أبحاثالتاريخ وعلم السياسة والاقتصاد

الخــــزف، الفسيفساء والقيشـــاني بين الماضي والحاضر

الخــــزف، الفسيفساء والقيشـــاني بين الماضي والحاضر

Pottery, mosaic, and faience between the past and the present

الدكتور هشام حسن قبيسي*

Dr. Hicham Hassan Kobeissi*

تاريخ الاستلام 3/4/2024                                                   تاريخ القبول 20/4/2024

ملخص البحث

تنشأ كلّ حضارة فتتّسم بطابع يميّزها. ثمّ تنمو وتتبلور وتظهر شخصيّتها. ومن المعلوم أنّ العقيدة الإسلاميّة التي قامت على الفلسفة والتّصوّف والعلم أثّرت في الفنّ، إذ إنّها حثّت على مخالفة الطّبيعة، ما جعل الفنّان المسلم يتّجه إلى تجريد كلّ ما حوله وتفكيك الطّبيعة إلى عناصر أوّليّة، ثم إعادة صياغتها بصورة إيقاعيّة جديدة، بعد تحليلها إلى خطوط وعلاقات هندسيّة[1] ، واهتمام الدين بالزينة والجمال جعل الفنّان المسلم يزيّن العمائر الدّينيّة والسكنيّة.

ويعدّ القرن الثامن الهجريّ في عصر الدولة المملوكيّة عصرًا للنهضة الفنيّة إذ ظهرت في هذا العصر أساليب فنّية جديدة وطرق زخرفيّة مبتكرة، وأبرزها هو استخدام البلاطات الخزفيّة كأسلوب فنّي وعنصر زخرفيّ جديد في مصر وبلاد الشام. ولعلّ السبب في ذلك هو الغزو المغوليّ لإيران العام 705هـ – 1305م، وهو ما أدّى إلى هجرة الصنّاع والخزّافين الإيرانيّين إلى مصر وبلاد الشام.

وتعدّ البلاطات الخزفيّة التي عُثر عليها في حفائر سامرّاء (221/276 هـ – 836/889 م) أقدم البلاطات الخزفيّة الإسلاميّة المعروفة عندنا حتّى الآن، وقد زخرفت تلك البلاطات بالبريق المعدنيّ، أمّا في مصر فقد استخدمت مصر الفرعونيّة ما يشبه التربيعات الخزفيّة في زخرفة جدران بعض المعابد والأهرامات مثل هرم سقارة المدرّج. إلا أنّ الطريقة الشائعة في زخرفة الجدران في مصر القديمة كانت باستعمال الحجر والرخام لتوافرهما في البلاد، أما البلاطات الخزفيّة في شكلها المعروف فلم تعرفها إلّا في العصر المملوكيّ وكان استعمالها محدودًا للغاية [2]  .

 

Abstract:

Every civilization arises in the beginning and has its own distinctive character. It grows and crystallizes; its personality appears and leaves a distinctive character for it. The Islamic faith, which was based on philosophy, mysticism, and science in art, has influenced the Islamic faith, and urged the Islamic faith to contradict nature, which made the Muslim artist tend to abstract everything around him and dismantle nature into elements. Initially, then reformulate it in a new rhythmic image after analyzing it into lines and geometric relationships, and religion was concerned with adornment and beauty, which made the Muslim artist decorate religious, residential and public buildings.

The eighth century AH in the era of the Mamluk state was an era of artistic renaissance, as new artistic methods and innovative decorative methods appeared in this era, perhaps the most prominent of which is the use of ceramic tiles as an artistic style and a new decorative element in Egypt and the Levant. Perhaps the reason for this was the Mongol invasion of Iran in 705 AH  – 1305 MD, which led to the migration of Iranian craftsmen and potters to Egypt and the Levant.

The ceramic tiles that were found in the excavations of Samarra (221 / 276 AH – 836 / 889 AD ) are the oldest Islamic ceramic tiles known to us so far. These tiles were decorated with metallic luster. In Egypt, Pharaonic Egypt used what looks like ceramic tiles to decorate the walls of some temples and pyramids, such as the pyramid Saqqara Staircase, but the common method of wall decoration in ancient Egypt was by using stone and marble because they were available in the country. As for ceramic tiles in their known form, they were known only in the Mamluk era, and their use was very limited.

تمهيد

يعدّ فنّ الخزف من أرقى الفنون التي عرفتها الإنسانيّة لأنّها لازمت الحضارات المختلفة منذ أقدم العصور. فقد بدأت صناعة الخزف عبر التّاريخ بطيئة، فمثّلت نمط الحياة البسيط لكلّ عصر تاريخي، إذ صنع الإنسان القديم أدواته وأوانيه من الفخار لاستعمالاته اليوميّة ولم تكن هذه الصناعة متقنة في الشكل والمتانة والنعومة، غير أنّها ومع تقدّم العصور ازدادت تقنيّات صناعة الخزف تقدّمًا وتطوّرًا. ولذلك اهتمّ الباحثون عن حياة الشّعوب بالخزف، كحرفة وصناعة مارسها الإنسان منذ قديم الزمان في بقاع الأرض التي عاش فيها ومارس صنع احتياجاته. لذلك نتبيّن أنّ تاريخ الخزف حافل بما يستوجب دراسات واسعة النطاق وبخاصّة بعد أن قطعت المدنيّة شوطًا بعيدًا في ميدان الخزف والصناعات، والخزف خلال تلك الرحلة الطويلة مسجّلةً طبائع وتقاليد البشر المتباينة ومعتقداتهم في الحياة. وبالنسبة إلى الفنون التشكيليّة؛ فإنّ الخزف من أهمّ الحرف الفنّية التي مارسها الفنّان منذ أن توطّدت في البلدان المختلفة؛ إذ إنّ هذا الفنّ حقّق فكرة الحضارة في جوانب متعدّدة؛ فروح الإسلام السمحة لا تتماشى واستخدام خامات غالية الثمن مثل الذهب والفضّة، ولذلك أقبل الفنّانون المسلمون والعرب منهم على فنّ الخزف إقبالًا عظيمًا، واستطاعوا أن ينتجوا خزفًا على مستوى عالٍ من القيمة الفنّية، ولم يكتفوا بذلك بل وصلوا إلى أن يكون إنتاجهم الخزفيّ يصلح من حيث الفخامة والجمال لأن يكون بديلًا لأواني الذهب والفضّة، باستعمالهم تقنيّة تسمّى بالبريق المعدنيّ والتي تعدّ صفةً انفرد بها الخزف الإسلاميّ. وسنشير باختصار إلى مراحل تطوّر فن ّ الخزف في مختلف البلدان وتطوّره عبر العصور في مختلف الأقاليم.

وقد شمل إنتاج الخزف جوانب متعدّدة من احتياجات الناس اليوميّة، سواء أكانت هذه الاحتياجات عامّة أم خاصّة، فقد صنع الفنان بلاطات الخزف على أشكال مختلفة لكسوة الجدران، وكذلك بعض المحاريب والفناجين والأقداح والكؤوس والصحون والسلاطين والأكواب والقوارير، والأباريق، والأزيار، والمسارج. وتعدّدت أنواع الخزف في أشكالها وطريقة معالجتها، وأنواع الزّخارف بشكل ليس له نظير. ومن بعض الأنواع التي شاع إنتاجها في مختلف البلدان، ذلك أنه جمع عدّة خصائص وتقنيات تصنيعيّة لأغلب الحرف التي تتعلّق بالصناعة الطينيّة. لذا لا بدّ من التّطرّق إلى المصطلحات والمفاهيم المتشابكة والمتعلّقة بهذا الفنّ وتوضيحها وإزالة بعض الغموض واللبس عنها، وتتبّع وجودها في المصادر، والمراجع التّاريخيّة.

 

مصطلحات البحث

  • الخـزف:
  • لغة: ما عُمل من الطين وشُوي بالنار فصار فخّارًا، واحدتُه خزفة. أمّا الجوهريّ فقد عرّفه: الخزف بالتحريك الجُر والذي يبيعه الخزّاف، وخزفَ بيده يخزف خزفًا: خطر وخزف الشيء خزفًا شقّه والخزف: الخطر باليد عند المشي[3].

 

ب-اصطلاحًا: الخزف مادّة طينيّة لدنة تكتسب شكلًا ثابتًا، هشًّا، عندما تحرَق في الفرن، وتعرف بالفخّار. كما يعرف أيضًا أنّه هو ما صنع من الطين، ولكنّه زُجّج وأصبح لامعَ المظهر بعد صنعه، وتكون الطبقة التي تغطّيه من الزجاج ذائبة، وهي متنوّعة ومنها القلويّ والرصاص والملح وغيرها وهي ذات طبيعة زجاجيّة أشبه بالميناء، لكن عندما تلفَظ كلمة خزف؛ نتوجّه بفكرنا إلى نوع معيّن منه وهو الذي يسمّيه بعض المختصّين بالصينيّ. وفي الحقيقة إنّه نوع من الفخار إلا أنّه يحتاج إلى درجة عالية من الحرارة، وذلك حتى تحقّق مادّته الطينيّة التجانس بالانصهار. وتكون غير مساميّة وذات طبيعة زجاجيّة. ومن المعروف أنّ تشكيل الخزف والفخّار يكون باستعمال قوالب معدّة لذلك. ويعدّ الخزف من الحِرَف التي لقيت رواجًا كبيرًا في العالم، ربّما لأنّه متعلّق بصناعة الأواني، وهو من الحرف التي ما زالت تمارَس إلى يومنا هذا سواء على الصعيد الصناعيّ – التّجاريّ أو الحرفيّ التقليدي أو الفنّي[4].

 

ت- الخزف المعاصر: وهو الخزف الذي أنتج خلال المدّة الزمنيّة منذ العام 1945 حتى يومنا هذا. كما نقصد به ذلك الخزف الذي أنتج بفكر القرن العشرين وفلسفته. والمعاصرة تعني التواجد ومسايرة العصر للتعامل مع قوى البيئة في المكان والزمان، أو الملاءَمة المستمرّة مع الأوضاع القائمة في كلّ زمان، فهي الاستمرار في الماضي مارًّا بالحاضر ومتّجهًا إلى المستقبل في كلّ وقت بالثوابت والمتغيّرات.

 

المربّعات الخزفيّة

العراق وصعيد مصر وبعض بلاد المغرب مثل مراكش، كانت بلاد الطوب والآجر فهي بلاد الخزف بامتياز منذ العصور القديمة، وقد ظهرت البلاطات الخزفيّة بشكل محتشم في بعض البصمات المدمجة بلون أزرق سماويّ بين صفوف الآجر الملوّن، فكان إدخال الخزف الملوّن في تزيينات بعض المعالم في القرنين 11 م. و 12 م. نذيرًا لقفزة نوعيّة سوف تحصل في جماليّة العمارة الإسلاميّة : كإدخال الألوان والكسوات الجداريّة متعدّدة الألوان وستنتشر في كلّ من آسيا الوسطى؛ في إيران والباكستان وسوف تصل إلى سوريا وتركيا وأغلب أقطار العالم الإسلاميّ[5] . وقد استعملت البلاطات الخزفيّة والفسيفساء الخزفيّة بألوانها الزرقاء التركوازيّة والكوبالتيّة والبنفسجيّ المنغنیزميّ، والأبيض بتقلید عُرف من قبل في المحاريب. فيما بعد في القرن 15 م. انتقلت مجموعة الحرفيّين من الفرس منطقة Tabriz إلى تركيا، إذ طوّروا تقنيّة Kashihaftrang المنجز بجماليّة عالية وهي بلاطات سداسيّة زرقاء وخضراء وتركوازيّة مزوزقة بزخارف مذهّبة. لكنّ الانتشار الواسع في مجال الصناعة الخزفيّة في العالم الإسلاميّ يرجع إلى مهارات الحرفيّين العثمانيين في نهاية القرن، المكتسبة من خبرات الإيرانيين. فلقد اجتهدوا في إنجاز تقنيّة فريدة من نوعها من الموادّ الأساسيّة المستعملة ونماذج لونيّة برّاقة وزخارف كثيرة.

الخزف وطرق الصناعة

الخزف كلمة واسعة المدلول، فهي تطلق على ما يدخل في تركيبه طينة التربة المحليّة وسمّيت بالفخار، أو طينة مصنّعة وسمّيت بالخزف. وينقسم الخزف من الموادّ المصنّعة إلى ثلاثة أنواع:

النوع الأوّل: مصنوع من طينة حمراء محروقة ومطليّة، أو غير مطليّة، ويعرف بالفخّار وينقسم بدوره إلى ثلاثة أقسام؛ فخّار مطليّ وفخّار غير مطليّ وفخّار من طينة سوداء.

النوع الثّاني: وهو مصنّع لا يوجد في الطّبيعة ومكوّن من طينة بيضاء جيّدة وتعرف بالخزف، وتتكوّن من ثلاث موادّ: موادّ مرنة محتوية على السليكا ” الرمل”، ومواد خشنة لها مفعول كيميائيّ يفيد في تشكيل العجينة، وموادّ صاهرة. وأهمّ أنواعها الفلدسبات والجير وهي مهمّة لإكساب العجينة الصلابة ولتحويلها إلى جسم زجاجيّ.

النوع الثالث: خزف شفّاف ويعرف بالبورسلين ويمتاز بنقاوته.[6]

 

مراحل الصناعة:

1- إعداد الطّينة أي تنقيتها وغسلها وتخميرها، أمّا الطّينة المخلوطة، فتطحن كلّ مكوّن منها على حدة، إذ يكون     كلّ منها على درجة واحدة من النعومة، وتخمّر كلّ خامة على حدة، ثم تصفّى وتخلط مع بعضها وتترك لتجفّ      وتصبح عجينة صالحة للتشكيل.

2- تشكيل العجينة.

3- التجفيف والحرق.

4- الطلاء باللون الأبيض ” البطانة” وتطلى قبل الحرق أو بعده، ثمّ الزّخرفة للبلاطات باللون أو بالمينا أو    بالبريق المعدنيّ، ثم الزّخارف المرسومة فوق الطلاء الزجاجيّ الشفّاف، والمرسومة تحت الطلاء[7] .

 

البلاطات الخزفيّة:

هي مجموعة من البلاطات المصنوعة من الخزف الملوّن. وهي ذات زخارف متنوّعة، استخدمت فى تغطية المآذن والقباب والجدران. وقد اشتهرت صناعتها فى مدينة قاشان بإيران خلال القرنين الثامن والتاسع الهجري.[8]

تعدّدت أساليب إنتاج الخزف، كما تعدّدت الزّخارف التي يتحلّى بها هذا الإنتاج. ولا شكّ في الدقّة والمهارة الفائقة في عمل الرسوم والزّخارف المختلفة على الأواني بالفرشاة مباشرة في ثقة وسيطرة وتحكم.[9]

كانت بدايات العصر المملوكيّ استمرارًا لما ساد قبله من العصور الإسلاميّة من استخدام الزّخارف المحفورة في الحجر والجصّ. ثم شاعت بعد ذلك فكرة استخدام الرخام فى تكسية الجدران. وقد شاع على وجه الخصوص استخدام الوزرات الرخاميّة التي تتكوّن من وحدات مستطيلة محاطة بأشرطة ضيّقة، ولما كان شكل الوزرات الرخاميّة يبعث على الملل فقد عمل الفنان المملوكيّ على إدخال عنصر زخرفيّ جديد فى زخرفة الجدران تمثّل في استخدام الفسيفساء الرخاميّة؛ وهي تصنع من مكعّبات صغيرة من الرخام المتعدّدة الألوان وفي بعض الأحيان تكون مختلطة بقطع صغيرة من الخزف أوالصدف ما يضيف شكلًا زخرفيًّا جديدًا لتلك الفسيفساء كمحراب قبّة المنصور قلاوون[10]

 

أساليب زخرفة البلاطات الخزفيّة

لم يستخدم الفنّان المسلم طريقة واحدة فى زخرفة منتجاته، أو ألوانه على الخزف. فنجد أنّ الخزف المملوكيّ عدّة أنواع:

 

  • خزف مرسوم تحت الطلاء وفيه تقلّ الرسوم الآدميّة وهو طراز ذو صلة وثيقة بخزف سلطان أباد.
  • خزف تقليد السيلادون وهو تقليد السيلادون الصينيّ والإيرانيّ.
  • خزف تقليد البورسلين؛ بالأسلوب الزخرفيّ وهو المعروف بالأبيض والأزرق.
  • خزف مرسوم تحت الطلاء ذو ألوان زرقاء وسوداء وفيروزي وبهذا النوع ثقوب يملؤها الطلاء وهو متأثّر بنظيره من الخزف الإيرانيّ.
  • بلاطات خزفيّة تقليد البورسلين الأبيض والأزرق بالإضافة إلى بلاطات خزفيّة بلون واحد الأزرق – الأخضر – الفيروزيّ وهي متأثّرة بمثيلاتها الإيرانيّة وقد استخدمت في تزيين العمائر المملوكيّة.
  • مفهوم القاشاني

أ- لغة: هي كلمة فارسيّة عربيّة للدّلالة على نوع من أنواع الخزف التّي كان ينتج في المشرق وإیران.

ب-اصطلاحًا: مصطلح معماريّ فنّي أطلق في العراق وإيران وتركيا على البلاطات الخزفيّة [11] ، التي تغطّي الأرضيّات وجدران الأبنية كلّها أوجزء منها لزخرفتها أو حمايتها وقد عرف أحيانًا باسم القيشاني أو الكاش أو القاشي، كما ذكره ياقوت الحمويّ في معجم البلدان. وكلّ هذه الألفاظ مستخرجة من كلمة قاشان وهي مدينة إيرانيّة اشتهرت بإنتاج الخزف وتعدّ من المراكز الكبرى التي ساهمت في تطوير الفنون الخزفيّة عبر مختلف الحقبات الإسلاميّة. فكانت تنافس المراكز الأخرى في صناعة الخزف مثل: فيرامين، سلطان آباد وساوه ونيسابور وسمرقند. وذكرها القلقشندي على ألسنة الرحالة؛ فقيل أنّها مدينة لطيفة وهي أصغر من قم وغالب بنائها بالطين، وهي خصبة وقد خرج منها جماعة من العلماء الشيعة، والمعروف أنّ مدينة قاشان لم تتأثّر كثيرًا بالغزو المغوليّ الذي أثّر على الصناعات الحرفيّة والفنون في تلك المنطقة، واستمرّت الورشات الإنتاجيّة المرموقة الإنتاج بالأساليب القديمة نفسها، من حيث التقنيّة والأساليب الفنّية التشكيليّة واشتهرت بإنتاج البلاطات الخزفيّة المزجّجة (القاشاني) أو ذات البريق المعدنيّ. وكان القاشاني خاصيّة تميّزت بها عمائر الطراز الفارسيّ. ومن المعروف أنّ القاشاني من البلاطات الخزفيّة الشرقيّة التي انتشرت في المشرق العربيّ في فترات معيّنة من التّاريخ الإسلاميّ في مختلف أنواع العمائر.[12] 

أنواع القاشاني

تميّزت الفنون الزخرفيّة القاشانية بالألوان البرّاقة واللامعة، إذ إن الألوان التي كانت تستخدم في هذا النوع من الزّخارف من القاشانيّات صامدة جدًّا مع مرور الزمن، وذلك بسبب مكوّناتها وهي الرصاص والقصدير، وهناك أنواع وأشكال عديدة من فنّ القاشاني، تختلف بطريقة صنعها ورسمها، وهي:

●                1- القاشاني الذهبي

يقصد بالقاشاني الذهبيّ قطع القاشاني أو الأواني الدقيقة ذات اللون الذهبي أو الأخضر، وليصنع الحرفيون هذا النوع من القاشاني يعمدون إلى إضافة المواد الصاهرة ومسحوق حجر الصوّان إلى الطّينة الفخّارية، ومن ثمّ يغطّى سطح الآنية بالقصدير الأبيض، وتعرض على الحرارة ويرسم عليها بواسطة كلوريد المعادن، ومن ثمّ توضع في الفرن إلى درجة الذوبان، ومن ثمّ تجري تهيئة ظروف الإحياء والاسترداد عبر إيجاد الدخان في فرن الصهر، وبذلك تتحوّل الرسوم إلى اللون البنيّ ومن ثمّ إلى الذهبي أو الأخضر.

 

 

 

شكل رقم (1) القاشاني الذهبيّ

●               2- القاشاني المُعَرَّق (الفسيفسائي)

يطلق هذا الاسم على قطع القاشاني الكبيرة والصّغيرة المقتطّعة والتي تقَصّ وتبرى وفقًا لتصاميم معيّنة أو رسومات مختلفة وألوان متمايزة ثم تصّف إلى جانب بعضها بعضًا، لتشكّل مجتمعة لوحةً فّنية كبيرة من القاشاني. اشتهر القاشاني المعرّق منذ القدم في أوروبا باسم “نمط الموزاييك”، ولكنّه يتّصف بمتانة وجمال أكبر مقارنة مع الموزاييك، ويغلب في هذا النوع من القاشاني استعمال الألوان: الأبيض، والأزرق، والفيروزيّ، والبرتقاليّ، واللازورديّ.

شكل رقم (2) القاشاني المُعَرَّق (الفسيفسائي)

●                3- القاشاني سباعيّ الألوان

هو نوع من القاشانيّ الملوّن والتزيينيّ ويصنع من تركيب القطع الفخّارية الدقيقة والمزجّجة، وكلّ واحدة منها تشكّل قسمًا من التصميم العام، وألوان هذه القطع هي الألوان السبعة الأكثر استعمالًا في صنعة القاشاني: اللازورديّ، والفيروزيّ، والأصفر، والسلمونيّ، والأبيض والأسود، ويعدّ القاشاني سباعيّ الألوان النافر، والقاشاني المزجّج نموذجين لهذا النوع من القاشاني.

الشكل رقم (3) القاشاني سباعيّ الألوان

●                4- القاشاني المَعقليّ

القاشاني المَعقليّ هو صناعة قطع القاشاني بأبعاد صغيرة للغاية، مع صفّ وترتيب هذه القطع الصّغيرة إلى جانب بعضها بعضًا، فينشأ لدينا القاشاني المَعقلي، وإنّ التركيب بين القاشاني والطوب في بناء الواجهات يحول دون تمدّد وتقلّص قطع القاشاني (بسبب تأثيرات البرودة والحرارة)، ويؤدّي هذا الإجراء إلى تقليل تكسّر وتفتّت قطع القاشاني إلى الحدّ الأدنى.

أمّا الرسوم الشائعة في القاشاني المعقليّ فيمكن أن نشير هنا إلى أنواع الخطوط المستقيمة الممتدّة وفق محاور عموديّة وأفقيّة، وأحيانًا تكون خطوطًا مائلة شطرنجيّة بزوايا 45 درجة، كما يستعمل هذا القاشاني في تنفيذ لوحات الخطّ الكوفيّ البنائيّ.

الشكل رقم (4) القاشاني المَعقليّ

5-            القاشاني المشبّك

يستخدم هذا النوع من القاشاني لتنفيذ التصاميم المعقّدة، وأكثر ما كان يستخدم هذا الأسلوب في الماضي في تزيين محاريب المساجد، كما يستخدم القاشاني المشبّك كنوافذ في الجدران ذات الإطلالة، حيث تسمح لأشعة الشمس بالدخول إلى الغرف من ناحية ثانية تمنع إمكانيّة رؤية ما بداخلها من الخارج.

أمّا طريقة صنع هذا القاشاني فهي كالآتي: يتمّ قصّ قطع الفخار المزجّجة وفقا للتصميم الأساس، ثم توضع إلى جانب بعضها بعضًا لتشكّل التصميم النهائيّ، ونرى أجمل النماذج على هذا النموذج من القاشاني في مقبرة جعفر الأصفهاني، ومزار الشيخ صفي الدين الأردبيلي، والنافذة المشبّكة لمسجد الشيخ لطف الله الأصفهانيّ.

 

شكل رقم (5) القاشاني المشبّك

●                6- القاشاني المُغطّى

يتركّب هذا القاشاني (واسمه بالفارسيّة زيررنغي) من القاشانيّ الطينيّ والقاشاني الجسميّ، وأكثر ما يستخدم في الأبنية والمحاريب كعنصر تزيينيّ، والتمايز بينه وبين القاشاني سباعيّ الألوان؛ يكمن في القدم وفي ضرورة وجود طبقة من التزجيج فوق سطحه تمنع من انمحاء الرسوم والنقوش، وأكثر هذا النوع يستخدم لنقش الكتابات وآيات القرآن الكريم بشكل نافر.

شكل رقم (6) القاشاني المُغطى

 

●                7- قاشاني النره

كان يصنع هذا القاشاني في الماضي من الطين، وبات اليوم يحضّر من القاشاني الجسميّ، ويختصّ استعمال هذا النوع من القاشاني لتغطية القباب، والسطوح المبنيّة على أساس التصاميم البنائيّة والمعقليّة، أكثر ما يكون لونه الفيروزيّ، والأصفر، والأسود، واللازورد، والأبيض ويستخدم كتزيينات مفردة من قبيل كلمات: الله، محمد، علي، ويكون وفق التصميم المعقليّ.

شكل رقم (7) القاشاني النره

●                8- القاشاني الجسميّ

تشمل عجينته  مزيجًا من مسحوق الحجر ومسحوق الزجاج وطين البنتونيت، وبسبب تجانس مكوّنات الطين والزجاج، ليست هناك حاجة للطهي، ولا يتمّ هنا إدخال القاشاني والزجاج إلى الفرن إلا مرّة واحدة؛ ما يؤدّي إلى التصاق التزجيج بشكل أفضل؛ وأيضًا عند خروجه من الفرن وبسبب انكماش ذرّات الزجاج والصوّان يتدفّق الصوّان، فتظهر شقوق صغيرة للغاية تسمّى أعشاش النحل؛ وهي تجعل القاشاني مقاومًا للصقيع بشكل أفضل، ولأنّ التزجيج يلتصق بشكل أقوى بالقاشانيّ الجسميّ فهذا يجعله أكثر مقاومة، بالإضافة إلى جعله أكثر مرونة ومطاوعة عند استخدام أدوات قصّ وبري القاشاني، وهكذا يمكن استخدامه بشكل أفضل لصنع التصاميم الدقيقة والصّغيرة.

 

 

 

 

 

 

        شكل رقم (8) القاشاني الجسميّ

●                9- الجوك

نوع من القاشاني يستعمل كإطار لأسطح القاشاني، له أشكال متعدّدة، ومنه ما يتمّ تحضيره لإطار أطراف الجدران إذ يزجَّج طرفاه، ويسمّى القاشاني ثنائيّ السطح، ومنه ما يصنع ليوضع بين سطحين مختلفين من القاشاني، كقاشاني الدفال. وعادة ما يلوّن السطح المزجّج لقاشاني الجوك وفق تصميم الجدول، ويسمّى الجوك ذو الواجهتين أو الجوك الجنقيّ وكذا جوك الجفت، وأكثر ما يستخدم الجوك الجنقيّ لإكساء الزوايا ولترسيم السقوف. ويصنع قاشاني الجوك بألوان وتصاميم متنوّعة، ولكن لا اختلاف ذا شأن في ما بينها من ناحية أشكال القوالب والأبعاد، وهنا يتمايز قاشاني الجوك المتعرّج من ناحية الشكل من غيره من أصناف هذا النوع من القاشاني.

 

                                                                           شكل رقم (9) الجوك

10 – الدفال

يستخدم هذا النوع من القاشاني لإيجاد تمايز في السطح بين نوعين من العمل، بعد عمليّة قولبة طوب قاشاني الدفال (الحزام) يتمّ أوّلًا تسوية وتسطيح طرفيه، ومن ثمّ يطلى سطحاه المركّبان فوق العمل بالتزجيج، ويوضع في الفرن، يبلغ طول الواحدة من قطع الدفال بين 15 إلى 20 سنتيمترًا، وعرضها بين 3 إلى 5 سنتيمترات، أما سماكتها فهي في الأغلب بين 1 إلى 2 وأحيانًا بين 3 إلى 4 سنتيمترات. وأكثر ما يكون لون هذا النوع من القاشانيّ الأسود والأصفر والفيروزيّ، وفي حالات نادرة يتمّ تحضيره بألوان أخرى.

شكل رقم (10) الدفال

●                11- القاشاني المتعرّج: يطلق هذا الاسم على القاشانيّ الملتفّ أو الحلزونيّ.

شكل رقم (11) القاشاني المتعرّج

●                12- أنواع الآجر المُزجّج (المطليّ بالمينا)

القاشاني المزجّج نوع من القاشاني الذي يُطلى سطحه بالتزجيج الخاصّ بالقاشاني، وأكثر ما يستعمل في تزيين الواجهات، وفي ديكورات وتصاميم الأقسام الداخليّة للبناء، وبالإضافة إلى أنّها تمنح البناء جماليّة خاصّة، إذ تسهم قطع القاشاني المزجّجة في جعل البناء مقاومًا أمام العوامل الجوّيّة، ويمنع التآكل والتفتت، ويدعم الواجهة.

يُصنع القاشاني المزجّج بأبعاد وأشكال متنوّعة، وله استعمالات كثيرة؛ فهو يستخدم في الواجهات، وترصف به بعض الأرضيّات، وفي إطارات الحدائق الصّغيرة والجدران، كما له استخدام واسع وفي المساجد والحسينيّات؛ ومنها: الكتابات في حواشي وأطر المحاريب، وفي القباب، وعتبات الأبواب، وغيرها الكثير من الأماكن.

أمّا ألوان القاشاني المزجّج فهي: الفيروزيّ، واللازورديّ، والأخضر المسجديّ، والأصفر، والبنّيّ، والكريميّ، كما أنّ تركيب هذه الألوان يعطي طيفًا واسعًا من الألوان الأخرى.[13]

شكل رقم (12) أنواع الآجر المُزجّج (المطلي بالمينا)

●                13- الحميل

يطلق اسم الحميل على قطعة القاشاني التي فصلت عن القاشاني الأصل بشكل شريط (مع مقادير مختلفة لعرضها)، وقاشاني الحميل كالشريط الملوّن الذي يحيط بأسطح القاشاني. كما أنّه يستعمل للفصل بين الأرضيّات القاشانية المختلفة. غالبًا ما يتمّ ترتيب قطع القاشاني هذه جنبًا إلى جنب مع القطع الأخرى في أثناء إعداد قطع القاشاني المعرّق (الفسيفسائيّ)، ومن ثمّ يُصبّ الملاط الجبسيّ أو الملاط الإسمنتيّ، كما يستخدم هذا النوع أيضًا كواجهات مقاوِمة للحريق.

شكل رقم (13) الحميل

●                 – 14 القاشاني الخاتم

●                 يتمّ ختم عجينة القاشاني الخام ومن ثمّ تنقل إلى الفرن.

 

شكل رقم (14) القاشاني الخاتم

زخارف البلاطات الخزفيّة

كانت الزّخارف الحيوانيّة تستخدم فى العقائد المصريّة قبل الفتح الإسلاميّ، للدلالة على معانٍ رمزيّة، كالطاووس، والأسد، والسمكة، والأرنب. وكان يضفي عليها الفنان لمسات جماليّة في الزّخرفة، وعندما جاء الإسلام بأحكامه، كان الفنان قادرًا على التكيّف مع هذا الوضع الجديد، حتّى عندما اتّبع تعاليم الدين وأحكامه، صار يعبّر عن الزّخرفة في تطوّر جديد، مع حفاظه على التقاليد القديمة، فنجد الرسوم تمتلئ بالحياة فى رسوم الطيور والغزلان والأسماك والأرانب وهي مليئة بالحركة والحيويّة وكان الفنّان يرسم هذه الكائنات الحيّة، كعناصر زخرفيّة يكيّفها ويحوّرها، فيحقّق أغراضه الزخرفيّة التي يسعى إليها. ولعلّ السبب الحقيقيّ وراء هذه الزّخارف الحيوانيّة مأخوذة من البيئة المحليّة في تراث زخرفيّ، استعملها ورسمها مع فرع نباتيّ يتدلّى من منقارها، أو حول رقبتها، ومعظم الطيور والحيوانات التي رسمها الفنّانون المسلمون كانت من الحيوانات والطيور التي يتمّ صيدها، أو تستعمل فى الصيد، إذ لم يعنَ الفنّان المسلم في البداية برسم الحيوان كصورة مطابقة لطبيعته، ومعبّرة عن أجزائه تعبيرًا صحيحًا، ولكنّه عبّر عنه بصورة بسيطة مجرّدة غير طبيعيّة.

إنّ رغبة الفنان المملوكيّ في إنتاج وإخراج موضوع زخرفيّ أكثر إتقانًا هو الذي دفعه إلى البعد عن استخدام الفسيفساء الخزفيّة وشجّعته على الاتّجاه والإقبال على إنتاج البلاطات الخزفيّة؛ وذلك لقلّة عدد البلاطات الخزفيّة المستخدمة فى التكوين الموضوعيّ الزخرفيّ، بالإضافة إلى أنّ الفسيفساء الخزفيّة تحتاج إلى عامل فنّي في صناعتها وزخرفتها وفي تثبيتها.

زخرفة البلاطات الخزفيّة

تتطلّب زخرفة البلاطات الخزفيّة تصميمًا لموضوع زخرفيّ مسبق، يتوافق مع المكان المراد تغطيته قبل أن يتمّ تنفيذه على البلاطات الخزفيّ. ثمّ يتمّ تقسيم الوحدة الزخرفيّة أو الموضوع المراد تنفيذه على عدد البلاطات التي يحتاج إليها المكان والمساحة المراد تغطيتها ثمّ ترسَم كلّ بلاطة على حدة؛ ليكتمل رسم البلاطات جميعها.

تشكيل البلاطات الخزفيّة ويتمّ ذلك بطريقتين:

الأوّلى: تكون فيها البلاطات معدّة من قبل؛ فيتمّ تشكيلها مباشرة، وهي بذلك تشبه إلى حدّ كبير طريقة رسم المنظرالتصويريّ ثم تقطيعه إلى بلاطات منتظمة الشكل ثم لصقها بعد ذلك إلى جانب بعضها بعضًا، ويتمّ من طريق رسم الموضوع التصويريّ على ورق مقوّى ويلوّن ثم يقطّع، وتؤخد كلّ قطعة ويعاد رسمها على بلاطة خزفيّة منفردة، تلوّن بنفس اللون ثم تطلى بطبقة الطلاء الشفّاف ثم توضع فى الفرن لتحرق للمرة الثّانية، وبذلك يكون المنظر التصويريّ مقسّم على عدّة (بلاطات) ثم تجمع تلك البلاطات وتثبت بجانب بعضها بعضًا.[14]

الثّانية: وتتكوّن من مجموعة من البلاطات الخزفيّة المقطّعة من ألواح خزفيّة كبيرة كلّ منها ذات لون واحد، وفي هذه الحال؛ يحرق كلّ لون فى درجة حرارتة المناسبة ما يكسبه جودة ولمعانًا.

يمكن تقسيم البلاطات الخزفيّة من حيث الزّخرفة إلى قسمين، الأوّل: بلاطات خزفيّة ذات لون واحد فقط وتخلو من الزّخرفة، وقد تنوّعت ألوان ذلك القسم ما بين اللون الأخضر أو اللون الأزرق. وفى بعض الأحيان كانت تستخدم تلك البلاطات كبلاطات مساعدة داخل الموضوع الزخرفّ العام المراد تنفيذه إذ توضع فى الإطارات المحيطة بالموضوع الزخرفيّ، أو إنّها تفصل بين البلاطات وبعضها بعضًا وفى هذه الحال تأخذ شكل مثلّثات في أغلب الأحيان. أمّا القسم الثّاني، فبلاطات خزفيّة مزخرفة بالزّخارف النباتيّة والحيوانيّة وملوّنة باللون الأزرق على أرضيّة بيضاء، أو الأسود على أرضيّة خضراء، كلّ ذلك تحت طلاء زجاجيّ شفّاف.[15]

بلاطة خزفية سداسية مزخرفة بالزّخارف

النباتية والحيوانية مرسوم تحت الطلاء الشفاف

بلاطة خزفية سداسية مزخرفة يرسم طائر

يحيط بو زخارف لأفرع وزهور

نباتية مرسوم تحت الطلاء الشفاف

خزف مرسوم تحت الطلاء الشفاف لبلاطة خزفية سداسية مزخرفة بألوان متباينة بين الأخضر والأزرق على أرضية بيضاء

 

الشكل رقم (15) البلاطات الخزفيّة

جماليّات التشكيل في استخدام البلاطات الخزفيّة على المسطّحات الرأسيّة والأفقيّة:

استلهم المصمّم الداخليّ من البلاطات الخزفيّة الإسلاميّة، وطوّر استخدامها في التصميم الداخليّ والخارجيّ للعمارة المعاصرة لتأصيل الفنّ الإسلاميّ بإضافة الألوان الزاهية ووحدات زخرفيّة متنوّعة من حيث اللون والتصميم واعتمد على أسس جماليّات التصميم من اتّزان وتناسق وتكرار وتضادّ لوضع التصميمات المتجدّدة، المستلهَمة من الفنّ الإسلاميّ في إحياء التراث العربيّ الإسلاميّ بصورة حديثة تناسب العصر.

الألوان في البلاطات الخزفيّة واستخدامها في العمارة الداخليّة والخارجيّة:

اللون أبهج المدركات في الطّبيعة، وهو يسهم في إبداعات جماليّة لا حدود لها كجزء متمّم لنظام الإدراك الحسّي، فاللون يؤثّر في الإنسان تأثيرًا نفسيًّا ويعطي رونقًا وجمالًا لكلّ سطح أضيف إليه؛ لذلك فإنّ استخدام الألوان في تصميمات البلاطات الخزفيّة من أهمّ عوامل نجاح تصميماتها جماليًّا ووظيفيًّا، فالتباين والتنوّع من أهمّ عناصر التشكيل الجماليّ واستخدام الألوان في التّكوينات والتشكيلات للبلاطات الخزفيّة في العمارة الداخليّة يبعث البهجة والسرور للحيّز الداخلي. واستخدمت الألوان المتباينة في البلاطات الخزفيّة، فتباين الألوان والتي لها قيمة ضوئيّة والتضاد بينها يجذب الانتباه إليها، ويؤدّي ذلك التصميم اللونيّ إلى الوحدة والاتّزان وذلك من طريق هيمنة اللون عن طريق المساحة (شكل15)، ويقول أرسطو ” إنّ الألوان ربما تتواءم كما تتواءم الأنغام بسبب تنسيقها المبهج”، وهذا التنسيق المبهج المقصود به؛ انسجام الألوان أو ائتلافها[16]. قد أسّس Chevreul فنّ انسجام الألوان الذي يتحقّق في حالين:

  • إذا كانت االألوان متشابهة.
  • إذا كانت الألوان متكاملة أو متضادّة.

فالتضادّ اللونيّ Contrast يحقّق الألوان المتكاملة ويؤدّي إلى التوازن ، ويمكن استخدام التباينات اللونيّة سواء في تصميمات البلاطات الخزفيّة أو طريقة توزيعها والتنويع في استخدامها (شكل 15) ، فيمكن استخدام التباين بين اللون المعتم واللون المضيء ، وبين الألوان الباردة والساخنة، وبين الألوان المكمّلة والمتمّمة، يمكن استخدام البلاطات المتباينة في الألوان على المسطّحات بحيث تكون ملائمة للغرض الوظيفيّ داخل أو خارج الحيّز ، ويمكن استخدامه عن طريق تباين الألوان فاللون النقيّ يجذب الأنظار أكثر من الألوان القاتمة ، وتوضع البلاطات في تصميم لونيّ يؤدّي إلى الوحدة من طريق هيمنة اللون على المساحة المستخدم بها.

 

 

 

 

 

 

 

 

(شكل16) استخدام المصمم الداخلي التياين في الألوان                               (شكل17) استخدام البلاطات المتباينة في الألوان والزّخارف

للبلاطة الخزفيّة مع بعضها ووحد لون الخلفية بلون                                   وطريقة توزيعها بين المزخرفة والخالية من الزّخرفة ووضعيا

اأزرق ليظر جمال تصميم البلاطات الخزفيّة ويجزب                                 متضادة مع لون الخشب لكي يظير جمال تصميم البلاط.

 

  • الإيقاع في استخدام البلاطات في الحيّز الداخليّ

الإيقاع من الأسس الرئيسة في جماليّات التشكيل، فالطّبيعة حافلة بالإيقاعات الكونيّة المنتظمة كالمدّ والجزر وحركة فصول السنة وتتابعها وحركة أمواج البحر بين الحركة وتلاحق سرعات شديدة الاختلاف بين الحدّة واللين والقوّة والهدوء ….، ولذلك في الطّبيعة نماذج من الإيقاع الذي لاحصر له، وانتظام الطّبيعة في التغيير هو الإيقاع المنتظم. ويرتبط الإيقاع بالتنوّع سواء في الشكل أو النظام كما أنّه يرتبط بالتناسب. فالمسافات بين وحدات الزّخرفة في البلاطات الخزفيّة والتجاذب الذي يحدث بينها وبين النسب في مساحتها وأحجامها، كما يرتبط الإيقاع أيضًا بالحركة والأبعاد.  (أشكال رقم 15 – 16- 17).

 

 

 

 

 

 

(شكل18) تباين في الألوان الزاهية لبلاطات الخزفية مما

يجعل السطح مبهجاً وتنوعاً في الزخارف الهندسية والنباتية

 

(شكل19) التشكيل بالتباين اللوني والزخرفي الوحدات البلاطات الخزفية المزخرفة بزخارف تحمل الروح الإسلامية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(شكل20) استخدام أسلوب التباين بين ألوان البلاطات

الخزفية وبعضهاوتصميمات الوحدات الزخرفية المتنوعة

 

(شكل21) التشكيل بالإيقاع غير المنتظم لوحدات البلاطات الخزفية المزخرفة بزخارف تحمل الروح الإسلامية

 

 

3 الزليـج

أ-لغة: زلج، الزلج وزلجان: سير لين، والزلج سرعة في المشي وغيره، زلجًا وزليجًا وانزلج. والزليجة: الناقة السريعة، وزليج أي دحض ومرّ. يزلِج، بالكسر، زلجًا وزليجًا إذا خفّ على الأرض. والزلاج والمزلاج: مَغلق الباب، سمّي لذلك لسرعة انزلاجه، انزلاقه. والتزلّج: الانزلاق والزلج: الصخور الملساء. من المفهوم اللغوي نلاحظ أنّه أخذ مصطلح الزليج أي التبليط الخزفيّ الفسيفسائيّ صفة الانزلاق والملس من مختلف المفاهيم اللغويّة، فالزليج أملس السطح ويتمشّى مع صفة الانزلاق التي ذكرتها المصطلحات اللغويّة.

ب-اصطلاحا: الزليج من الموادّ الخزفيّة التزينيّة التي تكسَى بها الجدران وتفرَش بها أرضيّات المباني المختلفة في المغرب الإسلاميّ والأندلس، وهو نوع من المفصّص، أو من الفسيفساء الخزفيّة، كالقاشاني المشرقيّ، ويسمّى بالزليج أو الزلاج أو الزليجي أو أزوليخوا، أو الزليزلي. وأطلق عليه اسم قاشاني؛ لتشابهه مع نوع القاشاني من الفسيفساء الإيرانيّة الإسلاميّة، وأطلق عليه تسمية القرميد المبرنق أو الزاهي الألوان وصنّف من بين أنواع الأجر وقد نجد تشبيهه بالفخّار، كما يطلق عليه القراطيّ أو في بعض المدن الزلايج أو الزليجة. وقد يسمّى بالزليج البلديّ للتفرقة بينه وبين البلاطات الخزفيّة الحديثة [17] .

  • مفهوم الفسيفساء الإسلاميّة

أ-لغة: برأي ابن منظور: “هي ألوان تؤلّف من الخرز أو الزجاج أو الرخام وتركّب على الحوائط من الداخل لتشكّل مناظر زخرفيّة مختلفة الألوان “، وقد تسمّى الفسيفساء فسيساء” والبيت المصوّر بالفسيفساء أو الفسيساء يسمّى “فسفس” ولا تزال لفظة “فسفس” تستخدم حتى الآن في الدلالة على الأجزاء الصّغيرة للأشياء.[18] 

ب-اصطلاحًا: يصنّف اصطلاح الفسيفساء من طرف باحثين في العمارة الإسلاميّة في مجموعة خاصّة بموادّ البناء والزّخرفة والكسوات المختلفة. والفسيفساء أو الموزاييك عبارة عن قطع صغيرة أو فصوص ذات ألوان متعدّدة تصاغ على حسب التصميم وتطبق إمّا علی الأرضيّات أو الجدران[19] ، وموضوعات لوحاتها مختلفة. وقد تكون هذه القطع من الأحجار، أو الرخام، أو الخزف، أو الصدف، أو حتى الزجاج، ولا تتعدّى القطعة منها السنتيمتر المكعّب حجمًا، تلصق بعضها إلى جانب بعض على طبقة من الملاط بحيث تؤلّف زخارف وصورًا. وللفسيفساء العتيقة تقنيّات عديدة طوّرت عبر مرّ الزمن. وما زالت تمارس بشكل معاصر في المعاهد المتخصّصة بالترميم، وقد تجد استعمالها في منازل الخواصّ الذين يريدون تقليد فنّ الحضارات القديمة. هذا الفنّ التزويقيّ المشهور عالميًّا وفترة ظهوره ومراحل تطوّره دُرس عند مجموعة كبيرة من المختصّين. (لذا سنمرّ على بعض المراحل التّاريخيّة لهذا الفنّ بصفة وجيزة).

والفنّ الإسلاميّ قائم على فكرة فلسفة عقائديّة وهي فكرة سرمديّة الله وفناء الكائنات، قوله تعالى: ﴿ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾[20]. وعلى هذا فإنّ ديمومة كلّ شيء مرتبطة بمشيئة الله، وهذه الديمومة ليست ثابتة، فكلّ شيء قابل للتحوّل، وكلّ شيء زائل وباطل إلاّ وجه الله عزّ وجلّ. وهذه الرؤية الجديدة المرتكزة على أساس توجيه عين الإنسان المسلم لترى بنظرة شموليّة، قد دفعت بفنّ الرسم الإسلاميّ منذ بداية الفتح الإسلاميّ إلى العمل على تكثيف كلّ ما هو دنيويّ محدّد إلى الصيغة الشكليّة الهندسيّة والخطيّة واللونيّة المجرّدة وإلى مدّه بكلّ معطيات العالم الروحيّ والمطلق.

تعدّ الزّخرفة من أهمّ الفنون التشكيليّة، وأعظمها تأثيرًا في إكساب معظم المنتجات الحرفيّة قيمًا جماليّة، وهي جزء من النشاط الفنيّ الذي قام به الإنسان من أجل إضفاء الجمال على منتجاته وأعماله الفنّية، وتحظى باهتمام واسع إذ تمكّن دراسة “فنّ الزّخرفة بأنواعها” الباحث من التعرّف إلى أصالة التّاريخ الفنّيّ، وأثره في الفنون الأخرى.

فنّ الزّخرفة يشابه فنّ الشعر والموسيقى من حيث اتّباعه قواعد خاصّة في تنسيق الوحدات الزخرفيّة، وفق أبعاد يرتّبها الفنّان بشكل متناسق، وتختلف الزّخرفة من شخص إلى آخر نتيجة نظرة كلّ فنّان التي تبدأ بالتأمّلات والمشاهدات لعناصر من الطّبيعة، ويؤدّي الإلهام والخيال دورًا مهمًّا في نوعيّة الزّخرفة وجماليّتها.

 

الفسيفساء الخزفيّة

هي إحدى تقنيّات الفسيفساء ويستخدَم في تنفيذها بلاطات فخاريّة أو خزفيّة؛ عبارة عن مساحات محدّدة هندسيّة من ا إلى 2 سم تقريبًا، أو قد تتشكّل من تكسير غير محدّد الشكل.

تاريخ الفسيفساء

يعدّ فن الخزف المصنوع باستخدام الفسيفساء من أقدم الفنون التي عرفتها البشريّة. ويزخر العالم بعدّة نماذج أبدعها الفنانون عبر العصور، وقد كان للفنان العربيّ والمسلم تأثيرٌ قويّ على تطوّر فنّ الفسيسفاء. وقد عاد فنّ الفسيفساء اليوم للازدهار، إذ توجد مدارس كثيرة تعلّم أساليبه وتقنيّاته، وتأخذ فيه الرسوم ذات الموضوعات الحديثة حيّزًا كبيرًا. وباتت لوحات الفسيفساء الحديثة تستخدم في تزيين جدارن وأرضيّات البيوت والمباني العامّة.

إنّ أقدم ظهور لهذا الفنّ كان منذ العصر الحجريّ المتوسّط (10000_7500 ق.م) منذ أن بدأ الإنسان فنّ الترصيع، ليستخدم فيما بعد كزينة بناء من خلال إلصاق الأحجار الصّغيرة في الطين حيث ترصّ بإحكام بجانب بعضها بغرض التقوية والتزيين. وقد عُثر على فسيفساء آشورية شمال العراق تؤرّخ للقرن التاسع قبل الميلاد. كما ظهر في حضارة وادي النيل ما يشبه الفسيفساء في بعض غرف هرم سقارة، وقد ظهرت الفسيفساء مستخدمةً المكعّبات الفخّارية منذ القرن الثالث قبل الميلاد إبّان العهد الهلنسي متأثّرة بتلك التي استخدمت  في الألف الرابع قبل الميلاد في مدينة آنين جنوب العراق، وقد ظهرت الفسيفساء منذ عهد مبكر في بلاد العراق منذ 3000 سنة قبل الميلاد إذ كانت الفسيفساء تصنع من أقلام أو مسامير من الآجر، وكانت هذه الأقلام أو المسامير ذات رؤوس دائريّة ملوّنة، تغرس في جدارن الطوب مؤلّفة أشكالًا زخرفيّة وفنّية كما في شكل (22 ) لجدار من الفنّ السومريّ في وادي الرافدين .

شكل رقم (22) أعمدة زخرفها السومريون بأسلوب شبيه بالفسيفساء، وجدت في أوروك في وادي الرافدين، وترجع إلى بدايات الألف الثالث قبل الميلاد، وهي محفوظة اليوم في متحف ستاتليخ في برلين.

وقد قام الفرس باقتباس هذا الفنّ والدليل على ذلك ما وجد في قصر دارا الفارسيّ، كما استخدمت البلاطات المزجّجة في بابل، وقد وصلت هذه الصناعة الفنّية إلى درجة عالية من الجودة والإتقان، كما يظهر في بوابة عشتار فسيفساء الطوب وبدايات فنّ الفسيفساء من عصر نبوخذ نصر الثّاني شكل (23).

 

 

 

 

 

 

 

 

شكل (23) بوابة عشتار(فسيفساء الطوب, وبدايات فن الفسيفساء) عصر نبوخذ نصر الثّاني ( 604-562 ق م)

وكان للعراقيين السبق بوصفهم الأوائل الذين استخدموا الطوب المزجّج في تزيين الجدران بأشكال هندسيّة متعدّدة، هذا بالإضافة إلى الفضل في تقليل أحجام الموادّ المستخدمة إلى أقلّ قدر ممكن يرافقها مهارة وحرفيّة عالية في آلية التركيب. هذا وقد عثر على أرضيّات مخروطيّة طينيّة في الألف الرابع قبل الميلاد في بلاد ما بين النهرين، وقد ظهرت بألوان متعدّدة مغروسة بالطين على حوائط الأبنية والأعمدة قبل أن تجفّ. أما أقدم فسيفساء فوجدت في اليونان في مدينة أولينثوس وذلك في القرنين الخامس والرابع ق.م، كما وجدت أمثلة في أوليمبيا وسوريا ومقدونيا، بعد ذلك ظهرت الفسيفساء الرومانيّة التي انتشرت في جميع أرجاء الإمبراطوريّة الرومانيّة الغربيّة وإلى سوريا وحوض البحر الأبيض المتوسّط وشمال إفريقيا وفرنسا وذلك ما بين القرنين الأوّل والثالث الميلاديّ. واتّسع نطاق هذا الفنّ وشاع بصورة كبيرة إبّان العصر الرومانيّ بخاصّة في الفترة الواقعة ما بين القرن الأوّل الميلادي وحتّى القرن الثالث، وهي فترة الذروة والازدهار لهذه الإمبراطوريّة .فنجد أنّ هذا الفنّ التصويريّ قد غطّى منازل مواطنيها الذين ينعمون بحياة فارهة من أبناء الطبقة المخمليّة الأرستقراطيّة، إذ لم يكد يخلو بيت في روما إلا وقد اكتست قاعته الداخليّة بلوحات فسيفسائيّة تصوّر عوالم البحار وما يرتبط بها من سفن تعلوها وأسماك تعيش بباطنها، إضافة إلى تصوير أنواع أخرى من الحيوانات ورسوم الفاكهة والطعام شكل (24) .

 

 

 

 

شكل (24)

ولوحظ أنّ الرومانيّين أشاعوا استخدام اللونين الأبيض والأسود وقد ظهر الميل لعمل أشكال هندسيّة في أواخر القرن الثالث الميلاديّ وذلك نظرًا للتأثير الذي أحدثه دخول المسيحيّة الأوّلى.  إذ دخل هذا الفنّ بمرحلة جديدة أطلق عليها العصر الذهبيّ إبّان العصر البيزنطيّ، والتي ظهرت بكثرة على جدران الكنائس وأرضيّاتها وقبابها شكل (25).

شكل (25)

وقد استخدمت فنون الزّخرفة الفسيفسائيّة إبّان هذا العصر المستمدّة من مصدرين؛ أوّلهما المدن الهلنستيّة مثل الإسكندريّة والأخرى كانت من الحضارة الساسانيّة من خلال استمرارها بالموضوعات الوثنيّة المستمدّة من الأساطير التي قلّدت الإسكندر في أشجار الكروم وأوارق الاكانتس. وتجلّى الفنّ الإسكندريّ ممثّلا بأشكال الوجوه والمناظر الطبيعيّة. كما شهد هذا الفنّ تطوّرًا تقنيًّا من حيث استعمال الألوان واستغلال درجاتها وتدرّجات الألوان في الزجاج وقد استعمل الزجاج لتغطية الجدران والقباب، بينما استعملت مكعّبات من الحجارة والرخام لتغطية الأرضيّات لأنّها تتحمّل أكثر ولا تتلف بسهولة، كما يحسب للبيزنطيّين إلى جانب الزجاج إدخالهم للمعادن في صناعة اللوحات الفسيفسائيّة. ومن أنواع الزّخرفة؛ الزّخرفة النباتيّة ـ الزّخرفة الهندسيّة ـ الزّخرفة الكتابيّة.

الزّخرفة النباتيّة

وتكون الزّخرفة النباتيّة أو ( فن التوريق ) على زخارف مشكّلة من أوراق النبات المختلفة والزهور المنوّعة، وقد أبرزت بأساليب مقدّمة من إفرادٍ ومزاوجة وتقابل وتعانق، وفي كثير من الأحيان تكون الوحدة في هذه الزّخرفة مؤلّفة من مجموعة من العناصر النباتيّة متداخلة ومتشابكة ومتناظرة، تتكرّر بصورة منتظمة وباستعمال الفنّان المسلم خياله استطاع أن يبتعد بفنّه عن تقليد الطّبيعة، فجاءت توريقاته عملًا هندسيًّا ، أُميت فيه العنصر الحيّ، وساد فيه مبدأ التجربة، إذ انتشر استعمال هذه الزّخارف في تزيين الجدران والقباب، وفي التحف المختلفة (نحاسيّة وزجاجيّة وخزفيّة(، وفي تزيين صفحات الكتب وتجليدها[21] .

ويقصد بالزّخرفة النباتيّة؛ الزّخارف التي تتكوّن من رسومات تعتمد على العناصر الطبيعيّة، وهي نوع من العمل التزيينيّ ينفّذه متفنّن ماهر، وتسمّى أحيانًا “الأرابيسك” أو “التوريق”، وهي عبارة عن زخارف مشكّلة من أوراق النباتات والزهور المنوّعة والأشجار وأجزاء النباتات، وقد أُبرزت بأساليب متعدّدة من إفراد ومزاوجة وتقابل وتعانق، وشاعت عند الأمم والشّعوب، لكن كان لكلّ منهم طابعه الخاص الذي يعبّر عنه من خلال واقعه ومشاهدته للطبيعة وتذوّقه الفنّيّ وخياله الواسع، وقد حظيت الفنون الإسلاميّة بكمٍّ هائل من الزّخرفة النباتيّة التي عبّرت عن الصورة الحضاريّة الإبداعيّة التي تنتسب إلى تلك العقيدة الواضحة فكرًا وتطبيقًا وتجلّت مكتوبة، أو ملموسة، واستمرّت متنامية من دون أن تخرج عن أساسها العقائديّ وفلسفتها الواسعة التي لم تصل فلسفة أخرى إلى حدود اتّساعها وانتشارها، إذ كانت الطّبيعة أحد مصادر الإلهام للفنّان المسلم، فالخيال والعناصر التجريديّة كانت أيضًا حاضرة بقوّة في أعماله الزخرفيّة.

استخدمت الزّخرفة النباتيّة في الفنّ الإسلاميّ الذي تميّز بالتماثل من خلال ارتباطه بنموذج أقرّه العرف والعقيدة، بسبب هذه العوامل بدا الفنّ الإسلاميّ للعين الغربيّة في الوهلة الأوّلى ذا درجة معيّنة من الرتابة، لأنّه من الصعب تحديد المنطقة الخاصّة بمنتجاته، والأكثر صعوبة تحديد زمانها وتاريخها.

ولقد كان للزخرفة النباتيّة دورٌ مهمّ كونها تحمل ثقافة بعض المهن العربيّة الإسلاميّة ومنها: التصفيح، التوشيع، الترصيع، التكفيت، التلبيس، التطعيم، القرنصة، التزويق، العجميّ، ومن أبرز الموادّ المستخدمة فيها: الرخام ـ الجصّ ـ الخشب ـ المعادن ـ الآجر ـ الفسيفساء ـ القاشاني ـ الخزف.

ـ نشأة الزّخرفة النباتيّة

تعدّ الزّخرفة مرآة حضارة الشّعوب والأمم التي تعكس عاداتها وتقاليدها ومدى رقيّها وتحضّرها، إذ يستطيع الباحث من خلال مشاهدة الزّخارف تخيّل الواقع الذي عاشه كلّ شعب في أيّ عصر كان، ومن الجدير القول أنّ الزّخرفة كانت حاضرة في أعمال الإنسان في العصور جميعها، ومن الثابت علميًّا أنّ الإنسان عرف الفنّ قبل أن يعرف اللغة؛ وهذا يتجلّى من الرسومات التي كان يخطّها على جدران الكهوف وعلى جذوع الأشجار، فعندما شعر بحاجته إلى التجميل والزّخرفة كانت الطّبيعة مصدر إلهامه الأوّل، إذ استوحى منها بعض العناصر الزخرفيّة وزيّن بها كهفه ووشم بها جسده، لذا تعرّف الإنسان إلى الفنّ قبل أن يعرف الاستقرار والزراعة؛ بسبب طبيعة النفس البشرية التي تتوق إلى التقليد والمحاكاة، فأخذ الإنسان القديم يقلّد كلّ ما يحيط به من مناظر الطّبيعة وأشجارها وحيواناتها برسومات تعبيريّة بسيطة. وعند مجيء الإسلام أعطى للزخرفة عادات وتقاليد وأعراف دلّت على الاتّجاه الفكريّ والدينيّ عند المسلمين، وطبعها بطابع إسلاميّ، لتصبح فيما بعد عنصرًا أساسيًّا في الزّخرفة وقاعدة أساسيّة للفنّانين المسلمين.

ثم بدأت فنون الزّخرفة تنمو على يد الصنّاع والمهرة في العصر الأمويّ وما بعده من العصور التالية، من خلال اعتماد الفنّان المسلم على التعديل والتجديد عن الأصول السابقة التي كانت سائدة، (النمط البيزنطيّ والساسانيّ والهيلنستي) الذي ساد في منطقة بلاد الشام والعراق آنذاك، فنتج من هذا المزج والتعديل عناصر زخرفيّة بيزنطيّة ـ إسلاميّة كما هو الحال في فسيفساء مسجد قبّة الصّخرة في القدس، والمسجد الأمويّ في دمشق، ثم انتشرت بشكل أوسع لتشمل زخرفة صفحات المصاحف الشريفة، والكتب والأواني، والسجاد، وأثاث البيوت.

وكان للألوان مدى وتأثير عميق داخل النفوس، إذ ارتبط اللون بمصيرين جوهريّين: الأوّل هو النور القادم من السماء بالخالق الأعلى، والثّاني الحوافز المرتبطة باللون كالعين أداة جاسّة لذلك النور، ومن أهمّ الألوان بالزّخارف المحفورة: الأزرق، والأزرق الفيروزيّ، والأخضر، والذهبيّ، والتي لها تأثير نفسيّ مركّب على النشاط العضويّ للجسم مثل ضغط الدم وارتخاء العضلات.

ذكرت الزّخرفة في القرآن الكريم في سورة الزخرف ﴿وجعلنا َلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا من فضّة ومعارج عليها يظهرون * ولبيوتهم أبوابًا وَسُرُرًا عليها يَتَّكِؤُونَ *وَزُخْرُفًاَ﴾[22] ويقصد الزخرف هنا الذهب والغنى، وأيضًا في سورة الأعراف   قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ وهي من النعم الواجب إظهارها قولًا، وفي التعامل فعلًا وفي المرئيّات زينة، ضمن القواعد الإسلاميّة.

العناصر النباتيّة المستخدمة في الزّخرفة النباتيّة:

تنوّعت أشكال العناصر النباتيّة المستخدمة في الفن الإسلاميّ، كالزّخرفة بالأغصان في دقّة رسمها وعرضها وتركيباتها، ومن أشهر الأزهار التي غالبًا ما كانت تستعمل في الأعمال الزخرفيّة هي: التوليب، والخشخاش، ورد القرنفل، الطحالب، البنفسج، النرجس، ومن النباتات التي تناولها المزخرفون: عناقيد العنب، أوراق الأكانتس، وأنواع مختلفة من الشجيرات.

العوامل التي أثّرت في أساليب الزّخرفة الإسلاميّة
أ ـ عامل المكان: من خلال تنوّع أساليب التعبير الزخرفيّ في البلدان التي اعتنقت الإسلام، وإبداعات الفنّان المسلم بالتحوير والتعديل لإيجاد فنّ زخرفي خاصّ به.
ب ـ عامل الزمان: عبر امتداد العصور الإسلاميّة وتطوّر الحياة سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا.
ج ـ عامل المادّة والبيئة: استخدم الفنّان الخامات والموادّ المتوافرة في بيئته ما أدّى إلى تنوّع الفن بتنوّع هذه       الخامات من بلد إسلاميّ إلى آخر.

أساليب الزّخرفة النباتيّة:

1ـ التوازن: وهو قاعدة أساسيّة يجب توافرها في كلّ تكوين زخرفيّ أو عمل فنّي زيتيّ، وهو يعبّر عن التكوين  الفنّي المتكامل من طريق إتقان توزيع العناصر والوحدات والألوان، وتناسق علاقاتها ببعضها، وهو قانون مستوحى من الطّبيعة.
2ـ التّناظر أو التّماثل: هو انطباق أحد نصفي التّكوينات الزخرفيّة على النصف الآخر بواسطة مستقيم يسمّى “محور”، وللتّناظر أنواع منها ( الكليّ والنصفيّ)، الكلّي: يكتمل التكوين من عنصرين متشابهين تمامًا في اتّجاه متعاكس، والنصفي: يضمّ العناصر التي يكمل أحد نصفيها النصف الآخر في اتجاه متقابل وأبرز أمثلتها الطّبيعة.

3ـ التّشعّب: التّشعّب والتفرّع من نقطة وهميّة إذ تنبثق خطوط الوحدة الزخرفيّة من نقطة للخارج، أو تشعّب من خطّ؛ تتفرّع الأشكال والوحدات من خطوط مستقيمة أو منحنية من جانب واحد أو جانبين كسعف النخيل ونموّ الأوراق من فروعها، ونموّ الفروع من سيقانها، والسيقان من الجذوع.

4ـ التّناسب: أهمّ قواعد الجمال، ليس له قاعدة إنّما يتوقّف على الذوق الفنّي ودقّة الملاحظة وقوّة التميّز.

5ـ التشابك: يظهر بكثرة في الزّخارف العربيّة على شكل التفاف عاديّ أو التفاف حلزونيّ، أو التفاف ساقين من النبات بشكل متعاكس.

6ـ التكرار: تكوينات زخرفيّة تضمّ مجموعة زخرفيّة متشابهة تشابهًا تامًا، وهو إمّا (عاديّ) إذ تتجاور الوحدات الزخرفيّة في وضع ثابت متناوب،( ومتعاكس) تتجاور الوحدات الزخرفيّة في وضع متعاكس تارةً للأعلى، وتارةً للأسفل، ( ومتبادل) استخدام وحدتين زخرفيّتين مختلفتين في تجاور وتعاقب الواحدة تلو الأخرى ويسمّى أيضًا   (التعاقب المتناوب).

مفهوم الجمال في الفكر الفلسفيّ

 

كان لموضوع الجمال أهمّية في عدد من النظريّات الفلسفيّة منذ العصر اليونانيّ حتى العصر الحديث، وكان لعدد من الفلاسفة إسهامات مميّزة في توضيح ماهية الجمال، إذ خضع هذا المفهوم إلى متغيّرات عدّة، تبعًا لمرجعيّاتهم التكوينيّة، والزمن الذي عاشوا فيه، والتي حدّدت طبيعة منطلقاتهم الفكريّة والفلسفيّة، ما انعكس ذلك على تقديراتهم لمفهوم الجمال ففي الفلسفة اليونانيّة يعدّ (سقراط) من أوائل الفلاسفة اليونان الذين اهتمّوا بمشكلة الجمال، فقد أكّد أهمّية النفس في إضفاء الجمال على المحسوسات الموجودة في العالم الماديّ الذي نعيش فيه .[23] كما تأثّر (أفلاطون) بأستاذه (سقراط)، إذ أكّد على مثال الجمال ، فقد اكتشف موضوع الجمال الكليّ، عندما تأمّل وجوده في الموجودات الحسّية ثم أخذ يعلو بعد ذلك تدريجيًّا وصولًا إلى الأصل المتسامي (الجمال المطلق)، الذي ربط بينه وبين القيم المطلقة (الحقّ والخير). [24]  كما كان للفلاسفة المسلمين دورٌ مميّز وأساسيّ في وضع تفسيرات عديدة لمفهوم الجمال، وقد استفادوا من الطروحات والآراء والأفكار الجماليّة التي انتهى إليها فلاسفة الفكر اليونانيّ، بل طورها بإدخال روح الإسلام عليها، فظهور الدين الإسلاميّ خلق وعيًا جديدًا في مفهوم الجمال، والاهتمام بالفنون، وتحسّس الذائقة الجماليّة في الأشياء.[25]  ويذكر (تيتوس يوركهارت) الناقد المتخصّص بالفنون الإسلاميّة مؤكّدا “أنّ الفنّ الإسلاميّ هو ثمرة التأمّل العقلانيّ الأصيل، أو الرؤيا الروحيّة للعالم أو الحقيقة ما وراء الكون. وهذا لا يأتي إلّا من طريق الخروج بالفن الإسلاميّ- من عالم المنظور والحسّ إلى عالم الرمز والحدس[26]. وبذلك عالج الفنّان المسلم موضوعاته بطريقة لا تحيله إلى مظاهر العالم المحسوس، كمحاولة للوصول إلى المطلق. متّخذًا من التجريد الأسلوب الذي يتناسب وعقيدته للوصول إلى ما هو روحيّ ووجدانيّ ذلك إنّ القيمة المطلقة تربط الفرد بقوّة روحيّة عالية وهذه القوة الروحيّة لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال أعلى مراحل الفكر والتأمّل وهو الحدس وآليّاته من طريق السلوك العرفانيّ، الزهد، التجرّد من الحياة الدنيا، العبادة المطلقة، التصوّف، للوصول إلى الحقيقة المطلقة بقوله: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾[27] 

 

 

أهمّ المعالم الإسلاميّة المزخرفة بالزّخرفة النباتيّة

الجامع الأمويّ:

من أهمّ الآثار العربيّة الإسلاميّة في دمشق الفيحاء، وله أهمّية بالغة لمكانته الدّينيّة والتّاريخيّة، بالإضافة لما يحتويه من تصوير لزخرفة نباتيّة، ويعتبر نقطة تحوّل كبيرة في التّاريخ العربيّ كونه يمثّل بداية الثورة على البساطة والتقشّف التي اتّسم بها عصر ما قبل العصر الأمويّ، ويعدّ انطلاقة جديدة في مضمار فنون العمارة والزّخرفة والتصوير، أنشأ المسجد الأمويّ الخليفة (الوليد بن عبد الملك) وقام بزخرفة الجدران بالتصاوير التي تألّفت من عنصرين أساسيّين هما (الفسيفساء والرخام)، فضلًا عن المنحوتات الجصّية والحجريّة المتميّزة بإبداعها سواء في تكوينها الذي يتجلّى فيها الخيال الإبداعيّ الإسلاميّ، واحترام العقيدة إلى جانب تفوّقها على أيّ أعمال فسيفسائيّة في الفنون التي سبقت الإسلام سواء الفنّ الرومانيّ أو الهيلنستيّ أو البيزنطيّ، تغطّي الفسيفساء الأجزاء العليا للجدران الداخليّة والخارجيّة، إضافة إلى الأروقة والحرم وباطن العقود والقناطر، وزخرفت السقوف بنوع من الفنّ المعروف (العجميّ) ويتخلّل الفسيفساء كتابات لآيات قرآنيّة.

 

 

 

شكل(26 ) فسيفساء الجامع الأمويّ في دمشق

وشهدت تقنيّاته ومواضيعه تغيُّرات وتطوُّرات عديدة على مرِّ القرون التالية. ولقي اهتمامًا خاصًّا خلال العصر الإسلاميّ من قبل الخلفاء والملوك والأمراء، فزُيِّنت القصور والجوامع بمزيج من فنون النحت والحفر والإكساء بالفسيفساء، ما خلق فنًّا متميّزًا فيه من السحر ومن الصنعة ما يدهش.

 

 

 

 

 

شكل (27) جانب من فسيفساء الجامع الأموي بدمشق، حيث تختلط الأشكال الهندسية مع رسوم نباتية في دقة وصنعة رائعتين

وقد عاد فنّ الفسيفساء اليوم للازدهار، إذ توجد مدارس كثيرة تعلّم أساليبه وتقنيّاته، وتأخذ فيه الرسوم ذات المواضيع الحديثة حيّزًا كبيرًا. وباتت لوحات الفسيفساء الحديثة تستخدم في تزيين جدران وأرضيّات البيوت والمخازن والمباني العامّة.

أصول تقنيّات فن الفسيفساء

الفسيفساء لوحات مختلفة الحجوم، تشكّل أرضيّات أو لوحات جداريّة في البيوت والمعابد والقصور والكنائس والجوامع، وهي تتشكَّل من قطع صغيرة من الأحجار والرخام والجرانيت والبلُّور والخزف والأصداف والأخشاب، ترصف في تناسق جنبًا إلى جنب لتؤلّف لوحات تستخدم في إكساء واجهات المباني أو أعمال الزّخرفة الداخليّة والخارجيّة والأرضيّات. وهي تتميَّز بثبات ألوانها وأشكالها لأنها مبنية من موادّ طبيعيّة. وتعدُّ من أهمّ موادّ البناء المستخدمة في زخرفة وتزيين المباني.

 

 

 

 

 

شكل (28)

إنّه فنُّ التلاحم والتشابك بين قطع صغيرة الحجم من الحجارة ذات ألوان مختلفة بهيجة، فإذا بها تشكّل صورًا تنبعث حية وجميلة من تراصف بسيط. لقد استطاع الفنان بأدواته البسيطة وقدرته الخلاقة أن يترجم فلسفات حضاريّة كاملة في ألوان متعدّدة عبر قطع مكعّبة الشكل لا يتعدَّى حجمها السنتمتر الواحد، من الرخام، أو الزجاج، أو القرميد، أو البلّور، أو الصدف، أو أيّة موادّ أخرى ثابتة اللون قابلة للقطع والصقل. فكيف تطوَّرت هذه التقنيّة وإلى أين ترجع أصولها؟

قبة الصّخرة

أثر فنّي كبير فريد من نوعه في العالم ليس فقط لجماله، بل لأنّ هويّته العربيّة تعطيه أكثر ضخامة من بقيّة الآثار التصويريّة الباقية في العصر الأمويّ، تمّ بناؤه في العصر الأموي من قبل الخليفة (عبد الملك بن مروان)، تحيط زخارف الفسيفساء أنحاء قبّة الصّخرة من الداخل والخارج المؤلّفة من مكعّبات صغيرة من الزجاج الملوّن والمذهب، بالإضافة إلى قطع من الصدف أحيانًا، والأقسام العلويّة من الرواق الأوسط وتغطّي جدران المسجد عناصر زخرفيّة نباتيّة متنوّعة أغلبها محوّرمن الطّبيعة بأسلوب زخرفيّ رائع، منحه التحوير حلّة إبداعيّة في أشكال متناظرة أو متتابعة، والملاحظ من خلال دراسة الأساليب والعناصر الفنّية في رسوم وزخارف قبّة الصّخرة هناك رسومًا مقتبسة من الفنون الإغريقيّة والبيزنطيّة مع عناصر من الفنّ الهيلنستيّ والساسانيّ.

 

 

 

 

شكل (29) زخارف الفسيفساء قبّة الصّخرة

شكل (30) مشهد لقبة الصّخرة من الداخل

ونرى الفسيفساء تغطّي أجنحة وبواطن العقود ورقبة القبّة، من خلال فصوص صغيرة ومكعّبات مختلفة الأحجام من الزجاج الملوّن والأبيض الشفّاف في تآلف وتشابك مع الأحجار الورديّة وحبّات الصدف. تبلغ مساحة الفسيفساء في القبّة أكثر من 1200 مترًا مربّعًا من الجدران في الداخل والخارج، ويغلب عليها اللونان الذهبيّ والفضّيّ، إلى جانب الأزرق والأخضر بدرجاتهما المختلفة. ودوِّنت وسط هذه التّكوينات آيات من القرآن الكريم بالخطّ الكوفيّ.

ما يزال هذا الفنّ سائدًا في بلاد الشام إذ ارتبطت هذه الحرفة بعراقة سوريا وحضارتها الموغلة في القدم كونها مهد الحضارات وموروث ثقافيّ يعبّر عن أصالة الشعب السوريّ وعشقه للفنّ والجمال، لكنّه بات من الفنون التراثيّة التي على وشك الإندثار.

وفي زيارة إلى سوق المهن اليدويّة الواقع في التكيّة السليمانيّة في العام 2017؛ للتعرّف إلى قامة من قامات سوريا ممّن يتقنون الزّخرفة النباتيّة والرسم على الخشب أو ما يسمّى “العجميّ” الحرفيّ المهندس عرفات سلمان أو طه باشي وشيخ الكار في الرسم النباتيّ على الخشب، تحدّث عن هذه الحرفة المتوارثة جيلًا بعد جيل، وعن آليّة العمل والموادّ المستخدمة فعدّد أنواع الزّخرفة قائلًا: “هنالك ثلاثة أساليب للزخرفة، الرسم الهندسيّ والنباتيّ والخطّ العربيّ، ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر لأنّ هذه الزّخارف مرتبطة ببعضها، حيث يمكن المزج بين الزّخرفة الإسلاميّة والخطّ العربيّ”، وذكر الصّعوبات التي تواجه هذا الفنّ العريق في ظلّ الأزمة السوريّة، وهجرة العاملين في هذه الحرفة إلى الخارج مؤكّدًا على أهمّيتها كونها جزءًا من التراث اللاماديّ السوريّ.[28]

شكل (31) فسيفساء من قصر الحمراء في الأندلس، وتظهر فيها جمالية الزّخرفة الهندسية

شهد العصر العباسيّ ظهور الفسيفساء الخزفيّ، أو ما يعرف بالقيشاني، الذي تجمَع فيه قطع صغيرة الحجم مختلفة الأشكال من الخزف، ويتمّ تثبيتها على الجدران بواسطة الجصّ الملاط. وقد أسّس الأندلسيون أوّل مشغل لتصنيع وتصدير القيشانيّ إلى كثير من بلدان العالم في أوائل القرن العاشر الميلاديّ، وكان ذلك دليلًا واضحًا على مدى التقدّم الذي وصل إليه فنّ الفسيفساء عندهم. ولهذا شهد تزيين الجوامع بشكل خاصّ تطوُّرًا مهمًّا في بقاع العالم الإسلاميّ، تمثّل في استخدام تربيعات البلاط والقيشانيّ لإبراز الأشكال الزخرفيّة وإعطائها بعدًا أكثر تأثيرًا من حيث اللون والبريق. والقيشاني خزف مغطّى بقشرة رقيقة بيضاء عليها طلاء أبيض شفّاف فيه لمعان وتحته رسوم محدّدة وهي ذات ألوان خضراء أو زرقاء فيروزيّة أو حمراء قاتمة. ويكون القيشاني على شكل بلاطات مربّعة، أو مستطيلة، أو سداسيّة، أو مثلّثة.

شكل (32) نموذج من القاشاني من الجامع الأموي الكبير بحلب، وهو نموذج لإكساء الجدران أخذ ينافس

الفسيفساء بشكل كبير خاصة في العصر العثماني

الفسيفساء رسم لا يستخدم الألوان. وتعود الشعبيّة العريقة للفسيفساء في جزء كبير منها إلى ديمومتها وإلى السهولة النسبيّة في تنفيذها. والفسيفساء أفضل حفظًا بكثير من الرسم على المساند أو من الرسوم الجداريّة. ويعدّ الباحثون المعاصرون الفسيفساء مصدرًا مهمّا لمعرفة الأعمال الفنّية الضائعة من الفنّ التصويريّ القديم. ومن منظور تقنيّ فإن تصنيع الفسيفساء يتطلّب تثبيت الكثير من الزّخارف المراد صنعها بشكل دائم على بنية تحتية أو حامل يتألّف عادة من طبقات من الملاط أو الكلس) أو الإسمنت حاليًّا. (ولم يكن اختيار الموادّ القابلة للاستخدام محدودًا، غير أنّ مكعّبات ملوّنة صغيرة اعتدنا على تسميتها بالمكعّبات tesselles اعتمدت منذ العصور القديمة. وكانت المكعّبات تنحت عمومًا من عدّة أنواع من الحجارة الطبيعيّة، غير أنّه كان يمكن تصنيعها أيضًا من عجينة من الزجاج الملوّن، ومن الصلصال، وكان يمكن أن تكون مذهّبة في بعض الأحيان. وكان الأثر الفنيّ الأخير يتعلّق بشكل خاصّ بحجم وشكل هذه المركّبات. ولهذا عرفت تقنيّات الفسيفساء منذ العصور القديمة تسميات: تقنيّة القطاعات opus sectile، وتقنيّة المكعّبات opus tessellatum ، والتقنيّة الشريطيّة opus vermiculatum, وهي مصطلحات ترتكز على حجم وشكل القطع المستخدمة لإنجاز الفسيفساء. وكان ثمّة مجموعة متنوّعة من المقصّات الخاصّة والمطارق والملاقط التي تستخدم في تقصيب الكتل الحجريّة الكبيرة وتقطيعها إلى قطع ذات حجم وشكل مناسبين. ثم كانت المكعّبات الناتجة تُجمع حسب لونها في مجموعات. وكان لا بدّ من الحصول على الآلاف منها بخاصّة إذا كانت صغيرة الحجم، لإنجاز لوحة فسيفساء حتى وإن كانت المساحة المراد تغطيتها محدودة وصغيرة.

حرفيّو الفسيفساء

يمكننا تقدير العمل الجبّار الذي كان يقوم به حرفيو هذا الفنّ الذين عملوا في مشاغل أصبحت مشهورة وكبيرة. فقد كان للفسيفساء وظيفة تزيينيّة وعملية في آن واحد. وكان لا بدّ أن تكون جميلة المنظر، ومقاومة أيضًا عبر الزمن للتلف والتفكّك. فكان من المهم جدًا بالتالي تحضير بنية تحتيّة صلبة مؤلّفة من عدّة طبقات وقادرة على تحمل حمولات ثقيلة. ووفق النموذج الذي كان يمتدحه المعماريّ الشهير في روما القديمة، فيتروف Vitruve ، كان لا بدّ لحامل الفسيفساء من أن يقوم على عدّة ركائز: طبقة من الحصى الكبيرة أو من البلاطات الحجريّة الموضوعة مباشرة على الأرض المدكوكة؛ وملاط من الكلس مخلوط مع حصى صغيرة وفخّار مسحوق ورمل؛ ثم تأتي فوقها طبقة ثخانتها بضعة سنتمترات تغطّيها أيضًا طبقة أخرى من الملاط نفسه إنّما يحتوي هذه المرّة على مواد أنعم. وعندما تجفّ هذه الطبقات التحتيّة مع تصلّبها تدريجيًا، كان يتمّ وضع طبقة أخيرة من ملاط الكلس ناعمة جدًّا تغرَز المكعّبات الحجريّة على سطحها، وهي لا تزال رطبة، ما يثبّتها تثبيتًا قويًا. ولم تكن الفسيفساء كلّها تتطلّب مثل هذه التحضيرات ولم يكن حاملها في كثير من الأحيان معدًّا على هذا النحو من العناية. وكان يتمّ جلب فرق كاملة من العاملين بالفسيفساء من المشاغل المختصّة بذلك، مثل مشغَل حمص أو مشغل أنطاكية في سورية، من أجل إنجاز هذا العمل الذي كان يقسم إلى مهمّات منفصلة تعهد إلى حرفيّين معلّمين متخصّصين – مختلفين. وكان الحرفيّون الأكثر خبرة يكلّفون بوضع المكعّبات في أماكنها. وكان تحضير ملاط الكلس يتمّ يومًا بيوم، ما يكفي لوضع المكعّبات في هذا اليوم. وكان الحرفيّون يعملون على وضع خطّة يوميّة لتنفيذ العمل، فيقدّرون حجم العمل وكمّية المكعّبات والكلس ومختلف الموادّ الأخرى. فكانت حرفة الفسيفساء حرفة فائقة التنظيم. وهكذا، مع التخطيط والإدارة الجيّدة كانت تولّد شيئًا فشيئًا صورة متعدّدة الألوان، مثل سجّادة صوفيّة حيكت بهمّة ونشاط. من كان هؤلاء الحرفيّون؟ إنّنا في الحقيقة لا نعرف الكثير عنهم، إذ كان من النادر أن يوقّع عمّال الفسيفساء على أعمالهم (لا يتجاوز عدد الأعمال الموقّعة 1%). وكانت التواقيع في كثير من الأحيان تأتي بصيغة المجهول، وتحمل طلبًا للمباركة والمعونة. يقدّم هذا النوع من التواقيع الاستثنائيّة فكرة عن الوضع الاجتماعيّ لهذا الفنّ. يشبه ذلك إلى حدّ ما نراه اليوم في مجتمعاتنا. فهل نطلب من عامل بناء مثلًا أن يضع توقيعه على بلاط المطبخ أو الحمام؟ نخلص من ذلك إلى أن الوضع الاقتصاديّ لهؤلاء الحرفيّين لم يكن جيّدًا أبدًا، وربّما كانت المشاغل التي يعملون فيها كمهنيّين فيها تستغلهم لإنجاز أرباح كبيرة. لقد حدّد مرسوم ديوكليسيان الصادر العام 301 م، أغلى أجر يمكن أن يتقاضاه عامل فسيفساء مياوم ب 60 فلسًا، وكان يمكن للعامل الذي يرتّب كسر الفسيفساء على طبقة الملاط، أن يأمل بتقاضي 50 فلسًا باليوم، وهو الأجر نفسه الذي يمكن أن يتقاضاه الخبّاز أو عامل البناء، في حين كان يمكن لأجر الرسّام أن يصل إلى 75 فلسًا. بعضهم كان يعدّ عمّال الفسيفساء من الطراز الأوّل معلّمي حرفة قادرين على خلق نماذج فنّية لزخرفة الأرضيّات والجدران، بينما كان يتمّ تكليف عمّال الفسيفساء الأقلّ حرفيّة بتغطيّة الأشكال المرسومة مسبقًا بكسر الفسيفساء. ولا بدّ من الإشارة أخيرًا إلى أن التوافق الجماعيّ بين الحرفيين كان سبب نجاح أيّ عمل ينجزونه.

شكل (33) لوحة تصويريّة تمثّل مجموعة من حرفيي الفسيفساء. وتظهر في اللوحة الطبقات المتعدّدة التي تمّ وضعها ورصّها فوق بعضها قبل البدء بتخطيط رسم اللوحة على طبقة من الكلس. ونشاهد تقسيم العمل بين من يحضر الرسم ومن يحضر قضبان المكعّبات ومن يفرز المكعّبات حسب ألوانها في علب خاصّة، ومن يقوم بمدّ الغراء اللاصق ومن يضع المكعّبات أخيرًا في مواضعها.

فنّ الفسيفساء المعاصر

عاد هذا الفنّ العريق للظهور من جديد بصورة حديثة تواكب العصر ولعلّ أبرز ما دفع الناس للعودة إليه هو جماليّة هذا الفنّ فضلًا عن البحث دائمًا عن التجديد في مناجم التراث القديم والحضارات القديمة … فعاد فنّ الفسيفساء للظهور في المنازل والقصور والأسواق الحديثة وفي أحواض السباحة والحمّامات وفي أشكال رائعة من اللوحات الجداريّة الضخمة… الخ.

شكل (34) لوحة من فن الفسيفساء المعاصر

الزّخارف الهندسيّة

برع المسلمون في استعمال الخطوط الهندسيّة، وصياغتها في أشكال فنّيّة رائعة، فظهرت المضلّعات المختلفة، والأشكال النجميّة، والدوائر المتداخلة، وقد زيّنت هذه الزّخرفة المباني، كما وشّحت التحف الخشبيّة والنحاسيّة، ودخلت في صناعة الأبواب وزخرفة السقوف ما يعدّ دليلًا على علم متقدّم بالهندسة العمليّة. [29]

وقد استطاع المسلمون استخراج أشكال هندسيّة متنوّعة من الدائرة، منها المسدّس والمثمّن والمعشّر، ومن ثم المثلّث والمربّع والمخمّس، ومن تداخل هذه الأشكال مع بعضها وملء بعض المساحات وترك بعضهما فارغًا فتحصل على ما لا حصر له من تلك الزّخارف البديعة التي تستوقف العين لينتقل بها رويدًا رويدًا من الجزء إلى الكلّ، ومن كلّ جزء إلى كلّ أكبر. اهتمّ الفنّان المسلم بالبحث عن تكوين جديد مبتكر يتولّد من اشتباكات قواطع الزوايا أو مزاوجة الأشكال الهندسيّة ، لتحقيق مزيد من الجمال الرصين ومن الأمثلة على الأشكال الهندسيّة: الدوائر المثمّنة والمتجاورة والجدائل والخطوط المنكسرة والمتشابكة ومن أبرز أنواع الزّخارف الهندسيّة التي امتازت بها الفنون: الأشكال النجميّة متعدّدة الأضلاع ، والتي تشكّل ما يسمّى (الأطباق النجمّيّة) ولقد ذكر الناقد الفرنسيّ (هنري فوسيون) الزّخارف الهندسيّة عندما قال: من يجرّد الحياة من ثوبها الظاهر، وينقلها إلى مضمونها الدفين مثل التشكيلات الهندسيّة للزخارف، فليست هذه التشكيلات سوى ثمرة لتفكير قائم على الحساب الدقيق، قد يتحوّل إلى نوع من الرسوم البيانيّة لأفكار فلسفيّة ومعانٍ روحيّة [30]

         وتقوم هذه الزّخارف على خلفيّة روحيّة، ففي الصور الهندسيّة الإشعاعيّة صور الكون في نسيج متشابك، يعطي معنى وحدة الوجود فالأشكال النجميّة ذات قيم جماليّة وفلسفيّة قائمة على فكرة سرمديّة وأنّ الله هو سيّد الكون ومصدر هذه السرمديّة. سواء أكانت سداسيّة، أم خماسية، أم مضاعفاتها، أي إنّ الشكل في الفنّ الإسلاميّ برأي الباحثين يمتلك حضورًا دلاليًّا يعكس النظرة التأمّلية للفنّان المسلم والخلفيّة الروحيّة التي يستند إليها. والروحيّ هو عكس الماديّ لا يبحث في الأشياء كموجودات مادّية كما في قوله تعالى ﴿ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربّي﴾[31]. أمّا الشكل المربّع في الفكر الإسلاميّ فهو الشكل المثاليّ للتوازن والاستقرار ويمثّل عند الذهنيّة الإسلاميّة مسقط الكعبة الشريفة وتحكم علاقة أضلاعه بمركزه قوّة خلّاقة تولّد الأشكال الهندسيّة الحسّيّة (المثلّث ، الدائرة ، المستطيل، المضلّعات) أمّا الدائرة فهي الشكل الذي يرسمه المسلّمون في دورانهم حول النقطة المركزيّة الكعبة .[32] وحينما نحاول الكشف عن أسرار تلك الزّخارف ما نلبث أن نجد أنفسنا مدفوعين إلى التسليم بروعة الفنّ الإسلاميّ ورقّته ، وتأثير أشكاله الرائعة التي تتعاقب متنوّعة بلا نهاية لتردّنا إلى عالم التجريد الذي ينفذ إلى جوهر التكوين فتعكف النفس عن التأمّل وتنعم بالسكينة. [33]

الزّخارف الكتابية

لقد أخذت الزّخرفة الكتابيّة أهمّية ومنزلة خاصّة في الفنّ الإسلاميّ، ذلك لارتباط الحرف بكتاب الله سبحانه وتعالى فالحرف له القدرة على التشكيل لأنّ فيه الليونة والتماثل والتّناظر وتعدّد المساحات وتنوّع الوحدات، كما أنّه يحتفظ في الوقت نفسه بتجريديّته الذاتيّة كنصّ قابل للقراءة، فيقف الفنّان المسلم عند حدود الحرف وتحسينه وتجميل وإبداعه، بل أدخل الحرف نفسه في المادّة الزخرفيّة، وبهذا أعطى للحرف مهمّتين في آن واحد؛ المهمّة التعبيريّة، والمهمّة الزخرفيّة.[34]

الخزف وتطوّره عبر العصور

 

 1-2الخزف عند المصريين القدماء

عرف الخزف عند المصريين القدماء بحدود العام (3500) قبل الميلاد[35]، وكان المصريون من أوائل الشّعوب التي اهتمّت بصناعة الفخار ووصلوا إلى درجة من الدقّة والكمال وقد كان الدافع إلى ذلك بطبيعة الحال هو حاجتهم الماسّة إلى أوانٍ يطهون فيها مأكولاتهم، ويحفظون فيه سوائلهم، واستعملت في صناعة التوابيت لحفظ جثث الموتى وفي صناعة أدوات الزينة. ومن الآثار الباقية، نرى تنوّعًا في الأشكال من إنتاجِ أوانٍ وجرار بسيطة، من زخارف هندسيّة إلى نماذج تحوي أشكالًا حيوانيّة ونباتيّة وأزهارًا طبيعيّة، وكانت الخزفيّات المصنوعة متجانسة بشكل عام. أمّا الخزفيّات الحمراء فكانت توضع نصفيًّا في الرماد، أو تدهن بالزيت أثناء تبريدها، وذلك لتغطية تلك المساحات باللون الأسود، وبحلول العام 1500ق.م تمّ استخدام الزّخرفة بطريقة التشكيل بالقالب وإضافة الطلاء الزجاجيّ، ووضع المصريّون القدماء الحجارة والتعويذات من الخزف المزخرف داخل أغطية المومياء، وذلك لجلب الاحترام والحماية للآلهة المتعدّدة مثل تعويذات لقلب وعين حورس إله الملك وحاميهم وتعويذة عنخ وعقدة إزيس[36].

 2-2 الخزف في بلاد ما بين النهرين

يعود استخدام الفخّار في بلاد ما بين النهرين إلى أكثر من عشرين ألف سنة.  اتّسم الفخّار وفنونه بالبساطة والسذاجة في معظم المناطق. فمن حيث الشكل، كانت الأواني بسيطة وتقنيّة صنعِها منخفضة، وكانت الرسومات ساذجة تتناسب مع ثقافة تلك الحقبة، بينما كانت الآثار تشير إلى التّاريخ المكتشف العام 45000 قبل الميلاد، حول التطوّر والكمال في الصنعة، هناك بعض المزهريّات المستديرة الكاملة مرسومة عليها أشكال أنيقة وهندسيّة وحيوانيّة[37].

شكل (35) نقش أثريّ يمثّل جوانب من الحياة اليوميّة في الدولة السومريّة (2850 – 2400 ق. م )

ونلاحظ اختلاط فنّ النحت ببدايات فنّ الفسيفساء وتجميع الحجارة الملوّنة.

تعود أولى الأعمال المكتشفة التي يمكن عدّها من فنّ الفسيفساء إلى معبد الوركاء بمدينة بابل حيث كان سكان بلاد الرافدين أوّل من استخدم الطوب) أو اللبن (المزجّج في تزيين جدران الأبنية بأشكال هندسيّة متعدّدة، وكان لهم الفضل في تطوير أساليبه، من حيث المواد المستخدمة التي قاموا بتقليل أحجامها إلى أقل قدر ممكن حتّى تتعدّد ألوانه وتصبح الصور أكثر وضوحًا، إضافة إلى مهارة التشكيل وحرفيّة التركيب الذي أخرج أبدع لوحاته في باب عشتار، وجدران شارع الموكب وقاعة العرش في بابل. وقد انتقل هذا الفن خلال القرون التالية إلى آسيا   الصغرى واليونان، حيث ذاع صيته واتّخذ قوالب فنّية جديدة، وتطوَّرت تقنيّاته وتبلورت أساليبه خلال الحضارة اليونانيّة ثم الرومانيّة. ولكن، يظل علينا أن نتصوَّر كيف ولد هذا الفنّ عبر مراحل أكثر قدمًا، تعود إلى بداية الاستقرار في مدن صغيرة، ونشوء أولى الممالك وما رافق ذلك من نهضة في مناحي الحياة جميعها؛ الاقتصاديّة والاجتماعيّة، والفنّية، والفكريّة، والتقنيّة. وقد ساعدت التجارة البعيدة المدى في توفير الموادّ الأوّليّة التي نجح الحرفيون والفنّانون لاحقًا في تحويلها إلى لوحات جميلة. فنحن نعرف أن مبادلات الموادّ المختلفة، ومنها الحجارة الكريمة المتعدّدة الألوان، كانت تتمّ مع مصر وشمالي أفريقيا ومع إيران وأفغانستان والأناضول، حيث كانت بلاد الرافدين والشام تشكّلان ممرًّا طبيعيًّا لهذه المبادلات التجاريّة. وهكذا، مع توافر المادّة الخام في المنطقة إضافة إلى الصلصال الذي كان استخدامه قد تطوَّر بحيث باتت تُشكَّل منه قوالب اللَّبن (قوالب من الطين والقش) لبناء البيوت والمعابد والقصور، بدأ حرفيو الحضارة السومريّة والبابليّة بتعشيق الحجارة الملوّنة في كتل الصلصال المعدّة للبناء، فكانت أولى لوحات التزيين الفسيفسائيّة في التّاريخ.

  3-2 الخزف اليونانيّ

 550-300 قبل الميلاد: يعدّ شعب الإغريق من أمهر الشّعوب في استخدام الطينات لإخراج أدقّ المصنوعات الفخاريّة التي صنعت حتّى الآن. وكانت أشكال الزّخرفة عند اليونانيّين القدماء عبارة عن تصاميم هندسيّة مشتقّة من أشكال نباتيّة ورموز دينيّة [38]، أغلبها بعض الأحياء المائيّة. وكانت الأواني تمثّل صورًا جانبية للمحاربين، أمّا الأواني فكانت من أجل تخزين الحبوب أو حفظ الخمر، أو الزيت، والأواني الكبيرة لحفظ جثث الموتى[39]

 4-2 الخزف عند الرومان

في مطلع القرن الثالث قبل الميلاد، ابتكر الإغريق الذين سكنوا في جنوب إيطاليا قوالب مصنوعة من البرونز والفضة، لإعداد أشكال خزفيّة بارزة، كانت تصقَل وتحرق بسرعة وسمّيت بالميجارا، لأنّها اكتشفت في ميجارا بأرض اليونان.

وطـور خزّافو مدينة أريزو خزفيـّات صـنعوها بعجلـة الخـزاف، وقد تفوّقت على المنتجات الميجاريّة، واهتمامهم بالطّينة المعدّة لتشكيل الآنيـة والـحـرق تحـت ظـروف مؤكّدة ما جعل سطح الآنيـة ملساء وأكثر لمعانًا ودعيت هذه المنتجات (الأرتينيّة)[40] 

5-2 الخزف الصينيّ

الخزف الصينيّ نوع من السيراميك له قيمة جماليّة عالية، يمتاز بقوّته ويسمّى في الغالب الصينيّ أو الأواني الصينيّة؛ ويتّصف الخزف الصينيّ بالبياض، والمظهر الرقيق والشفاف.

عرف الخزف الصينيّ في المقام الأوّل، أنّه مادّة المزهريّات ذات الجودة العالية وآنية المائدة، بالإضافة إلى التماثيل الصّغيرة وأشياء الزينة الأخرى، ويُصْدر الخزف الصينيّ المستخدم في مثل هذه الأغراض صوتًا يشبه الجرس عندما يرتطم. ويختلف الخزف الصينيّ من الأنواع الأخرى للخزف في مكوّناته، والعمليّة التي ينتج بوساطتها. وهناك نوعان عامّان للخزف هما؛ الخزف الطينيّ والخزف الحجريّ، وكلاهما مصنوع من طينة طبيعيّة واحدة، تحرق (تحمّص).

 6-2الخزف اليابانيّ

فنّ الخزف في اليابان له تاريخ طويل، يمتدّ إلى أكثر من 12 ألف سنة. والخزف اليابانيّ شبيه بالخزف الصينيّ، إلا أنّ ما يميّز الخزف اليابانيّ الرشاقة والليونة، ففي العام 1223 م هاجر خزّاف ياباني إلى الصين، ودرس الخزف قرابة ستّ سنوات، وأنتج أوانٍ أطلق عليها (توشيرو – ياكي). وفي العام 1500 م صنع اليابانيّون الخزف الأزرق. واكتشف الكوري ديزامبي في مدينة (آزرمي- ياما) العام 1505 م، رواسب كبيرة من طين البورسلان، وأقام مصنع للخزف في هيزن، حيث أقام اليابانيّون سنة 1596 مصنعًا، أطلق على خزفه بالفايونس نسبة لمدينة إيطاليا فينيسيا.

 7-2الخزف البيزنطيّ

في بيزنطة من القرن الرابع عشر إلى السابع عشر، بقي الخزّافون الذي يعملون في الشرق المسيحيّ من ورثة زملائهم الرومان. فاعتادوا صناعة الآنية المطبخيّة، لا سيّما تلك المزخرفة بالأختام، والخزف المطبخيّ والجرار وفق تقنيّات ونماذج مستعارة من العالم الرومانيّ.

8-2الخزف الإسلاميّ

         فنّ الخزف من أروع ما ترك لنا الفنّان في العالم الإسلاميّ القديم بأصالة خاصّة وإبداع متميّز، فهو فن نتج من رؤية فنية لها استقلالها، ولقد اكتشفت قطع الخزف الإسلاميّ القديم وتبين أنّ هذه الأواني إنّما صنعت للزينة أو لرجال الحكم. ويعدّ الخزف الإسلاميّ أحد أهمّ الفنون التي عرفها المسلمون، في كامل مجالهم الذي سيطروا عليه وعلى الرغم من أنّ الخزف كصناعة وكفنّ ، كان قد نشأ منذ فترة فجر التّاريخ إلا أنّ المسلمين قد أسهموا بشكل كبير في تطوير هذا الفنّ على عدّة مستويات، على مستوى تقنيّات الصنع وعلى مستوى التزويق والتلوين في مستحضرات كيميائيّة اعتبرت خلال الفترة الوسيطة من إبداعات الحضارة الإسلاميّة ومن أبرز الاكتشافات التي انفردوا بها في عصرهم ولفترات طويلة أخرى. ومن الأنماط المشهورة في الخزف الإسلاميّ:

  • الخزف الفارسي

         يعدّ الخزف الفارسيّ خلال القرنين الرابع والخامس الهجريّين إلى العاشر والحادي عشر الميلاديّين من حيث الصناعة والزّخارف بتأثّره بالتقاليد القديمة الساسانيّة والبيزنطيّة، ولكي نعي هذه المفاهيم والرؤى، لا بدّ من الإحاطة برموز الرّسوم وتعابير النّقوش التي ظهرت في الآثار الفنّية والتّاريخيّة المتوافرة. إذ لا يخفى أنّ الأشكال والتصاوير، التي تمّت الاستفادة منها في الآثار الفنّية والتّاريخيّة الإيرانيّة، ارتكزت في الأعمّ الأغلب إلى المبادئ الاعتقاديّة والقيم الأخلاقيّة التي كانت متداولة بين النّاس. المُلاحظٌ أنّ الثّقافة الإيرانيّة القديمة ارتبطت، في الكثير من أبعادها، بالخيال والقصص والأساطير، التي كانت كلّ واحدةٍ منها تعبيرًا عن حاجةٍ خاصّةٍ، وانعكاسًا لتطلّعاتٍ ملحّةٍ وهادفةٍ. وهو عدّة أنواع:

 

  • خزف سلطان أباد

يتميّز هذا النوع من الخزف الإيرانيّ بالرسوم البارزة تحت الطلاء الشفّاف، يجمع هذا النوع بين فنّ التصوير وفنّ صناعة الخزف (تطبيقيّ وتشكيليّ) إذ تغلب عليه خصائص المدرسة المغوليّة في التصوير وبخاصّة في سحنة الوجه وأغطية الرؤوس، كما جاءت الأشكال النباتيّة والحيوانيّة قريبة من الطّبيعة لذلك هي متأثّرة بالصين نتيجة الغزو المغوليّ لإيران، وكما جاءت الزّخارف منفّذة على أرضيّة نباتيّة قريبة من الطّبيعة.

  • خزف القبيلة الذهبيّة

يتميّز هذا النوع من الخزف بالعجينة الجيّدة ذات اللون الرماديّ رقيقة الجدران، وزخارفه تتميّز بالبروز قليلا أسفل الطلاء، وقد تمّ العثور على بعض القطع منه في مدينة سراي بركة.

  • الخزف التيموريّ

ما عُثر عليه من هذا النوع من الخزف كان إمّا خزفًا صينيًا (بورسلين) أو خزفًا تقليديًّا للبورسلين الصينيّ إذ إنّه لم يتمّ وضع أيّ بصمة محليّة على هذا الخزف وهذا يدلّ على مدى تدهور صناعة الخزف في هذا العصر.

  • الخزف ذو البريق المعدنيّ

 هذا النوع انتشر خلال العصر التيموريّ في إيران.

الفسيفساء والبلاطات الخزفيّة

تطوّرت صناعة الفسيفساء الخزفيّة في القرن 15 م أكثر منها في القرن ال 14 م. وربّما يرجع السبب في ذلك إلى تدهور صناعة الخزف ذي البريق المعدنيّ وانطماس بريقه بمرور الوقت على نقيض الفسيفساء التي تحتفظ ببريقها. وقد جاءت زخارفها عبارة عن زخارف نباتيّة وتفريعات ووريقات داخل خامات، كما تعدّدت الألوان مثل الأبيض – الأصفر – الفيروزيّ – الأخضر – الأسود – الأرجوانيّ.

  • الخزف الأندلسيّ

في القرن الثامن الهجريّ الموافق للقرن الرابع عشر الميلاديّ لم يبقَ في أسبانيا من الحضارة الإسلاميّة إلّا طائفة من الناس هم الموريسيكون أو المدجّنون وهم المسلمون الذين ظلّوا في إسبانيا بعد خروج الإسلام منها وعودة المسيحيّة إليها ومن بين هؤلاء المدجّنين كان هناك فنّانون حافظوا على الأساليب الفنّية التي ميّزت الحضارة الإسلاميّة في صناعات كثيرة ومنها صناعة وفنون الخزف واحتفظ هؤلاء الفنّانون سرّ صنعتهم وواظبوا على إنتاج الكثير من الخزف البديع التصميم والتصوير. هؤلاء الفنّانون المسلمون هم صنّاع الحضارة الإسلاميّة في إسبانيا، فقد ظهرت أنواع جديدة من الخزف سمّي بالخزف الأندلسيّ، في مالقه (وتسمّى مالاجا الآن) وهو خزف ذو بريق معدنيّ ومن ثمّ انتشر خارج الأندلس.

 

ج) الخزف التركيّ

تميّز الخزف التركيّ في استعماله ألوانًا مختلفة (الفيروزيّ والأزرق والأخضر الغامق الجذّاب والأزرق الفاتح والأبيض والأسود أحيانًا)، واستخدامها في زخرفة الخزف تحت الطلاء، خلق أسلوبًا صناعيًّا لا نظير له في العالم. ومعظم التصميمات تتكوّن من الأزهار الطبيعيّة كالخزامى والسنبل البريّ والقرنفل وزهر الرمّان إلى جانب أفرع يانعة من شجر الإجّاص ومن براعم الكرز. ومُلئت المسافات التي بين الأزهار بأوراق كبيرة خضراء تُشبّه الخناجر المقوّسة. ومع النصف الآخر من القرن السادس عشر سادت أشكال الأزهار الطبيعيّة في جميع أعمال الفنون الزخرفيّة التركيّة.

 9-2الخزف الأوروبيّ

اشتهر استعمال الدولاب بشكل واسع في أنحاء أوربّا جميعها في القرن التاسع الميلاديّ، عندما فتح الإسكندنافيّون؛ سكّان شمال أوروبّا والبحر الأبيض المتوسّط في القرن التاسع الميلاديّ. إذ صنع الخزّافون في ستانفورد ولينكولنشير، وهامبورغ خزفيّات بطلاء زجاجيّ ذي لون أصفر باهت. وفي القرن التاسع في منطقة بينجزدروف الألمانيّة، أنتجت أوانٍ خزفيّة حمراء باهتة، وزخرفت بعجائن على شكل حلقات أو نقاط أو تموّجات عريضة.

10-2 الخزف المعاصر

استجاب الفنّان الخزّاف للاتّجاهات الفنّية الحديثة بدايةً لفكر جديد من ناحية المفاهيم والموضوعات والأشكال الخزفيّة، التي تهدف إلى تحقيق قيم نفعيّة، مادّيّة، فخرج الشكل الخزفيّ عن التقليد المتعارف عليه كالإناء أو الصحن الذي يؤدّي وظيفة، وأصبحت الأعمال الخزفيّة تتضمّن قيمًا تعبيريّة وجماليّة، عكست مفاهيم الفنّان التشكيلي. فتميّزت الأعمال الخزفيّة الفنّية بالتفرّد وأصبح لكلّ فنّان خزّاف أعماله التي تميّزه وأصبح فنّ الخزف له مضمون ومحتوى تعبيريّ نابع من داخل الفنّان. وساعد في ذلك في الأفكار الفنيّة المعاصرة بجانب الخامات والتقنيّات وطرق التشكيل التي ساعدت الفنان في إخراج الأفكار وتصميمها كما يراها الفنّان التي من خلالها يستطيع إيجاد علاقات تشكيليّة جديدة. والحصول على أشكال جديدة برؤية مبتكرة تواكب التطوّر، والاستفادة من المفاهيم التشكيليّة المعاصرة في إيجاد صياغات فنّية يمكن من خلالها تحقيق قيم جماليّة.

الفسيفساء في العصر الإسلاميّ

يعدّ العصر البيزنطيّ من أكثر العصور ازدهارًا بالنسبة لفنّ الفسيفساء. وقد أبدع المسلمون باستلهامهم الفن البيزنطيّ، وطوّروه وأدخلوه في جوانب مختلفة من حياتهم اليوميّة، بدءًا من المساجد والمآذن والقباب ومرورًا بالبيوت وبحرات الماء فيها والحمامات والأحواض المائيّة وانتهاء بالقصور والمدارس والبيمارستانات وغيرها.

الشكل رقم (36) فنّ الفسيفساء الإسلاميّ الذي اعتمد بشكل رئيسيّ على الزّخارف الهندسيّة

وعلى التشكيلات النباتيّة في تشبيكات فائقة الجمال

 

شكل رقم (37) فسيفساء الخزنة في الجامع الأمويّ الكبير في دمشق

فمع توسع وغنى الدولة الإسلاميّة واستقرارها. ازداد الاهتمام بالفسيفساء كوسيلة لإبراز جمال العمارة وفخامة المباني من قصور، وحمامات، ومساجد، وغيرها. وأصبح لزخرفة الجدران حضور قويّ في المساجد والعمائر معظمها أثناء حكم الأمويّين والعباسيّين، وكذلك في عهد الدولة الفاطميّة في مصر والأندلس. وتعدّ فسيفساء الجامع الأمويّ في دمشق من أقدم الأمثلة وأجملها على الاهتمام بهذا الفنّ منذ بدايات الحضارة الإسلاميّة. وترجع فسيفساء الجامع الأمويّ الكبير إلى عهد الوليد بن عبد الملك. وقد جرى ترميم لوحات الفسيفساء في الجامع مرّات عديدة، فنجت من الكوارث التي تعرّض لها الجامع من زلازل وحرائق. وكان الترميم الأخير في عهد الرئيس الراحل “حافظ الأسد” وخاصّة الفسيفساء الموجودة على قبّة “النسر” وقاعة الشرف “وقبة الخزنة”. وما ساعد على بقاء هذه الفسيفساء أنّها كانت مخفيّة تحت طبقة من الكلس قبل أن يكتشفها أحد العلماء الفرنسيّين في القرن التاسع عشر. هذا إضافة إلى أنّها مصنوعة من زجاج مقاوم للمطر والغبار والحرارة. الرسوم التي في اللوحات ذكرها “الإدريسيّ” في كتابه مروج الذهب على أنّها تمثّل الأقاليم الجغرافيّة الأربّعة وهي إقليم “السند والهند والسودان والروم”. وهي خالية من أشكال الحيوانات والطيور. لكنّ زخرفة الفسيفساء تمتدّ على شكل نهر يشبّه في تفاصيله نهر بردى الذي يخترق مدينة دمشق، وتظهر فيها قصور وعمائر ومنازل وميادين وقناطر وجواسق وأشجار بألوان مختلفة. وتعدّ هذه المصوّرة ذات أهميّة كبيرة في التعرّف إلى عمائر مدينة دمشق في العصر الأمويّ، كما تظهر فيها التأثيرات الفنّية المختلفة في بدايات الفنّ الإسلاميّ كالتأثير الساسانيّ والبيزنطيّ وغيرهما. وتعدّ فسيفساء الجامع مع عمارته من بواكير الفنّ الإسلاميّ الذي كان لانتشاره شرقًا وغربًا تأثير كبير على تطوُّر الفن في الحضارة الإسلاميّة.

وقد شهدت تقنيّات الفسيفساء ومواضيعه تغيّرات وتطوّرات عدّة ومتنوّعة على مرّ القرون التالية، ومن خلال العصر الإسلاميّ لقي اهتمامًا خاصًّا من طرف الملوك والأمراء والخلفاء، وبذلك زيّنت القصور والجوامع بمزيج من فنون النحت والحفر والإكساء بالفسيفساء، هذا ما خلق فنًّا متميًّزا فيه من السحر الحلال ومن الصنعة ما يدهش.[41]

شكل رقم (38) فسيفساء الجامع الأموي الكبير بدمشق، من أجمل معالم الفنّ الإسلاميّ

 

شكل رقم (39) فسيفساء شجرة الحياة المشهورة في أرضيّة فسيفساء الديوان في الحمام الكبير في قصر هشام الأمويّ الذي يعود إلى القرن الثامن بعد الميلاد. وتعدّ هذه الارضيّة من أجمل القطع الفنّية التي أنُتجت في الفن الفسيفسائيّ

 

لقد اشتهر خلال العصر الأمويّ فنّ الفسيفساء في فلسطين، ونجد عدّة مواقع تحتوي على هذا النوع من الفنّ، ولقد وجد في الأرضيّات كما وجد أيضًا في تزيين الجدران، فأرضيّات الفسيفساء في قصر هشام في مدينة أريحا تعدّ من أشهر الفسيفساء الموجودة في العالم من ناحية دقّتها وجمالها و مساحتها، فلقد زيّنت أرضيّة السرداب بفسيفساء هندسيّة جميلة دقيقة الصنع وبخاصّة الموجودة فوق المقاعد، وأيضا زيّنت أرضية الحمّام الكبير الذي تبلغ مساحته ما يقارب 880 مترًا مربّعًا، وهي مقسّمة إلى 34 سجادة بتصاميم هندسيّة مختلفة الواحدة عن الأخرى، والسجادة الوسطى قمّة في الجمال إذ يعتمد تصميمها على الدوائر والمثلّثات. أمّا لوحة شجرة الحياة المشهورة والموجودة أيضا في قصر هشام في غرفة تسمّى الديوان، فهي تعدّ إحدى اللوحات العالميّة في فنّ الفسيفساء وذلك لدقّة عملها ولحجم الفصوص الفسيفسائيّة الصّغيرة التي استخدمت لتصنيعها، وبألوانها الرائعة ولا ننسى موضوعها، ويعتقد أن تكون شجرة رمّان بثمارها وتحت الشجرة يوجد أسد يهاجم غزالًا وفي الجهة الأخرى غزالان يعيشان بسلام. ومن الأماكن الأخرى التي تحتوي على فسيفساء من نفس الفترة خربة المنيا بالقرب من بحيرة طبريا وأيضا فسيفساء وجدت في مدينة الرملة. والفسيفساء الأكثر شهرة الموجودة في قبّة الصّخرة في مدينة القدس التي تعدّ من أجمل ما أبدعه الفنّ الإسلاميّ. ويجمع المؤرخون على أنّ فسيفساء قبّة الصّخرة تعدّ من أجمل ما أبدعه الفنّ الإسلاميّ. وهي التي شيّدها الخليفة الأمويّ عبد الملك بن مروان في القسم الجنوبيّ من ساحة المسجد الأقصى العام 72 هـ / 691 م، وتعدُّ من أروع وأجمل ما أنشأته العمارة الإسلاميّة.

 

خاتمة

الخزف هو بناء الأشكال المبتكرة من الطينات الخزفيّة وفق مبادئ وأصول يرتبط بعضها ببعض وهو من أسس التصميم الجماليّ والنفعيّ معتمدًا أساليب وطُرزًا وطرائق تجهيز وتشكيل وتجفيف، وحرق، وزخرفة، وطلاء. ويمثّل قيمًا حضارية يوائم فيها الإنسان بين الفن ومقوّمات الحياة. والخزف من الفنون التّي لها قيمة متميّزة بين الفنون عامّة، لأنّه من الفنون التي تمثّل خامة خاصّة وهي خامة الطين التي تناولتها جميع شعوب العالم وفنّانوها منذ قديم الأزل.

والعمل الفنّي عادة ما يلجأ إلى الاستعارات والرموز في التعبير عن مفاهيم دلالة النص، ويكون مرتكزًا على مفردات تتشابك مع مفردات اللوحة، أو التمثال، أو القطعة الخزفيّة، فالاستبدال أو استعارة المعنى هو محور العمل الفنّي ونقله من نصّ المقدرة إلى العرض (من الفنّان إلى المتلقّي)، فالإدراك والفعل يتفوّقان في بيئة التجاور والتوافق مع إمكانيّة الخزّاف في إعطاء فرصة لعناصر بصريّة عدّة يلجأ إليها في أعماله الخزفيّة كلعبة الفراغ والمساحة، والتعامل مع مفردات مألوفة ونقلها إلى دائرة تبتعد عن المألوف. وتمتاز الدلالة في العمل الفنيّ التشكيليّ ولاسيّما في الخزف بتصعيد المعنى، أي بتشكيل صورة في ذهن الفنّان، ومن ثم يتمّ مرورها من خلال جملة ضرورات يحتاجها العمل نفسه، بعيدًا من الخامات لتشكيل ينمّي بنية العمل ويجعله أكثر ثراء في الأفكار. لذا فإنّ الدلالة هي سلسلة من العمليّات تشترك في مستوى الفهم، فتبدأ بالإدراك وهو المستوى الأوّل الذي يعتمد على حواس المتلقّي، ثم التعرّف بوصفه عمليّة ذهنيّة، ثم يلي ذلك مستوى أعلى يساعد على فكّ رموز العلامات والتوصّل إلى دلالة، وبفعل الدلالة يشترك التأويل في العمل الفنّيّ التشكيليّ ومع هذه الضرورات ينشأ نوع من التفرّد في غرابة المعنى، وتنتج قيم جديدة، ولكن بتأويلات جديدة. والتكرار في كثير من الأعمال الخزفيّة التشكيليّة التي نلاحظها على مستويي: الصياغة الفكريّة والتشكيل التقنيّ، ولذلك فالثبات والحركة في ثنائيّة المألوف وغير المألوف على نحوٍ ما يولّدان التركيب لمفردات لم تكن في حسابات المتلقّي، كون محور التركيب يشير إلى أنّ لظاهرة العمل الخزفيّ التشكيليّ عناصر متتالية، تتداخل معًا: كما في تقسيم ألوان خامة الطين وعدم استدعاء أي ألوان أخرى، والذي يحمّل العمل طاقات لونيّة أخرى غير مبرّرة. وختامًا نستطيع القول إنّ الخزف الفنّي المعاصر يقدّم تشكيلًا بصريًّا يحمل قصديّة المبدع، ويثير المتلقّي، إذيتمّ تفسيره من قبل كلّ متلقٍّ وفق ثقافته ووعيه ودرجة تخيّله، وكلّما تواجد متلقّون متعدّدون؛ فهذا يعني تحقّق الاتّصال بين المتلقّي والعمل الخزفيّ. وهو الهدف الأساس، ومن ثم ّ فجماليّة الأعمال الخزفيّة التشكيليّة تخضع لسلطان الذوق القائم على متعة المشاهدة بين الخزّاف والمتلقّي.

 

المراجع

القرآن الكريم

 

1-     أبن أبي زرع الفاسي الأنيس المطرب، بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، المنصور للطباعة

والوراقة، الرباط، 1972

2-     أبو ريان، محمد علي: فلسفة الجمال، ط 5، دار الجامعات المصرية الإسكندرية1977
3-     باشا ،أحمد فؤاد ،اساسيات العلوم المعاصرة في التراث الإسلاميّ2007
4-     بهنسي، عفيف، الفن الإسلاميّ، دار طلاس، دمشق 1986
5-     ثروت ، عكاشة ،القيم الجمالية في العمارة الإسلاميّة.تاريخ الفن العين تسمع والاذن ترى  1991
6-     جاستون، فيت: مجلة الشرق، المجلد 34، 1934
7-     جمال الدين ،أبي الفضل محمد بن مكرم ابن منظور الانصاري الافريقي المصري، لسان العرب، المجلد الخامس،

دار الكتب العلمية، لبنان، 2005 م

8-     خليفة،  ربيع حامد: البلاطات الخزفيّة في عمائر القاهرة العثمانية2006
9-     خليفة،  ربيع حامد: الفنون الإسلاميّة في العصر العثماني، القاهرة، مصر، مكتبة زهراء الشرق، 2001
10- خوري ،موسى دیب ، الفسیفساء فن عریق ومتجدد  2010
11- درويش ، عماد ومجموعة من الباحثين ، التقنيات الأساسية في صناعة الفخار ، ب.ط ، دار دمشق للطباعة والنشر والتوزيع ،  سوريا الناشر, دار بركات للطباعة والنشر, 2002.
12- دملخي، إبراهيم، الألوان نظريًا وعمليًا، منشورات جامعة ﻤﻁﺒﻌﺔ ﺍﻟﻜﻨﺩﻱ، ﺤﻠﺏ، ﺴﻭﺭﻴﺔ، ﺍﻟﻁﺒﻌﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ،. 1983. ،. ﺹ. 20. ،. 21
13- روجيه، جارودي، الفن الإسلاميّ وأبعاده الحضارية  1995
14- الزيات ، نذير ، فن الخزف، الطبعة الأوّلى، دار الراتب الجامعية، نوفنير، 1998.
15- سعد ، زغلول عبد الحميد، العمارة والفنون في الدولة الإسلاميّة، الناشر منشأة المعارف، الاسكندرية، 1986
16- شريقي، زكريا، الفن العربي الإسلاميّ الجذور والمؤثرات، دمشق، وزارة الثقافة، 2012م، منشورات الهيئة العامة السورية

للكتاب

17- شيحة ،عبد الخالق: التأث رٌات المختلفة على الخزف الإسلام في العصر المملوكي، كليةٌ الآثار، جامعة القاهرة، 2002
18- الصائغ، سمير، الفن الإسلاميّ، قراءة تأملية في فلسفته وخصائص الجمالية، ط 1، دار المعرفة، بيروت1988
19- عباس ، رواية عبد المنعم: القيم الجمالية، دار المعرفة الجامعية، 1987
20- عبد الرحيم ،غالب ، موسوعة العمارة الإسلاميّة، جروس برس، بيروت، 1988
21- علام ، نعمت اسماعيل: فنون الشرق الأوسط في العصور الإسلاميّة  2018
22- عيساوي ، زهرة ، مربعات الخزف، مربعات الخزف الفترة العثمانية في الجزائر، منشورات البرزخ، الجزائر، 2010
23- محمد ، سعاد: الفنون الإسلاميّة، الييئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1986
24- مطاوع ، حنان عبد الفتاح ، الفنون الإسلاميّة حتى نهاية العصر الفاطمي، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الاسكندرية، 2011 م
25- نوار الكامل ، سامي محمد في المصطلحات العمارة الإسلاميّة من بطون المعاجم اللغوية، الناشر دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر،

الإسكندرية، 2002

 

      Tailor& Francis.1989

 

*   أستاذ في الجامعة اللبنانية – كلية الفنون الجميلة والعمارة – الفرع الأول ورئيس قسم الفنون في الجامعة الاميركية للثقافة والتعليم، AUCE

أستاذ مساعد، النبطية، لبنان.

[1]   جاستون فيت: مجلة الشرق ، المجلد 34 ، 1934 ، صفحة: 481 – 485.

 [2]   ربيع حامد خليفة: الفنون الإسلامية في العصر العثماني ، القاهرة ، مصر ، مكتبة زهراء الشرق ، 2001 ، صفحة: 56.

[3]  جمال الدين أبي الفضل محمد بن مكرم ابن منظور الانصاري الافريقي المصري ، لسان العرب ، المجلد الخامس ، دار الكتب العلمية ، لبنان ،

2005 م، 480.

[4]   سعد زغلول عبد الحميد، العمارة والفنون في الدولة الاسلامية، الناشر منشأة المعارف، الاسكندرية، سنة مجهولة، صفحة 288.

[5]   زهرة عيساوي ، مربعات الخزف ، مربعات الخزف الفترة العثمانية في الجزائر ، منشورات البرزخ ، الجزائر ، 2010 ، صفحة 14.

[6]     سعاد ماىر محمد: الفنون الإسلامية، البيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1986، صفحة 13 ،14 .

[7]     نعمت اسماعيل علام: فنون الشرق الأوسط في العصور الإسلامية، صفحة 17: 13 .

[8]    نعمت اسماعيل علام: مرجع سابق ،صفحة32 ، 33 .

[9]    نعمت اسماعيل علام: مرجع سابق ، صفحة 16 .

[10]  ربيع حامد خليفة: البلاطات الخزفية في عمائر القاىرة العثمانية، صفحة 54 .

[11]  غالب عبد الرحيم،موسوعة العمارة الإسلامية،جروس برس، بيروت، 1988 ،صفحة 322

[12]  ابن أبي زرع الفاسي الأنيس المطرب ، بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، المنصور للطباعة والوراقة ، الرباط ، 1972 م     ،

صفحة395.

[13]http://qudsrazavi-tile.ir/ar/

[14]    ربيع حامد خميفة: البلاطات الخزفية في عمائر القاهرة العثمانية، صفحة 123,

[15]   عبد الخالق شيحة: التأثرٌات المختلفة على الخزف الإسلام في العصر المملوكي، كليّة الآثار، جامعة القاهرة ، 2002 ، صفحة 69 .

[16]  Jordan Patrick, Designing Pleasurable Products ( an introduction to the new human factors ), Tailor& Francis, 2000.

[17]  مؤلف مجهول ، السفر الثاني من زهرة الستاتن في دولة بني زیاّن، عناية وتقديم محمد بن أحمد باغلي، الأصالة للنشروالتوزيع،الجزائر

العاصمة،2011م، صفحة335.

[18]  سامي محمد نوار الكامل في المصطلحات العمارة الإسلامية من بطون المعاجم اللغوية ، الناشر دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر ، الإسكندرية ، 2002،

صفحة: 133- 134.

[19]   حنان عبد الفتاح مطاوع ، الفنون الاسلامية حتى نهاية العصر الفاطمي، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الاسكندرية ، 2011 م، صفحة:200

[20]   سورة الرحمن، الآية 27

[21]   أحمد فؤاد باشا ، ب.ت ، ص 46

 

 

[22]  سورة الزّخرف ، الآية 34 -35

[23]   رواية عبد المنعم عباس: القيم الجمالية، دار المعرفة الجامعية، 1987، صفحة 35.

[24]   أبو ريان، محمد علي: فلسفة الجمال، ط 5 ، دار الجامعات المصرية الإسكندرية1977 ، صفحة 8.

[25]   أبو ريان، محمد علي: فلسفة الجمال، ط 5 ، دار الجامعات المصرية الإسكندرية1977 ، صفحة 18.

[26]   الصائغ، سمير، الفن الإسلامي، قراءة تأملية في فلسفته وخصائص الجمالية، ط 1 ، دار المعرفة، بيروت1988 ،صفحة92 .

[27]    سورة الأنعام: الآية 103

[28] ـ   ـ د. بهنسي، عفيف، الفن الإسلامي، دار طلاس، دمشق
ـ دملخي، إبراهيم، الألوان نظرياً وعملياً، منشورات جامعة دمشق، 1993م
ـ شريقي، زكريا، الفن العربي الإسلامي الجذور والمؤثرات، دمشق، وزارة الثقافة، 2012م، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب

[29]  ثروت عكاشة، ۱۹۹۱ ، ص۳۹.

[30]  روجيه، جارودي، ١٩٩٥،ص ١٧٤.

[31]  سورة الإسراء ، الآية 85.

[32]  فرزات، صخر ، ۱۹۸۲ ، ص۸٦-۸۷.

[33]  ثروت ، عكاشة ، ص43.

[34]   صالح أحمد الشامي ، ۱۹۹۰ ، ص۱۱۷.

[35]   نذير الزيات، فن الخزف، الطبعة الأولى، دار الراتب الجامعية، لبنان، ص46- 2001

[36]   المرجع السابق، نذير الزيات، فن الخزف، ص47 2001-

[37]   عماد درويش ومجموعة من الباحثين ، التقنيات الأساسية في صناعة الفخار ، ب.ط ، دار دمشق للطباعة والنشر والتوزيع ، سوريا ، (ب.س) ص.2002

[38]  مرجع سابق ، نذير الزيات فن الحرف ص2001.48

[39]  المرجع السابق، حسين فوزي اللوحات، أشكال الأواني لفخارية،ص131-1970 دار المعارف لبنان

[40]  مرجع سابق ، نذير الزيات فن ّالحرف ص2001.50

[41]  موسى دیب الخوري، الفسیفساء فن عریق ومتجدد، صفحة 10

عدد الزوار:148

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى