دراسة الفنّيّات الخطابيّة التي تُمكن من الحصول على موافقة العقول على الأطروحات التي تعرض عليها أو دعم موافقتها. وقد وُسِّع مجال الحجاج ليتجاوز الأجناس البلاغية التقليدية الكبرى، ليطابقَ مفهوم المطارحة بكلّ أشكالها” (شارودو ومنغنو وآخرون، ٢٠٠٨، ص٦٨).

 

السّياقُ Contexte: “يسعى تحليل الخطاب إلى ربط الملفوظات بسياقاتها (…)، غير أنه لا يدرس الملفوظات بشكل محايث immanente (…) لا يوجدُ إجماعٌ حول طبيعة مقوّمات السياق، فهايمس يَدرجُ المشاركين والمكان والزمان والغاية، ونوع الخطاب والقناة واللهجة المستعملة والقواعد التي تحكم التداول على الكلام (…) أما البعض الآخر، فيدرج معارف المشاركين حول العالم (…) والمعرفة بالخلفية الثقافية للمجتمع” (منغنو، ٢٠٠٨، ص٢٧، ٢٨).

 

السّياق الدّاخلي Cotexte: “إنّ السّياق الخارجيّ في تضادٍ مع السّياق الداخليّ كتضاد المحيط النصّي المباشر لمحيطه غير النصّي، وتكمن الصعوبة ها هنا في تمييز ما هو من قبيل النصّ عمّا هو ليس كذلك. هناك دارسون لا يقصرون مفهوم النّص على الوحدات اللغوية، بل يدرجون فيه العناصر التي هي من قبيل الحركة التي تصاحبها (الحركات، إيماءات الوجه …) بل كذلك أفعال actions المتفاعلين أثناء تبادل الكلام، لكن في الواقع (…) يُحَبَّذُ التميّيزُ بين السّياق اللغوي والسّياق غير اللغوي” (منغنو، ٢٠٠٨، ص٣٥).

 

القَصدُ intention: أفعالٌ عقليّةٌ بالإصرار، كالكتابة والحساب والقيام بأعمال اليد. القصديّة Intentionality: توجّه، كالمفعول لأجله، وهي تتعلَّقً بالرغبات والمخاوف والمعتقدات، وهي غير نابعة مِن الإرادة الكُليّة فهي تُشبه الاكتساب الفطريّ وهي أفعالٌ غيرُ عقليّة. وكلا المصطلحين حسَب مفهوم سيريل مِن كتابه: القصديّةُ بحثٌ في فلسفةِ العقل:

“يَعْتَقِدُ كَثِيرٌ مِن الفَلَاسِفَةِ أنَّ الاعْتِقَادَ Belief والرَّغْبَةَ Desire، يُمَثِّلَانِ الحَالَاتِ القَصْدِيَّةَ الأساسيَّةَ. وَأوَدُّ أنْ أُبَيِّنَ أنَّ بَعضَ الأسبَابِ المُؤيِّدَةِ أوِ المُعَارِضَةِ، لِنَسْبِ مِثْلِ هَذِهِ الأفْضَلِيَّةِ لَهُمَا. أُحَاوِلُ بِشَكْلٍ عَامٍّ الإحَاطَةَ بِدَرَجَاتِ الاعْتِقَادِ مِثْلَ: الشُّعُورِ باليَقِيْنِ. أو وُجُودِ مُجَرَّدِ إحْسَاسٍ، أو الافْتِرَاضِ، والعَدِيدِ مِن دَرَجَاتِ الإقْنَاعِ الأُخْرَى. وأُحَاوِلُ فِي حَالَةِ الرَّغْبَةِ الإحَاطَةَ بِمَعَانٍ: التَّمَنِّي العَوَزِ، السَّعْيِّ، الاشْتِهاءِ الاشْتِيَاقِ، ودَرَجَاتٍ أُخْرَى لِلرَّغْبَةِ” (سيريل، ٢٠٠٩. ص٥٣).

 

لائحة المصادر والمراجع

– ابن دحمان (عمر)، الاستعارات والخطاب الأدبي، أطروحة لنيل درجة الدكتوراه، منشورة، إشراف بوجمعة شتوان، جامعة مولود معمري، 2012.

– … (٢٠١٠)، “تقنيات استخدام الاستعارة الأدبية الجديدة من منظور معرفي معاصر”، الخطاب، ٥(٧)، 2010، ١٤٢- ١٦٠.

– أحمد (عطيّة سليمان)، الاستعارة القرآنية في ضوء النّظريّة العِرفانيّة، المكتبة الأكاديميّة الحديثة للكتاب الجامعي، 2014.

– أمين (فليسي)، “ملامح العرفانية وعلاقتها بالتداولية الغرايسية”، الممارسات اللغوية، 5(1)، 2014، ١٢٩- ١٤٢.

– إيكو (أمبيرتو)، التأويل بين السيميائيّات والتفكيكيّة، ترجمة سعيد بن كراد، المركز الثقافي العربيّ، 2000.

– … السيميائية وفلسفة اللغة، ترجمة: أحمد الصمعي، المنظمة العربية للتّرجمة، 2005.

– البوعمراني (محمد الصالح)،  السيميائية العرفانية الاستعاري والثقافي، مركز النشر الجامعي، 2015.

– حفيصي (منى وشقروش عبد السلام)، “الاستعارة التصورية وفهم العالم، رؤية في المفاهيم الإجرائية ونظام الذهن، إشكالات في اللغة والأدب، ١٠(٤)، 2021، ٨٩- ١٠٢.

– سيريل (جون)، القصديّة: بحث في فلسفة العقل، ترجمة أحمد الأنصاري، ط١، دار الكتاب العربي، 2009.

– شارودو (باتريك) ومنغنو (دومنيك)، معجم تحليل الخِطاب، ترجمة عبد القادر مهيري وحمادي صمود، ط١، المركز الوطني للتّرجمة، دار سيناترا، 2008.

– الشيخ (ممدوح)، عبد الوهاب المسيري مِن الماديّة إلى الإنسانية الإسلاميّة، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، سلسلة أعلام الفكر والإصلاح، 2008.

– الصولي (أبو بكر)، أدب الكاتب، تحقيق: بهجة الأثري ومحمود شكري الآلوسي، المكتبة العربية البغداديّة، 1922.

– علوي (حافظ إسماعيلي) والمتوكّل (أحمد) وآخرون، التداوليات: علم استعمال اللغة، ط٢، عالم الكتاب الحديث، 2014.

– العلوي (مروان مولاي) والرامي (لبنَى)، الاستعارة المسترسلة وانسجام النصّ الشعريّ، الكلمة، ع١١٥، 2016.

– عمايري (عزّ الدين)، “قراءة في كتاب الاستعارات التي نحيا بها، لجورج لايكوف ومارك جونسن”، العمدة في اللسانيات وتحليل الخطاب، ١(١)، 2017، ١٤٥- ١٥٦.

-غُنَيم (أميرة)، المزج التّصويريّ: النّظريّة وتطبيقاتها في العربيّة، ط1، دار مسكيلياني، 2019.

– قريرة (توفيق)، الاسم والإسمية الأسماء في اللغة العربية: مقاربة نحوية عرفانية، مكتبة قرطاج للنشر والتوزيع، 2011.

الكتاب المقدّس: العهد الجديد.

– لايكوف (جورج) وجونسون (مارك)، الاستعارات التي نحيا بها، ترجمة عبد المجيد جحفة، ط٢، دار توبقال للنشر والتوزيع، 2009.

– لحمادي (فطومة)، “السياق والنصّ استقصاء دور السياق في تحقيق التماسك النصّي”، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة والاجتماعية، 2008، ١(٢)، ٢٤٣- ٢٧٢.

-المتوكّل (أحمد)، اللّسانيّات الوظيفيّة، ط1، دار الكتاب الجديدة المتّحدة، 2010.

– محمد (أحمد عزّاوي)، “التقديم السينمائي للأحداث في رواية الحفيدة الأميركية، لإنعام كجه جي”، سُرَّ مَن رأى، كليّة الآداب، جامعة تكريت، ١٢(٤٥)، 2016، ٣١٥- ٣٣٦.

– مقبول (إدريس)، الأسس الإبستمولوجية والتداولية للنظر النحوي عند سيبويه، عالم الكتاب الحديث للنشر والتوزيع، 2006.

– مصباحي (عبد العزيز)، “التداولية؛ مفاهيمها، جذورها الفلسفية واللسانية”، علوم اللغة العربية وآدابها، ١٣(١)، 2021، ٧١٤- ٧٢٨.

– منغنو (دومينيك)، المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب، ترجمة: محمد يحيان، ط١، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2008.

– نحلة (محمود أحمد)، آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، دار المعرفة الجامعيّة، 2002.

– هاشم (زينب يوسف عبد الله)، الاستعارة عند عبد القاهر الجرجاني، رسالة مقدّمة لنيل درجة الماجستير في البلاغة العربية، منشورة، إشراف دكتور علي العماري، جامعة أم القُرى، 1994.

– يول (جورج)، التّداوليّة، ترجمة قصي العتّابي، ط١، الدَّار العربيَّة للعلوم ناشرون، 2010.

 

-Fauconnier (G). & Turner (M.), The way we think: conceptual blending and the minds hidden complexities, New York, Basic Books, 2002.

([1] ) –د. دورين نصر: حائزة شهادة دكتوراه في اللّغة العربيّة وآدابها من معهد الآداب الشّرقيّة-جامعة القدّيس يوسف، بعنوان: الوطن في تحوّلاته عبر القصيدة مضمونًا وبناء عند الشّعراء الثّلاثة: الشّاعر القرويّ وخليل حاوي ومحمّد الماغوط. تدرّس في الجامعة اليسوعيّة مادّة تحليل النّصوص، وفي جامعة البلمند. وهي عضو في تحرير المعجم التّاريخيّ للّغة العربيّة في الشّارقة، ورئيسة رابطة المثقّفين العرب في لبنان، وعضو اللّجنة العلميّة للمؤتمر الدّوليّ الثّامن للدّراسات العلميّة. لها العديد من المؤلّفات المنشورة، منها : شربل داغر: قصيدتي، معهم، وبلساني (2020)، قصيدة النّثر: محمّد الماغوط أنموذجًا، وإصدارات شعريّة، وقراءات نقديّة عديدة، وأبحاث منشورة في مجلّات محكّمة.

-أ. وعد آل حسن: طالب دكتوراه في جامعة القدّيس يوسف – بيروت. مدرّس لغة في عدّة مدارس عربيّة: لبنان واسطنبول وسوريا. منقّح لغويّ سابق. باحث ألسنيّ في فكر الحداثة وما بعدها.

عدد الزوار:56

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى