أبحاثاللغة والأدب والنّقد

بلاغة اللّغة وجماليّة الإيقاع في شعر الوطن عند الشّاعر فضل مخدّر

بلاغة اللّغة وجماليّة الإيقاع في شعر الوطن عند الشّاعر فضل مخدّر

قراءة نموذجيّة لظاهرة الإيجاز والإطناب والمساواة في ديوان «صلة تراب»[1].

La rhétorique et l’esthétique du rythme dans la poésie patriotique de Fadel Moukhadder – Une lecture analytique des phénomènes de concision, d’amplification et d’équivalence dans le recueil «Silat Turāb» (Liens de terre)

حنان مطر

Hanan Matar     

تاريخ الاستلام 22/7/2024                                    تاريخ القبول 5/4/2024

 

الملخّص

قراءة نموذجية في بلاغة اللّغة وجمالية الإيقاع في شعر الوطن عند الشّاعر فضل مخدّر، تتناول ظاهرة الإيجاز والإطناب والمساواة. اختيرت النماذج الشعريّة المقروءة من خمس قصائد من ديوان «صلة تراب»، دُرِست فيها إلى جانب الظّاهرة الأنموذج، موارد الاستخدام النحوي البارز الذي أثرى المعنى في هذه الظّاهرة، وكذلك دُرِست نماذج من المعجم المستخدم، وحركة الضّمير، وعناصر الإيقاع الدّاخليّ والخارجيّ، وما إلى ذلك ممّا يمكن أن يُرصد في التّأويل الدّلاليّ المحتمل الذي يفضي في النّتيجة إلى تحفيز مشاعر الاعتزاز بالوطن والفخر بمقاومته وبطولاته وأمجاده.

الكلمات المفاتيح: الإيجاز، الإطناب، المساواة، الحذف، الإيقاع، الوطن، المقاومة، الفخر، الثّورة، الحريّة، الظّلم، الحياة…

Résumé

 Cette étude propose une lecture analytique de la rhétorique et de l’esthétique du rythme dans la poésie patriotique du poète Fadel Moukhadder, en se concentrant sur les phénomènes de concision, d’amplification et d’équivalence. Les poèmes étudiés sont tirés de cinq œuvres du recueil «Silat Turāb» (Liens de terre). Outre ces phénomènes, l’étude porte également sur l’usage saillant de la syntaxe qui enrichit le sens dans le contexte des phénomènes, et analyse des échantillons du lexique utilisé, l’usage des pronoms et les éléments du rythme interne et externe, ainsi que d’autres aspects similaires qui peuvent être observés dans l’interprétation sémantique potentielle, visant tous à susciter un sentiment de fierté patriotique, valorisant la résistance, les exploits et la gloire de la nation.

Mots-clés

 concision, amplification, équivalence, omission, rythme, patrie, résistance, fierté, révolution, liberté, injustice, vie.

 

 

تؤدّي اللّغة دورًا تعبيريًّا تواصليًّا في المجتمعات الإنسانيّة، يستعملها الناس في حياتهم اليوميّة وسيلةَ تواصلٍ ضرورية، ويلجأ إليها المبدعون منهم، يأخذون منها النواة المتشكّلة من القواعد النحوية، ويُضفون عليها من قرائحهم المتشكّلة من الصّورة البلاغية والإيحائية، وهذا ما يسمها بـ«ـاللّغة الإنسانيّة» عند الحديث عن ماورائيّتها.

وفي حديثنا عن الأدب في مرسلةٍ ما، تأتي هذه اللّغة إمّا نثرًا يحملُ رسائل بطابعٍ فنّي مؤثّر، وإمّا شعرًا. ويُعدُّ الشّعر من أرقى الفنون التّعبيرية، بما له من أثر في العقل والنفس معًا، ووجه التباين بين اللّغة النثرية واللّغة الشعريّة، أنّ اللّغة الشعريّة تلجأُ إلى التّعبير المنزاح، فهي «لا تمنح ذاتها بنفس الكيفية التي تهبنا إياها اللّغة النثرية»[2]. والمتلقّي «العميق»، ذو الذّائقة الأدبيّة، هو من تجذبه بلاغة الكلمة وسحر معناها، فكيف  إذا ما كان هذا المعنى  يعبّر عن موضوعٍ من أهمّ الموضوعات التي تتصدّر العالم اليوم بأهميته الحاكمة، زمانًا ومكانًا، وأعني به موضوع الوطن وقضاياه الكبرى!

هنا، يصبح حريًّا بنا، بل قد يكون من واجبنا، أن نضيء على نتاج شعراء اغترفوا من بحور الشّعر واللّغة والأدب ما استطاعوا، ليرووا ميادين المقاومة الغارقة بدم الجراح والشهادة، يروونها بحبرهم، منتصرين لها بـ«أدب المقاومة». نتاج هؤلاء، الشّعراء، فيه من الإبداع والجمال ما يسم لغتهم بالرّاقية و«السّاميّة» حدَّ الخيال، بل فيه ما يسمها بسمة الخلود.

حريٌّ بنا، إذًا، أن نضيء على تجربة شعراء، قدّموا قضية الوطن بلغة إبداعية تحكي أسمى المشاعر الإنسانيّة وأنبلها وأصدقها، ومن هؤلاء المبدعين، الشّاعر فضل مخدّر، الذي يُدهَش المتلقّي بفرادة لغته وعذوبتها، فيغدو غارقًا في وجدانيّة شعريّة غير مُدرَكة.

لا شكّ، عزيزي القارئ، في أنّك تسأل الآن: ما هي مظاهر البلاغة والجمال في لغة الشّاعر فضل مخدّر؟! وكيف عبّر بها في شعر الوطن والمقاومة في قصائده؟ وما هي الظّواهر اللّغويّة البارزة في شعره الوطنيّ؟

وقبل الشّروع في الإجابة عن هذه الأسئلة، أو محاولة الإجابة عنها، لا بدّ من الإشارة إلى أنه لا يمكن الإتيان على ذكر الظّواهر جميعها في ديوان الشّاعر مخدّر، إذ فيه من الإيجاز والإطناب والمساواة، والخبر والإنشاء، والفصل والوصل، والتّقديم والتّأخير وغيرها كثير كثير،  ما لا يتّسع المجال لتناولها في صفحات هذا البحث وفي هذه العجالة، لذا، سيُكتفى بطرق ظاهرة الإيجاز والإطناب والمساواة، في أبيات مختارة من قصائد شعر الوطن والمقاومة في ديوان «صلة تراب»، اخترتها من قصائد: «عروسٌ من غفار»[3]، «صلة تراب»[4]، «قطاف ودم»[5]، و«نشوة الأرض»[6]. وقد يكون من أكثر المباحث صعوبةً في مكان، أن يقف الباحث على قصيدٍ يتفحّصُ بلاغة الإيجاز فيه، ذاك أنّ عليه أن يكون حاذقًا في رصده البِنى اللّغويّة في مخالفتها للمألوف، وفي الوقت نفسه، عليه أن يكون يقظًا في تلقّف المعاني المرجوّة والتوليف بينها، فيرِدُ مواطن هذا الإيجاز، ممّيزًا بين إيجاز القصر، ذي المعاني الواسعة الكثيفة، التي يمكن تأويل دلالاتها مباشرةً، وإيجاز الحذف الذي عليه تحديد المحذوف فيه، ثمّ القصدُ إلى تبيُّن دلالاته المحتملة.

يقول الشّاعر في قصيدة «صلة تراب»:

قســـوةُ الدهرِ أن يُلفَّك ليـــلٌ                 وبكَ المجـــدُ مَنْبَعُ الإشــراقِ[7]        [الخفيف]

مصوّرًا لنا حالة الظّلم صورةً قاتمةً سوادَ الليل، فقد جاء في صدر البيت بتركيب مكتمل المبنى والمعنى: «قسوة الدهر أن يلفّك ليلٌ»: مبتدأ + مضاف إليه + خبر (أنّ وما بعدها مؤوّلة بمصدر)، وجاء في العجز بجملةٍ حاليّة: «وبك المجدُ منبعُ الإشراقِ»، وهي أيضًا مكتملة المبنى والمعنى: جار ومجرور + مبتدأ + خبر + مضاف إليه، فإذا ما تأملنا بعينٍ بلاغية ، أمكننا ذلك من توسيع المعنى، فالحديث هو عن شكوى حال الظّلم، فيه نقرأ «قسوة الدهر» ألمًا ممتدًّا، يحمل من «قسوة» صفة مرفوضة معجميًّا في العقل والتفكير الإنسانيّ السليم، مضافًا إليها صفة الثبات والديمومة من المحمول الدالّ عليها في «الدهر»، أما جملة «أن يلفّك ليلٌ» المصدرية، فهي تختصر حكاية الإنسان المحاصر بالسواد المشؤوم، وهي في الموقع الإعرابي خبر المبتدأ المضاف (قسوة الدهر). أما الحديث عن سبب هذه الحالة، ففي الجملة الحالية «وبك المجدُ منبع الإشراق»، أي : وأنت صانع المجد المشرق، أو باعث إشراقه، فالمجد، بمحموله الإنسانيّ، يعتزّ به الإنسان ويتباهى، وإنه لَمِن الظّلم أن يُحاط بهذه الظّلمانية وهذا المجدُ فيه، ويلفتنا هنا ضمير المخاطب المفرد (الكاف) في الفعل المضارع (يلفّك)، والحرف المجرور بحرف الجر (بك)، اللّذان أضفيا قوةً إلى الخطاب، إذ يوحيان بضرورة النهوض والتحدّي والمواجهة، وبخاصةٍ أنّ شطري البيت وردا في تقابل ضدّي بين سلب الحياة (قسوة الدّهر أن يلفك ليلٌ)، والإيجاب فيها (وبك المجدُ منبع الإشراق)، فيصبح المتلقّي بينهما في توثّب فكريّ ومعنويّ لاستخلاص العبرة من خلال الوقوف على الوجهين، ولا يمكننا هنا أن نهمل دور التقديم والتأخير الحاصل في عجز البيت، في إغنائه الجانب الموسيقي، حيث إنّ أصل التركيب هو: «والمجد منبع الإشراق بك»، وقد قدّم الجارّ والمجرور على كلّ ما سواه، تحفيزًا للعاطفة وإثارةً للمعنى المبحوث عنه، ثم إنّ هذا الانزياح في التركيب جعل رويّ القاف منسجمًا في منظومة الروي في القصيدة كلها.

يقول الشّاعر في بيت آخر من القصيدة:

يا رفــاقَ العراقِ لحنٌ تسامــى              ليغنّــي القلوبَ لحـــنُ الرفاقِ[8]

يفتتحه بجملة إنشائيّة طلبيّةٍ بأسلوب النداء «يا رفاق العراق» ويُتبع نداءه بجملة اسمية مبتدؤها محذوفٌ (أنتم) والخبر «لحن»، وتقدير الكلام فيها (أنتم لحنٌ تسامى)، فلأنه يستعجل بالثناء على الرفاق جاء بالخبر مباشرةً، حاذفًا المبتدأ إيذانًا بسرعة وصول التّعبير المرجو، وبخاصةٍ بعد ندائه لهم في مطلع البيت، وكأنه لا يطيق صبرًا لإخبارهم بكيفية شعوره تجاههم، أو أنه لا يريد لهم الانتظار، وقد جاءت الجملة الفعلية النعتية (تسامى) خير دليل على عظمة ما يراه فيهم من شأنٍ ومقام. ثم إنّه في ما أتبعه في عجز البيت «لحنُ الرفاق» يلجأ مرةً ثانيةَ إلى الحذف، لكنّ المحذوف هنا هو الخبر ، فتقدير الكلام هو : لحن الرفاق (هو الأجمل)، أو (هو الأسمى)، أو غير ذلك من الأخبار المدحية السّاميّة، وكأنما الثقة تحدوه إلى هذا الحذف، فبعد ما بيّنه في الكلام السابق من سمات العظمة والسموّ، ها هو ذا يكتفي بذكر المبتدأ المضاف (لحنُ الرفاق)، أو ربما كان سبب هذا الحذف اعتبارٌ شريف المعنى، بأنّ هؤلاء الرفاق الذين جعلهم لحنًا متساميًا، هم لحن الحياة، بما تشي به كلمة «رفاق» المتكرّرة مرتين من فكرة «الديمومة»، إذ إنّ الحياة هي البقاء، والرفاق هم الأصحاب الدائمون دوام الحياة. وضمن هذا البيت فعلان، أحدهما بصيغة الماضي (تسامى)، والثاني بصيغة المضارع المنصوب (ليغنّي)، نقرأ في «تسامى» إعجابًا وحسًّا مرهفًا، إذ هو -هذا الفعل- نعتٌ لصيقٌ بـ«لحنٌ»، يعضده بما يحمله الزمن الماضي من إحالةٍ إلى معنى الموروث المتغنّى به، ونقرأ في «يغنّي» الرضى بالحاضر المعيش عبر لام التعليل قبله. ولقد جاء الامتداد الصّوتيّ ممثلًا بالألف، في خدمة هذا التّعبير، فهو يوحي بانبعاث لحن حبّ ورضى مع أولئك الرفاق، حتى ليغدو المتلقّي تائقًا إلى معرفة هويتهم. ونلاحظ هنا استخدامًا للتّكرار الذي جاء متوائمًا مع هذا المعنى (رفاق، الرفاق/ لحنٌ، لحنُ)، وهو بمنزلة توثيق له، كما لا يخفى على الأذن ذلك الصّوت المنبعث من جملة «لحنٌ تسامى»، وجملة «يغنّي القلوب»، وكأنّ اللّحن في صعود لا متناهٍ يؤمّنه مدّ الألف المتكرّر في «تسامى»، ومدّ الياء في «يغنّي»، ومدّ الواو في «القلوب»، وكذا في المعنى المتأتّي من «لحنٌ»، و«يغنّي»، إذ يوحيان بحالةٍ من الطرب وإسعاد القلوب. وليت الشّاعر اكتفى بهذا فحسب، فإذا به في استخدامه تفعيلات بحر الخفيف قد أحدث عند المتلقّي انجذابًا راقيًا، من خلال تسارع هذه التّفعيلات، التي بدت منسجمة مع الكلمات المحمولة بإيجاز وخفةٍ ضمن هذين البيتين.

وإذا ما انتقلنا إلى الإضاءة على بلاغة الإطناب، نلاحظ أنّ الشّاعر قد لجأ إليه بكثرة في ديوانه، ولا بدّ من أنّ له فيه مقاصد متجليّة وخفيّة. ولا يخفى علينا أنّ الإطناب هو ممّا يلجأ إليه المبدعون، لما فيه من رجاحةٍ أحيانًا، إذ إنه «أرجح عند بعضهم من الإيجاز، وحجّته في ذلك أنّ المنطق إنّما هو البيان، والبيان لا يكون إلّا بالإشباع، والإشباع لا يقع إلّا بالإقناع، وأفضل الكلام أبينه، وأبينه أشدُّه إحاطة بالمعاني. ولا يحاط بالمعاني إحاطة تامة، إلّا بالاستقصاء والإطناب»[9].

يقول الشّاعر في قصيدة «قطاف ودم»:    [الخفيف]

لا تلُمني لنَشوتي وغروري           فغديرُ الخلودِ بعضُ غديري

تتهادى على يديّ القوافي            تكتسي دفءَ أنمُلي وسُطوري

فأنا أوقِدُ النّجوم بكفّي                ورَحى الشمسِ مَوقِدي وسَعيري

عشتُ عمري على ظلالِ الأماني     أرتجي الشعرَ بين نارٍ ونورِ[10]

مَنْ لشعري أنا الجنوبُ يغنّي          بدمِ القدسِ موعدَ التحريرِ

لفلســـــطينَ فـــي ترابـــي مواعيـ           دُ قطافٍ لِكرْمِها المأسورِ[11]

في البيت الأول:

لا تلُمني لنَشوتي وغروري           فغديرُ الخلودِ بعضُ غديري

ينطلق الشّاعر من أسلوبٍ إنشائيٍّ طلبيّ، وكأنه يبرّر حالته في النشوة والغرور (لا تلمني لنشوتي وغروري)، وهذا ما يستدعي جهدًا شعوريًّا وفكريًّا لمعرفة غاية الشّاعر، فالمعنى ليس معلومًا بعدُ، وإذ ينتقل إلى عجز البيت: (فغدير الخلود بعضُ غديري)، يزداد المتلقي عجبًا، فالشّاعر يأتي بهذه الكلمات في إطار فخرٍ متعمّد؛ إنّ الغدير هو ما يرِدُه الناس، وهو رمز الماء والانبعاث، يعبّر عن الحيويّة والاستمرارية، وفي إضافته إلى «الخلود» قوة إيحاء، فالشّاعر يرى بأنّ «غدير الخلود» بعضَ غديره هو؛ ويتضّح الأمر إذا ما لاحظنا أنّ في هذا الكلام إطنابَ تتميمٍ قصد فيه الشّاعر المبالغة وتعظيم شأنه، وكذا جاءت كلمة «بعض» بهذا المعنى، أي في سياق المبالغة، تأكيدًا من الشّاعر على ما بدأ به من زَخمٍ في مطلع القصيدة. وفي البيت الثاني تصريحٌ واضح بعد ما أعلنه الشّاعر: الشّعر ممثلًّا بـ «القوافي» متهادٍ على يديّ الشّاعر، يخرج بحلّته من دفء أنمله:

تتهادى على يديّ القوافي            تكتسي دفءَ أنمُلي وسُطوري

ونجدُ في هذا البيت إطناب تذييل، وصف الشّاعر قوافيه في صدر البيت، فجعلها سهلة البلوغ بالنسبة إليه (تتهادى على يديّ القوافي)، لكنّه عقّب في العجز بما يؤكّد هذه الانسيابيّة في شعره بجملة حالية (تكتسي دفء أنملي وسطوري)، فالياء في الفعل (تكتسي)، ضمير المفرد المؤنث الغائب، تعود إلى «القوافي»، متهاديةً على يديّ الشّاعر مجازًا، وما تكتسيه هو دفء أنمل هاتين اليدين، على السطور التي خطّتاها، فالمعنى إذًا تأكيديٌّ، حرص الشّاعر من خلاله على تقديم وصفٍ رقيقٍ لشعره، أما في كلمة «سطوري» فإننا نقرأ إطناب تتميم، يمنح الكلام قوة معنى، باستخدام أحد عناصر معجم صناعة التأليف والكتابة، ويتابع الشّاعر في البيت الثالث ضمن السياق نفسه، لكنه هذه المرة يتعالى إلى حدود النّجوم وما فوق فوق، إلى الشمس:

فأنا أوقِدُ النّجوم بكفّي                ورَحى الشمسِ مَوقِدي وسَعيري

وتتجلى فنيّة التصرّف في بداية هذا البيت، عبر مجيئه بالفاء التفسيريّة التي تفسّر كلامًا سابقًا، ولنا هنا أن نرجع هنيهةً الى الوراء، فنرى أنّ عجز البيت السابق (تكتسي دفءَ أنملي وسطوري)، الجملة الحالية (الإطنابية) المعبّرة عن دفء مشاعر المرسِل، مرتبطةٌ بصدر هذا البيت ارتباطًا وثيقًا، وكأنه تولّدٌ معنويٌّ عكسيٌّ، من النتيجة إلى السبب، فمجيء شعره بهذه الحميمية الملتهبة في البيت السابق، يبدو كأنه بسبب هذه القدرة التي يطال بها الشّاعر النّجوم، بل يوقدها (فأنا أوقدُ النّجوم بكفيّ)، ولا يفوتنا هنا أنّ النّجوم تُحيل إلى زمن الليل، وهي بالفعل المضارع (أوقد) حاملة لمعنى رفض الحاضر المظلم، واستشراف مستقبلٍ مشرقٍ مضيء. على أنّ الإطناب هنا حاصلٌ أيضًا في الجارّ والمجرور (بكفّي)، وقد يكون هذا الإطناب بالذّات رمزًا إلى شعر الشّاعر المفتخر، فهو يوقد النّجوم بهذه الكفّ، لا بشيءٍ آخر، ولقد كان بإمكانه أن يكتفي بقوله «فأنا أوقدُ النّجوم»، بيد أنّ هذا الاستخدام للجارّ والمجرور مع ضمير المتكلّم (بكفّي)، منح المعنى قوة إيحاء بقدرة الشّاعر وفاعليته، وزاد الكلام حسنًا. واذ يُردف الشّاعر في العجز بـ«ورَحى الشّمسِ موقدي وسعيري»، فإننا نلحظ إصرارًا عجيبًا منه، فهو في هذه الجملة قد أتى بإطناب تذييل، ويبدو أنه لم يكتفِ بكونه يشعل النّجوم بشاعريته الخلاّقة، فإذا به يفعل ذلك بين رَحى الشمس مخضًعا إياها، فتغدو موقده وسعيره، ونلمح في استحضار الشمس، تفاؤلًا وأملًا، فالشمس في توهّجها ضياءٌ يعطي الحياة، وقد جعلها الشّاعر مصدرَ شعوره وأشعاره، متعاليًا، لا يعترضه عارضٌ في هذا الكون الفسيح، أما في كلمة سعيري فقصدٌ في زيادة المبالغة، إذ يكفي أن يذكر الموقدَ ليُستدلّ منه على النيران المستعرة فيه، لكنّ الشّاعر رأى من الحسن أن يزيدها في الكلام تأكيدًا.

في البيت الرابع:

عشتُ عمري على ظلالِ الأماني     أرتجي الشعرَ بين نارٍ ونورِ

أطنب الشّاعر ثلاث مرات، إذ كان بإمكانه في صدر البيت أن يستغني عن كلمتي «عمري» و«ظلال»، فيستقيم المعنى بـ«عشتُ على الأماني»، كون العمر هو المعيش بطبيعة الحال، لكنه جاء بالأولى (عمري)، المفعول به، في سياق تتميم المعنى، بعد الفعل الماضي، متصّلًا بضمير المتكلّم المفرد (عشتُ)، وربما فعل هذا ليفرغ ما في جعبته من تأوّهات العمر في الماضي القريب، فـ«عشتُ» هو فعل ماضٍ منفتح على الحاضر بدلالته المعنوية. ثمّ إنّه جاء بإطناب تتميم آخر هو الاسم المجرور (ظلال)، وكأنّما يهدف به إلى المبالغة في حالة ذلك الماضي، فحتى الأماني تبدو وهمًا أوحت به هذه الكلمة ضمن المركّب الإضافي (ظلال الأماني)، فالظلال هي مما يعبّر عن عدم الفاعلية والجدوى، وهي رمز اللّاقدرة، تتحرك كما يشاء صاحبها، وقد أثرى هذا الإطناب المعنى، إذ جعله في صورة متخيّلةٍ عن واقع الشّاعر، الذي كانت فيه حتى الأمنيات صعبة الورود. في عجز هذا البيت يفصح الشّاعر عن تلك الأماني، أو «ظلال الأماني» كما شاء تسميتها، فيقول:«أرتجي الشّعر بين نارٍ ونورِ»، وقد أدركنا الآن أنّه أراد أن يعبّر عن طموحاته بالشّعر (أرتجي الشّعر)، ونلاحظ استعمال صيغة المضارع، وكأنه أصبح في الزمن الذي يريد، زمن تحقّق الأمنيات، ولمّا يكتمل المعنى، فلا يعلم المتلّقي بعدُ ما هي غاية الشّاعر، لذا جاء بإطناب الاحتراس (بين نارٍ ونور)، فلعلّه يريد أن ينشد الحريّة والتحرّر، ولما كانت النار رمزًا للحرية والثّورة والرفض، والنور رمزًا للهداية والعمل والحضارة، فإنه يتبادر إلى ذهن المتلقي أنّ الشّاعر كان يعيش جوًّا من التأزّم (بين نارٍ ونور)، يحاول الانفلات منه، وقد عبّر عنه حاضره بالفعل المضارع (أرتجي)، الذي يعود إلى ماضٍ عاشه الشّاعر وقد ولّى، بدليل الفعل الماضي (عشتُ)، ويلفتنا في هذين الفعلين على اختلاف صيغتهما (الماضي: عشت / المضارع: أرتجي)، اتصالهما بضمير المتكلم المفرد الجامع بين نتيجتيهما: حياة ورجاء دونما يأس، بيد أنّ المتلقي يغدو في حيرةٍ من أمره من جدوى رجاء الشّاعر وفخره في كل المتتاليات في الأبيات السابقة. وبعد هذه الإطلالة عبر الأبيات الأربعة من القصيدة في قسمها الأول، يختمه الشّاعر بالبيت الآتي:

مَنْ لشعري أنا الجنوبُ يغنّي          بدمِ القدسِ موعدَ التحريرِ[12]

لقد بدأ صدر البيت باستفهام يومئ إلى الفخر أيضًا، وربما في هذا إثارةٌ للحميّة وروح التحدّي في المتلقّي، وقد أتبع الاستفهام بتعريفٍ بهويّته وحاله: «أنا الجنوب يغنّي»، فإذا بالموقف يزداد حماسةً: ماذا يريد الشّاعر؟!

إنّ هذه الجملة خبريةٌ توحي بثبات المرسِل واعتزازه بانتمائه، فـ«الجنوب» قد أصبح من منظور المواطن اللبناني، والإنسان القومي، وربما في أرجاء المعمورة، أرضًا ترمز إلى الفداء والتضحية والكرامة والانتصار. وهنا، كان يمكننا أن نتوقّف عند حدود هذا التأويل، لولا أنّ الشّاعر جاء بجارّ ومركّب إضافي، وهما إطناب في موضع اعتراض، ولكن، كيف لنا أن نقرأ اجتماع الفعل (يغنّي) بمحموله الدالّ على الفرح، مع الاسم المجرور (دم)، أحد مفردات الحزن في تأويلاتها النهائية؟! إنّ ورود الإطناب عبر هذا المركب الإضافي، في هذا التعارض مع الفعل المضارع (يغنّي)، ومن خلال اعتراضه، يبعث المتلقّي على التأمّل لمقاربة المعنى المحتمل، فالفعل (يغنّي) يحمل معنى الإيجاب، والاسم (دم) يتمركز إيشاريًّا حول السلب، ولعلّ الإيجاب هو في تصوّر الفعل (يغنّي) يحمل دلالة القَسَم (بدم القدس)، بأنّ موعد التحرير آت. ويقودنا هذا إلى القول بأنّ الإطناب متعمّدٌ في هذا المكان، والشّاعر أراد أن يفرح بانتصاره ويؤكّد تمسكّه بقضية فلسطين، التي لن ينسى جرحها، فأقسم بدمه النازف أنّ أوان تحريرها قادم.

ينتقل الشّاعر الى البيت الذي يليه مفتتحًا به القسم الثاني:

لفلســـــطينَ فـــي ترابـــي مواعيـ           دُ قطافٍ لِكرْمِها المأسورِ[13]

نرى أنّ التّركيب تامٌّ إذا ما اقتطعنا منه الجارّ والمركّب الإضافي في نهاية العجز: (لفلسطين في ترابي مواعيدُ قطافٍ)، ويمكننا أن نتحدّث فيه عن بشرى يحملها الشّاعر لفلسطين الجارة الأسيرة، من منطلق أصالته (في ترابي)، إذ إنّ التراب دالٌّ على الأصالة والخير، وكأنّ الشّاعر أمام عهدٍ يقطعه على نفسه (لفلسطين في ترابي)، مانحًا المتلقي العربي القومي عمومًا جرعة أمل بالتحرير (مواعيدُ قطافٍ)، ذلك أنّ «مواعيد» هي مبتدأ مؤخّر، خبرها الجار والمجرور (لفلسطين)، وهي جملة خبرية ابتدائية خالية من التأكيد، ما يشي بحتمية الوعد والموعد، بيد أن الشّاعرلم يكتفِ بهذا التركيب، فجاء بإطنابٍ منح المعنى قوة تأثير، ولننظر إلى ما أضافه هذا الإطناب في نهاية العجز (لكرمها المأسور)، وإلامَ يرمز هذا الكرم المأسور! نلاحظ أنّ الشّاعر انتقل فيه من العام (لفلسطين)، إلى الخاص (لكرمها المأسور)، إنه بهذا يستحضرُ رمزًا من رموز الخير في فلسطين، ويجعله في وضعية مُظلِمة وهي الأسر (المأسورِ)، فيبرز لنا أنه ينطلق من إحساسٍ بالتحسّر والألم والتوجّع لما يحلّ بخيرات الأرض. وإطناب التذييل هذا هو للتذكير بأنواع الظّلم الذي تتعرّض له فلسطين في أرضها وشعبها. وإنّ المتلقّي إزاء هذا البيت ليشعر أنه في حركة قلقة، أوجدته فيها حروف الجر في بداية البيت (لفلسطين)، وما يليه (في ترابي)، ثمّ في نهايته (لكرمها). وكذا تشير حركة الضمير المتنقل، بين الـ«أنا» و الـ«هو»، إلى الحضور والغياب: حضور الشّاعر المنتصر المتغنّي بترابه عبر الياء (ترابي)، وغياب الحريّة عن فلسطين المأسورة الغائبة، وقد تمثّل ذلك في البداية (لفلسطين)، وفي ضمير الهاء الغائب (لكرمها)، ولنا أن نلحظ أيضًا غياب الفعل بأزمنته كلّها في هذا البيت، فقد حضرت متتاليات إمّا مجرورة وإما مضافة، وكلّ منها غير مستقلة بمعناها عن الأخرى: لفلسطين/ في ترابي/ مواعيد قطافٍ/ لكرمها المأسور، وغياب الفعل يكشف أنّ فلسطين في حالة منهكة، وأنّ الشّاعر بغياب الفعل يفرغ أحاسيسه عبر هذا الاستعمال. ولا تفوتنا الإشارة هنا، وإن كنا سنأتي إلى مستوى الإيقاع، إلى ما أحدثته هذه المتتاليات من صوت موسيقي مفرحٍ مؤملٍّ محزنٍ معًا، وكأنّ الشّاعر فيه يعزف على مشاعر العرب – شعبًا- عزف أمل، وعلى مشاعر «العروبة» – سلطةً- عزف نعيٍ لنخوتهم الغائبة.

إنّ من مكامن القوة الإيحائية المحدَثة في الأبيات الستّة المتناولة، ذلك الحضور القوي للـ”أنا”، (تلمني، نشوتي، غروري، غديري، يديّ، أنملي، سطوري، أنا، أوقد، بكفي، موقدي، سعيري، عشتُ، عمري، أرتجي، شعري، ترابي)، ما يكشف عن شعريّة جادّة، يمكن نعتُها بأنها تعبير صادقٌ عن الوجود الإنسانيّ في ارتباطه بأرضه، ضمن رؤيةٍ فخرية تُجيز أن يكون الفخر بالشّعر وسيلةً للتعبير عن حب الوطن، في شعرٍ منظومٍ تغدو فيه الكلمات العادية أكثر تأثيرًا وولوجًا إلى نفس المتلقي. وضمير الأنا في هذه الشعريّة، ربما هو كما يقول إتْيان سورْيُو: «إنه في آن واحد شاعرٌ جوهريٌّ ومطلق وصورة عن الشّاعر مصاغة شعريًا، يريد أن يتقدّم بها إلى القارئ. وهو أيضًا القارئ نفسه عندما يلج إلى القصيدة، نحو المكان المعدّ له، لأجل أن يشارك في العواطف التي يوحي إليه بها»[14].

على المستوى الإيقاعيّ يلفتنا الامتداد الصّوتيّ، الذي كان سمة لافتةً في موسيقى النص، مذ بدأ الشّاعر بـ«لا» الناهية في بداية البيت الأول مطلع القصيدة، وحتى البيت الأخير (البيت التّاسع والعشرين) ضمن النّماذج المختارة، عبر صوت الرّويّ المشبع (ري) في «غرورِ»، وما بين البيت الأول وهذا، جسرٌ مديدٌ يعبُرُ عليه الشّاعر، ليعبّر عن مكنونات قلبه وفكره، فخرًا وحبًّا، وقلقًا واستياءً، وقد جاء المدّ أحيانًا لافتًا في توازيه، لنقرأه إبداعًا قصد إليه الشّاعر المفتخر المتباهي بشاعريته، ولقد تراوحت أصوات المدّ في الأبيات المتناولة ما بين ستّ وتسع أصوات ضمن البيت الواحد، مع تفوّقٍ لمدّ الياء، إذ إنّ القصيدة مبنيةٌ على رويّ الرّاء المشبعة بالياء، وهو مما يثير السّمع لغزارة وروده، كما في البيت الأول مثلًا (تلمني، نشوتي، غروري، غديرِ، غديري)، مرتبطًا بضمير المتكلم المفرد، الذي نصبح معه في لهفةٍ وشوقٍ إلى ما بعد هذا النغم الشجيّ المنبعث من الذات، فكأنما الـ«أنا» هنا متجسّدة بجمالية خلاّقة، يأبى المتلقّي إزاءها أن يقتنع بحدودها، ويصبح في شغفٍ للذهاب إلى ما يليه، لتبيُّن المعنى الذي يبثّه الشّاعر عبر هذه الانطلاقة المحفّزة. ولقد كشف انتظام أحرف المدّ في هذه الأبيات عن ذوقٍ فنّي رفيعٍ على مستوى نظم الشّعر وقدرة الشّاعر، وهو ما يأتلف ودلالة فخره الذي مررنا بمعجمه الخاص، ما يثبت لنا مقولة أنّ «الحمولة المعرفّية هي مقصد المبدع من قصيدة، أو من كتابت الشعريّة»[15]. وإذ يغدو المتلقي في البيت التالي، يشعر  وكأنه في لحظةٍ شاعريةٍ مع الشّاعر، أوحى بها صوت مدّ الألف بتواؤمه مع صوت مدّ الياء (تتهادى، على، القوافي، تكتسي، أنملي، سطوري)، وهي فعلًا لَلَحظاتٌ مهيبةٌ عندما يدخل القارئ من بوابة القصيدة، بشعورٍ مرهفٍ تحتويه هذه القدرة الإبداعية على مواكبة المعنى.

وكان مما عزفه الشّاعر في هذه الأبيات، لحنًا خاصًّا بفلسطين، لحنًا يُطرِبُ السمع ويَلجُ الروح، وذلك في البيت التاسع:

لفلسطين في ترابي مواعيـ         ـدُ قطافٍ لكرمها المأسورِ

لقد تنقّل الشّاعر ضمن هذا البيت بخفةٍ ملحوظةٍ وكأنّه يسابق المعاني، جاعلًا فيه الوعد بالتحرير، مفرِغًا إيّاه من أيّ فعل وزمن، ليلجأ إلى حروف الجرّ، يسحب فيها عواطفه المتداخلة، ضمن تراكيب غير مكتملةٍ إذا ما انعزل كلّ منها عن الآخر، وهذه التراكيب وردت كالآتي:

لفلسطين (جار ومجرور) / في ترابي ( جار ومركّب إضافي)/ مواعيدُ قطافٍ (مركّب إضافي)/ لكرمها المأسور (جار ومركّب إضافي)، وهذه المتتاليات جاءت، على انعدام الفعل فيها، موحيةً بقدرة عجيبة، عبر الكثافة المتأتيّة من المعجم الخاص بفلسطين بكلّ متعلقاته (فلسطين، ترابي، مواعيد قطافٍ، كرمها المأسور)، وقد أدّت حروف الجرّ هذه دورًا استثنائيًا في إحالة المعنى وتوجيهه، فاللام الأولى (لفلسطين)، تُحيل إلى فلسطين كلَّ وجود الشّاعر، و«في»، الجار الثاني، يجعل في تراب الشّاعر، مع الياء، ضمير المتكلّم المفرد (في ترابي)، وعدَ التحرير الآتي، ومن جميل ما صَنَعَ الشّاعر في هذا البيت، التدوير العروضي[16] في كلمة «مواعيد»، إذ انشطر حرفها الأخير (دُ) ليصبح جزءًا من الشطر الثاني، كأنما الدلالة ممتدّةٌ إيحاءً بوحدة الوجود والقضية، فكلمة «مواعيد» حضرت ما بين «ترابي» في الصدر، و«قطافٍ» في العجز. أما اللام الثالثة (لكرمها)، فتُحيل إلى رمز من رموز فلسطين المحتلة، إلى «كرمها المأسور»، حامل دلالة الخير والأصالة. ولقد دخل العطف، بحرف الواو، عاملًا إضافيًا، أغنى الإيقاع والمعنى معًا، اعتمده الشّاعر شبه لازمةٍ، وردت في حركةٍ لافتةٍ من في تموضعها:

  • نشوتي وغروري (نهاية صدر البيت الأول)
  • أنملي وسطوري (نهاية عجز البيت الثاني)
  • موقدي وسعيري (نهاية عجز البيت الثالث)
  • نارٍ و نورِ (نهاية عجز البيت الرابع)

وإلى كل هذا، كان إيقاع بحر الخفيف معَبَرًا إلى أمنيات الشّاعر، فعبّر بخفّة المحبِّ للوطن، الذي ينظر بعين الإنسان القومي إلى قضية عربية محقّة عنوانها «فلسطين»، وعبّر بإبداع الشّاعر المفتخر القادر، الذي يصل متعاليًا إلى النّجوم يوقدها بكفه. هذا البحر، ذو التفعيلات الرشيقة، حقّق انسجامًا لافتًا، إذ أنتج توازنًا مع زفرات الامتداد الصّوتيّ وتنهدّاته، الامتداد الذي سار فيه الشّاعر منذ البيت الأول حتى البيت الأخير، ضمن هذه الأبيات، وهو مما يثبت لنا أنّ الشّاعر الذي لجأ في شعره إلى استخدام النحو، مؤتلفًا مع معاني الأصالة والاعتزاز بالانتماء والاستعداد للبذل، ها هو ذا يقصد الشّعر إيقاعيًّا أيضًا، بموروثٍ عربي أصيل ضمن مقوّمات الشعريّة العربية، أعني اعتماده البحر الخليليّ والقافية والرّويّ الموحّدين، مع الإشارة إلى أنّ الإطناب قد أسدى خدمة للوزن، إذ جاءت معظم قوافيه في مواضع إطناب. ولا بدّ من القول إنّ ما تناولناه في دراسة الإيقاع ضمن هذه الأبيات، لهُوَ مؤشر إلى الالتحام الدلاليّ بين البنى المختلفة، فلقد التحمت دلالة استخدام الضمير مع صوت المدّ، وكان لغياب الفعل أحيانًا، واللّجوء إلى الروابط، أثره المعنوي والموسيقي، وكلّ هذا لا يمكن أن يتأتّى إلّا من خبرة الإنسان العارف والشّاعر والمبدع المتذوّق معًا.

في المساواة لا نكاد نعثر في قصائد الدّيوان سوى على عددٍ ضئيلٍ من الأبيات التي تتضمّنها، وربّما كان ذلك لترجيح الشّاعراستخدام الإطناب والإيجاز، ولا سيّما إيجاز الحذف، على أنّ هذا الأمر قد لا يكون متعمّدًا، وإنما مدعاته هي ثقافة الشّاعر الملمّ، التي جعلت قصائده غنيّة بالمعاني، ومرسلةً بلاغيةً تشعّ بالدّلالات، وهذا ما لا يتأتى من باب المساواة، على ما عرّفها البلاغيون«ما ساوى لفظه معناه»[17]، ولعلّه يحقّ لنا ألّا نجد ذلك مستهجنًا، إذ لا يمكن للّغة الشعريّة أن تقنع بهذه الحدود من قدرة التّعبير، وأيضًا، قد يمكننا القول إنّ الانحراف عن المساواة حصل «وجوبًا» في هذا الدّيوان، لجنوح الشّاعر إلى التّعبير البلاغي الفنّي المبدع، فـ«اللّغة الشعريّة وظيفية، وهمّها الأول والأساس التأثير الجمالياتي. إنها تتوجّه نحو التّعبير نفسه وذلك بخلاف لغة المنطق»[18]، ولذا، سنكتفي بإطلاع القارئ العزيزعلى نماذج مما ورد في الدّيوان:

اتركونا لحـــــاضرٍ ومصيـــــــرٍ          نحـــن أدرى بمــــا يخبّيه وعدا[19]

قسوة الدهرِ أن نرى الخزيَ عارًا        ونرى الذلّ منهلَ الأخـــــــــلاقِ[20]

فثمـــــارُ الدمـــــاءِ خيرُ ثمــــــارٍ        وشهورِ القطافِ خيرُ الشــــهورِ[21]

من يوقدُ النارَ لن يلقى سوى لَهَبٍ        أو يزرعِ الحقدَ لن يجني به عنبا[22]

أخيرًا، وبناءً على ما تقدّم، يمكننا القول إنّ الشّاعر قد عبّر بهذه الظّواهر، لا سيما إيجاز الحذف، عن أنّ ثمّة قدرةً لديه على توليد المعاني في خدمة الرسائل المنشودة في تعبيره عن الوطن وقضاياه، حتى إنّ القارئ أو الباحث، لَيَقعُ على احتمالاتٍ كثيرةٍ من التقدير والتأويل وتنطوي أمامه المسافات، فتتبدّى له  الدلالات في اتجاهات مختلفة، وتنهض المعاني المُتاحة من الأعماق، لمقاربة غاية الشّاعر عبر هذه الظّاهرة التي يمكن القول عنها إنّها لغةٌ وجوديةٌ تظهر من خلال غيابها. أمّا في الإطناب، فقد بدا الشّاعر وكأنه يلتقط أنفاسه وهو يفصح عن مكنونات نفسه، فانتقل من العام إلى الخاص، وعكسهما، وذيّل وتمّم واعترض واحترس. وربما كان إصرار الشّاعر وطموحه وأمله في التغيير، هو الباعث على هذا الاستخدام الكثيف للإطناب بأنواعه المختلفة، في قصائد ديوانه «صلة تراب»، وربما للسبب نفسه غيّب عنه، أو غاب إيجاز القصر الذي يحتاج الى مشاعر متأنيّةٍ هادئة، فما قرأناه هو تعبير عن مشاعر ثائرة منفعلة في فرحها وحزنها. وكذا الحال بالنسبة إلى المساواة، فهي قد ندرت في قصائد الدّيوان وكانت ندرتها ملحوظة، ولعلّ ذلك يعود إلى كون «اللّغة الشعريّة تعتمد الخرق والانحراف»[23]، فيما المساواة تأتي بالكلام على قدر المعاني.

ولنا بعد هذه الإطلالة الجمالية عى نماذج من الشّعر الوطنيّ، عند الشّاعر فضل مخدّر، أن نشدّ على أيدي الشّعراء وسواهم من المبدعين، فيثوروا للقضية بأنفاسٍ ملحميةٍ تحكيها لكلّ من يجهل الحقيقة في مشارق الأرض ومغاربها، عازمين، غير يائسين، ومستبشرين غير خائفين، علّ الكلمة تفعل في النّفوس، إذا لم تفعل الصّورة والمشهد!

 

لائحة المصادر والمراجع

  • الأيوبي، ياسين، وديب، محيي الدّين: البلاغة العربية وأساليب الكتابة، مكتبة السائح، 1998م.
  • ابن الأثير، ضياء الدّين بن نصر الله بن محمد: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق: أحمد الحوفي وبدوي طبانة، دار نهضة مصر، (د. ط)، (د. ت).
  • حسن عباس، فضل: البلاغة فنونها وافنانها: دار الفرقان للنشر والتوزيع، إربد، ط2، 1989م.
  • عتيق، عبد العزيز: علم المعاني، دار النهضة العربية، بيروت، ط1، (د. ت).
  • كنفاني، غسان: الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال: 1948- 1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط2، 1986م.
  • مخدّر، فضل: ديوان صلة تراب، ديوان الكتاب للثقافة والنشر، بيروت، ط2، 2009م.
  • نور الدّين، صدوق: النص واستراتيجية التاويل، دال للنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2014م.
  • الهاشمي، أحمد: جواهر البلاغة في المعاني والبديع والبيان، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط12، (د.ت).
  • كوهين، جان: بنية اللّغة الشعرية، ترجمة: محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1، 1986م.

 

 

 

[1]_ديوان صلة تراب: فضل مخدّر، ديوان الكتاب للثقافة والنشر، بيروت، ط2، 2009م.

[2]– النص واستراتيجية التاويل، دال للنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2014م ص 56.

 – القصيدة الثالثة في الديوان. ص19[3]

– القصيدة الرابعة في الديوان. ص29[4]

– القصيدة الخامسة في الديوان. ص 37[5]

 – القصيدة السادسة في الديوان. ص45[6]

[7] – البيت 15. ص 34

[8] – البيت 23. ص35

[9] – الهاشمي، أحمد: جواهر البلاغة في المعاني والبديع والبيان، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط12، (د.ت)، ص 233 – 234.

[10] – الأبيات: 1 إلى 4. ص 39

[11]– البيتان: 8 – 9 . ص 40

[12] – البيت 8. ص 40

[13]– البيتان: 8 – 9 . ص 40

[14] – كوهين، جان: بنية اللغة الشعرية، ترجمة: محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1، 1986م، ص 151.

 

[15] – النص واسترايجية التأويل، مصدر سابق، ص 55.

[16] – حصل تدوير أيضًا في البيت الثامن عشر في كلمة «وجدان» إذ ألحقت النون بعجز البيت، ويمكن مقاربة الدلالة بالكيفية نفسها كما وردت في هذا البيت.

[17] – ابن الاثير: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق: أحمد الحوفي وبدوي طبانة، دار نهضة مصر، (د. ط)، (د. ت)، ق2. ص 319

– النص واستراتيجية التاويل، مصدر سابق، ص88.[18]

– البيت 29. قصيدة «عروسٌ من غفار». ص 26 [19]

-البيت 18. قصيدة «صلة تراب». ص34[20]

-البيت 30. «قصيدة قطاف ودم». ص44[21]

-البيت 9. قصيدة «نشوة الارض». ص19[22]

[23] – النص واستراتيجية التأويل، مصدر سابق، ص 56

عدد الزوار:23

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى