أبحاثاللغة والأدب والنّقد

تأمُّلات في المسارات الحداثويّة لشعر المتنبي

تأمُّلات في المسارات الحداثويّة لشعر المتنبي

An Analysis of the Modernist Paths in Abu al-Tayyib al-Mutanabbi’s Poetry

هاني علي عبدالله

Hani Ali Abdallah

تاريخ الاستلام 1/3/2024                                 تاريخ القبول 14/3/2024

 

الملخص

أبو الطّيّب المتنبي من الشّعراء الذين لا يزالون يملؤون الدّنيا ويشغلون النّاس والدّارسين والنقّاد؛ بما جادت قريحتهم الشّعريّة به، إن على مستوى المعنى أو المبنى أو الشّكل أو المضمون والفكرة وحتى المستويات اللّغويّة .

من هنا كان هذا البحث الذي حاولنا من خلاله الإضاءة على “المسارات الحداثويّة في شعر المتنبي” وأبرز تجلّياتها ومواكبة النّظريات النّقديّة الحديثة لأبرز معاني شعر أبي الطّيّب المتماهية تراثًا وحداثةً، هذه المعاني التي سيبقى دارسو الأدب والنّقد يردّدونها في كلِّ زمانٍ ومكان، ويتناولونها بالتّحليل والتّمحيص، على أن يكون البحثُ مقدِّمةً للدّراسات التي ستحاول أن تدرس شعرَ المتنبي المليء بالمعاني والدّلالات بناءً على الرؤى والتّقنيات والوسائل في النّقد الحديث، على قاعدة الارتباط بالتّراث لا الإنفكاك عنه.

Abstract

Abu al-Tayyib al-Mutanabbi is one of the poets whose work continues to captivate the world, engaging readers, scholars, and critics alike with his poetic genius, whether in terms of meaning, structure, form, or content. This research aims to sĥed light on the modernist trajectories in al-Mutanabbi’s poetry, highlighting its manifestations and how contemporary critical theories align with the significant themes in his work, which blend tradition and modernity. These themes will remain a subject of analysis

by literary scholars across different times and places. The research is intended as a prelude to studies that will explore al-Mutanabbi’s poetry, rich with meanings and implications, based on modern critical perspectivyes and techniques, while maintaining a connection to traditional literary heritage rather than detaching from it.

مقدّمة

الحداثة تعني التّجدّد والتّطوّر والمعاصرة، لا سيما في الشّعر الذي يلبس في كل عصر لباسًا جديدًا يتناسب بحسب منهجية الحياة برمتها مثل الأحوال الاقتصاديّة والسّياسيّة والاجتماعيّة، فلا يمكن أن يقبل العقل خطاب الشّعر الجاهليّ الذي لا يتناسب مع خطاب الشّعر العباسيّ بما اشتمل عليه من تطوّر في أساليب الحياة والعيش والسّلوك وحتى الطّعام، وما طرأ على الأوضاع السّياسيّة من قصور الخلفاء والامراء والقواد والجواري والملابس والغناء والموسيقى، بل لا يمكن أن ننسى التّطوّر العلميّ والمعرفيّ والأساليب الأدبيّة التي أطلعنا عليها المترجمون، ولا سيما كتب اليونان والفرس والهنود وما نقله المترجمون السريان من علوم ومعارف وفلسفة ورياضيات، فهل يعقل أن نتجاهل هذا التّطوّر في الحياة ونتمسك بالنّاقة والرّمال والقبيلة وسيل الدّماء دفاعًا عن بركة ماء .

نحن لا ننكر وجود التّقليد ولكن من جهة أخرى لا يمكن أن نتغافل عن التّطوّر الفكري والحكمة والفلسفة التي جاء بها شعراء العصور المتعاقبة فقول المتنبي :

ومـــن صحـــب الدنيــــا طويــــلا تقلَّبــــتْ      علــــى عينـــه حـــتى يـــرى صدقهــــا كذبـــا

لا يمكن أن نقول إنّ هذا الشّعر هو من مواصفات الحداثة الشّعريّة في العصر العباسيّ بل هو شعر تقليدي حتى النخاع. اذ أنّنا نجد الى اليوم من يسير على خطى الأقدمين في التّقليد إذ هو مؤمن أنّ في هذا الشّعر تكمن العبقرية الشّعريّة ولن ينفع ما نحاول أن نقنعه به من أنّ الحياة تسير نحو فكّ أسرار النّجوم وأنت ما تزال تبحث عن (بعر الأرام في عرصاتها) .

إنّ الشّعر يسعى دوما إلى التّعبير عن الإنسان، إذ هو مأخوذ من الشّعور، وعلى الأغلب من الأفضل أن يتطابق الشّعر مع الشّعور وأنت تعيش في عصر الانترنت فلا يمكن أن يكون شعورك بما يقاس عليه شعر عنترة بن شداد في الفروسية أو معلقة زهير بن أبي سلمى في أبيات الحكمة التي كانت تتطلبها مسألة فكّ الاشتباك بين قبيلتين.

المبدعون المجددون موجودون في كل عصر وزمان إذ نجد في كل مرحلة من يمثّلها ويأخذ دوره في النّشاط الأدبيّ والشّعريّ على وجه الخصوص، وهو حتمًا يمثّل جيل الشّباب المندفع الباحث عن فرصته وهو القادر على فرض رؤاه وافكاره وأساليبه، حينها يندفع المقلدون إلى تسقيط هذا الإنبعاث بما يشتملون عليه من مكانة وقدرات بحيث يتشبثون في مواقعهم، لكنّ اندفاع الشّباب يعرقل مساعيهم حتى يحقّق موطئ قدم له في السّاحة، ويبدأ حينها بالتّوسّع حتى يسيطر على السّاحة ويبقى المقلدون يعيشون دوامة التّقليد مع قلة الإبداع وكثرة التّكرار، هذه هي حقيقة الحياة التي تتجدد مع كل جيل الذي يترك بصمته حتى تتلاشى بصعود أنماط جديدة ممن حيث الشّكل او المضمون.

وعلى الرّغم من رياح التغّيير التي طرأت على النّشاط الشّعريّ ولو أنّنا قلنا إنّ المتنبي من المجددين في زمنه لكننا نجد في كل قراءة جديدة لشعر المتنبي ما يعطينا مساحة للبحث عن الجديد الذي لم يعرفه دارسوه على كثرتهم عبر السنوات السّابقة بين ناقد وحاقد وناقد وحامد، فهو في كل عصر تجد في شعره ما يعين على التّجدد بدليل حبُّ النّاس والقراء لشعره وحفظه ودراسته والاستفادة منه في التّدليل والشّواهد سلبًا أو إيجابًا .

إنّ شعر المتنبي يصلح لكل زمان، إذ أنّه يخترق الزّمن بما نتلسمه فيه من طاقة شعريّة دافقة تجعله كأنّه ابن يومه يقول المتنبي في الحاسدين :

ومـــنْ يــك ذا فـــم مُــــرٍّ مريــــــض     يجــــــد مُــــــرَّا بــــــــه المـــاء الزلالا

فكيف يستطعم المريض الماء الصافي، ومرضى الفهم والادراك قليلون  ؟ …

ويقول :

ومـــن جهلــــتْ نفسـُــــه قــــدْرَه            رأى غيـــــرُه منــــــه مـــــــا لا يــــــرى

ولكي تعرف معنى هذا البيت يجب أن تعاود قراءته مرات ومرات حتى تدرك معناه المتجدد .

يأبى أبو الطّيّب المتنبي أن يصل إلينا عبر هذه القرون المتطاولة إلا من خلال هذا الصوت الهدّار الذي يترك دويًا راسخًا في العقول والقلوب. ويظلّ يمشي في النّاس ويقطع معهم كل هذه المسافات، على الرّغم من كل هذه الأشواط التي سارت بها اللغة، وتنقلّت خطواتها في الأجيال، وما دخل عليها من تغيير في الأسلوب والمحاكاة.

وإذا كانت القاعدة التي أرساها علي بن أبي طالب في عملية اكتشاف الصّالحين تقول: “إنّما يُستَدَلُّ عَلَى الصّالِحينَ بِما يُجري اللَّهُ لَهُم عَلى‏ ألسُنِ عِبادِهِ، فَلْيَكُنْ أحَبَّ الذَّخائرِ إلَيكَ ذَخيرَةُ العَمَلِ الصّالِحِ”، فإن القاعدة في العثور على استمرارية الأدب والشّعر وعلى “التّجاوز” المتواصل للبيئة والعصر تتمثّل في هذا الحضور على ألسنة المتحدثين والمتكلمين، وهذا الاستحضار الدائم له في كل المناسبات، واللافت أنّ جريان الدم الشّعريّ للمتنبي، وخفقات قلبه، وتوثّب نفسه تلقاه حاضرًا عند العامة والخاصة، وأن إيقاعه في القلوب والنفوس يستمر حارًّا لاهبًا من دون أن يخسر أي خليّة من خلاياه، أو أن يشيخ فيه هذا الشباب الذي ظل عصيًّا على الانكسار.

ومن هنا يدخل المتنبي إلى ساحاتنا المفتوحة ومياديننا الواسعة في القرن الواحد والعشرين الميلادي من البوابة الكبيرة بكل شبابه وأناقته، “وحداثته”، حتى نكاد نلمحه في مكوثنا وأسفارنا، في أفراحنا وأتراحنا، في صعودنا وهبوطنا، في همومنا وغمومنا، وفي استراحاتنا الأدبيّة والفكريّة، في ريف جلساتنا ومدنها.

وقد كان السّؤال ولا يزال: لماذا يستمر المتنبي لمّاعًا، برّاقًا، وما هي هذه الخاصيّة لشعره الذي يظل “حديثًا” ويستحضره الأدباء والمثقفون، كما تتداوله عامة الناس كشيء من حاجياتها، من مقتنياتها، من ماضيها وحاضرها وربما مستقبلها.

 

حداثة المتنبي في: هيكلية القصيدة

استدلّ الكثيرون على حداثة المتنبي من جوانب متعددة:

أولًا: “لقد كان داعية تجديد في هيكلية القصيدة، فهو وإن طرق النّسيب بابًا إلى بعض قصائده، إلا أنّه يدعو إلى عدم التقيّد بالشّكليّات:

إِذا كانَ مَدحٌ فَالنَسيبُ المُقَدَّمُ أَكُلُّ فَصيحٍ قالَ شِعرًا مُتَيَّمُ

ثانيًا: هو أستاذ في الغوص على أسرار اللّغة وفي توظيفها لخدمة الصّورة أو الفكرة:

إِذا كانَ ما تَنويهِ فِعلًا مُضارِعًا مَضى قَبلَ أَن تُلقى عَلَيهِ الجَوازِمُ

أو..

حَولي بِكُلِّ مَكانٍ مِنهُمُ خِلَقٌ تُخطي إِذا جِئتَ في اِستِفهامِها بِمَنِ

وباعتبار أنَّ من تختص بالعقلاء، ثم لاحظ استعمال لفظةً “خِلَق” ذات المعنيين وكذلك استعماله “ها” بدلًا من “هم” في كلمة “استفهامها.

 

وحدة القصيدة

ثانيًا: في وحدة القصيدة فقد قدّم أمثلة كثيرة عليها من أشهرها قصيدة “الحمى” التي مطلعها:

مَلومُكُما يَجِلُّ عَنِ المَلامِ وَوَقعُ فَعالِهِ فَوقَ الكَلامِ

“فوحدة القصيدة عند المتنبي قائمة على ركنين: نفسه وإيقاعه، والمتنبي لا يستمد الإيقاع من تفاعيل الوزن بل من نغمة شجيّة تكون في نفسه قبل النظم أو بعده، ولا ينبغي أن نعدّ الإيقاع إطارًا نغميًا فارغًا، بل إنّه روح الخليّة الشّعريّة، الإيقاع يفتح كوى النفس بعضًا على البعض الآخر، إنّه يوشك أن يحوّلها إلى نفس واحدة غير منقسمة في خاناتها المأثورة عند العلماء والفلاسفة، في تلك الحال من النّغميّة التي تنثال فيها أسرار من الرّوح تتكشّف الحقائق والدّقائق لأنّ الإيقاع الشّعريّ أقرب إليها، أو أنّه يحلّ في قلبها أو أنّها هي التي تحل في قلبه”.

وتنثال في تلك النغميّة أسرار من النفّس البشريّة المتمزقة بين المادة والرّوح، والأمل واليأس، والقوة والضعف، والغضب والرّضا، والكرامة والهوان، والسّمو والانحطاط. أي باختصار: حالنا نحن كلّنا في أرضنا، وهذا ما قرّب المتنبي إلينا وجعلنا نتماهى فيه، ونحفظ شعره، ونردّده في شتى المقامات والأحوال” ([1]).

“ووحدة القصيدة عند المتنبي وحدة حيوية، وحدة فكر وشعور وتأثير كاللوحة الفنيّة، إنّها وحدة منطقيّة وشعريّة في آن معًا، ولا يضيرها أن تشتمل على أكثر من بيت قصيد، بصورة حكمة أو مثل أو فكرة، ولِمَ لا، خصوصًا أنّ الدعوة في الشّعر الحديث هي إلى التّركيز والاختزال والتكثيف”([2]).

الاختزال

ثالثًا: وهنا ندخل في ميدان الاختزال وكثافة المعنى الذي يحشده المتنبي في البيت الواحد، فالوحدة المترابطة في القصيدة التي يشترطها عمر أبو ريشة وتنتهي بما يتم بلورته من “الإثارة والمفاجأة بالبيت الأخير فيها، بحيث يصعب نسيانه، فالأبيات الأخرى ممهدة له…” تجدها في كثافتها وعمقها وتركيزها واختزالها في شعر المتنبي.

فإذا تأمّلنا على سبيل المثال “لامية المتنبي” في مدح فاتك المكنى بأبي شجاع، ومطلعها:

لا خَيلَ عِندَكَ تُهديها وَلا مالُ فَليُسعِدِ النُطقُ إِن لَم تُسعِدِ الحالُ

فلا بد أن تستوقفنا في مطلعها الحكمي “الشّهير ذي القيمة التعبيرية المميزة”…

ولا بد أيضًا أن يستوقفنا البيت الأخير منها:

ذِكرُ الفتى عُمرُهُ الثاني، وحاجتهُ ما قاتَهُ وفُضولُ العيشِ أَشغالُ

حيث حشد فيه أكثر من حكمة، فخلّف لفاتك هذا العمر الثّاني من خلال شعره، وأبرم الحكم في أنّ حاجة الإنسان هي ما فاته، وأن ما فضل عن عيشه “أَشغالُ”.

وقد علّق ابن جنِّي على هذا البيت بالقول: “قد جمع في هذا البيت ما يعجز كل من يدّعي الشّعر والحكمة والكلام الشريف، فينبغي أن يلحق بالأمثال السائرة” ([3]). وقد سارت هذه الحكمة وسار هذا البيت في طوفانه الزاخر ليقطع عباب هذا اللجي ويفرض نفسه علينا في مساراتنا الحاضرة.

ولا عجب في ذلك، وفي هذه المقارنة “فهذا طبيعي جدًا بالنّسبة لتلميذ نجيب جدًا للمتنبي مثل عمر أبو ريشة”، كما يرى د. جودت نور الدين، الذي يقول: “… لست في معرض مقارنة بين المتنبي وأبي ريشة، ولكن كثرة أوجه التشابه جعلتني أختصه بالذكر في هذا المقام، فإلى البيت المثير الذي يختزن المعنى اختزان الطّيّب في القارورة، يجمع بينهما أيضًا الإيقاع النغمي الذي ينثال من الوزن وجدًا، والخطابية النفسية الصاعدة من واقع الوجود والعروبة البدوية ذات الأنفة والكبرياء والغرابة اللغوية التي ينام المتنبي عن شواردها؛ والكلمة غير الناقصة بحيث تردد بها قول المعري في أبي الطّيّب: “لا تظن أنك تقدر على إبدال كلمة واحدة من شعره بما هو خيرٌ منها، فجرب إن كنت مرتابًا”([4]).

كثافة المادة الفكريّة والثّقافيّة

 

رابعًا: اشتمال شعره على المادة الفكريّة المكثّفة، وعلى التّنوّع في هذه المادة الذي يعود لأسباب كثيرة منها ثقافته الواسعة، ومنها تجاربه العديدة، ومنها أسفاره، وهو الذي كان الوطن سفره الدائم، وكانت مطيّته دائمة التّنقل في اللّيل والنّهار، إضافة إلى مخيّلته الواسعة وتركيزه الكبير، وإذا كان النّاقد الإنكليزيّ “ماثيو أرنولد” يرى أنّ: “الشّعر هو نقد الحياة، وأحسن الشّعر هو الذي يُقدّم لنا أكمل تفسير للحياة الإنسانية” فإنّ هذه القاعدة أكثر ما تنطبق على أبي الطّيّب، بالنّظر إلى ما اشتمل عليه شعره من أفكار تفسّر الحياة الإنسانية وتفلسفها، وتغوص في مكنوناتها وتطلعاتها:

إِلفُ هَذا الهَواءِ أَوقَعَ في الأَنفُس أَنَّ الحِمامَ مُرُّ المَذاقِ
وَالأَسى قَبلَ فُرقَةِ الروحِ عَجزٌ وَالأَسى لا يَكونُ بَعدَ الفِراقِ

أو في قوله:

سُبِقنا إِلى الدُنيا فَلَو عاشَ أَهلُها مُنِعنا بِها مِن جيئةٍ وَذُهوبِ
تَمَلَّكَها الآتي تَمَلُّكَ سالِبٍ وَفارَقَها الماضي فِراقَ سَليبِ

فهو يُقدم لك الأفكار على طبق من تأمّل، وإعمال للفكر والعقل وهو البارع “في ربط الشّعر بالعقل، وبهذا يسمو إلى المكانة التي تبوّئه الصدارة، لأن كثيرًا من الذين أقحموا العقل في أشعارهم لم يستطيعوا إنقاذ الشاعر فيهم، المتنبي ذو عقل مدهش، ولكن عقله مرتبط بحدّة بأوجاع تجربته مع الحياة، ومرتبط بأحلامه التي كانت تلوح من بعيد دون أن تقترب حتى لكأنّها السّراب، ومرتبط أيضًا بهمة لا تكبو وكأنها لهبٌ يتغذى من جذوة روحه اللافحة، وتبيان الفاصل بين العقل والقلب صعبٌ جدًا في شعر شاعر كالمتنبي…”([5]).

 

شعره… مادة خام

وربما لهذا السّبب ولغيره بقيت طائرة المتنبي في إقلاع دائم فحتى زمننا هذا لم تحط ولم تعرف سوى التّحليق، وظلّ الدّهر منشدًا لشعره وأحد رواته:

أَبَدًا أَقطَعُ البِلادَ وَنَجمي في نُحوسٍ وَهِمَّتي في سُعودِ

وربما كان لهذا القلق الدائم الذي يصاحب هذه المهمة التي لا تعرف الضعف والانطواء، لهذا اللّهب الذي لا ينطفئ أثره الكبير في أنّنا اليوم لا نشعر ببعد المسافة عن هذا الشّعر الذي يشبه حالنا في هذا القلق المسافر معنا.

وإذا كان المتنبي “… لم يُخلق للحياة الهادئة الذليلة، وإنما خُلق لحياة الدويّ، وحياة العز..”، فالأولى بشعره أن تصل تشظياته وزفراته إلى إنساننا، وزماننا، وعصرنا، ليترك دوّيًا “هنا” كما ترك دويًا “هناك”

وَتَركُكَ في الدُنيا دَوِيًّا كَأَنَّما تَداوَلُ سَمعَ المَرءِ أَنمُلُهُ العَشرُ

وربما لهذا نشعر ونحن نستعيد المتنبي شعرًا في أيامنا هذه وكأنّنا نستعيده بكل طاقته، بشحمه ولحمه، بعنفوانه الذي تشعر معه وكأنّ الكون كله هو “مسرحٌ لأحلامه وغايته وحتى لأوهامه”. ولكنّه الميدان المفتوح على كل التّجارب وكل الإنجازات والإخفاقات، وحتى حياته القلقة والمضطربة تشعر بأنّها الأكثر توصيفًا لحياتنا، لذلك أحسبُ أنّه جاء إلينا في وقت كنا نحاول الذّهاب إليه، وعلى بساط من أفكار، وثقافة، وعقل، وألم، وانتصار، وانكسار، وربما لكل ما أشرت إليه أحسب أنّ مادته الشّعريّة وكأنها “مادة خام” لم تستطع كلّ هذه القرون أن تضفي عليها صدأ الأيام، فلا شعره يصدى ولا عطشنا يروى، كما أنّ وعيه اليقظ دائمًا لحقائق الوجود ونفسية البشر وضغطه الدائم على جراحهم حتى لا تشيخ وحتى تبقى خلاياهم تتجدد في دورات دموية لا تعرف الذل:

ذَلَّ مَن يَغبِطُ الذَليلَ بِعَيشٍ رُبَّ عَيشٍ أَخَفُّ مِنهُ الحِمامُ

ربما لذلك كله بقي شعره لمّاعًا، سائرًا في نبض الأجيال وروحها، “وبذلك اتسم شعره بحداثة ربما افتقد إليها أكثر شعرنا حداثة.. إن المضاف إلى حداثة المتنبي قدرة عالية على إثارة المتلقي بما في هذا الشّعر من استنفار حدسي يتوهج لم يفارق المتنبي في معظم شعره،  وأنا أرى أن المتنبي حين يكتب شعرًا تكون كل حواسه على مشارف الكلمات ولكنها ممهورة بدم قلبه وهذا الاستنفار الداخلي ينتقل إلى الآخر عبر العملية الشّعريّة المبدعة”([6]).

 

لغة مشوّقة

خامسًا: لغة المتنبي التي هي الطّريق إلى عقولنا وقلوبنا، وحتى عندما تكون هذه اللّغة غامضة فهي لغة مشوّقة، بالنّظر إلى طريقته في الصّياغة وفي تقصيد القصائد، فحتى عندما يقدّم لك شيئًا من الغموض في الكلام الذي يحتمل معنيين فيما يسمونه الغموض الموّجه فهو يقدّمه لك بطريقة محبّبة تجعلك تعمل التفكير كثيرًا أو تستلّذ بذلك حتى لو احتملت معنيين غيرين ضدين وغير ضدين كقوله:

وَأَظلَمُ أَهلِ الظُلمِ مَن باتَ حاسِدًا لِمَن باتَ في نَعمائِهِ يَتَقَلَّبُ

“فإنّ هذا البيت يُستخرج منه معنيان ضدان، أحدهما أنّ المنعم عليه يحسد المنعم، والآخر أن المنعم يحسد المنعم عليه”.. فإنك تستحسن هذا الغموض الذي يقودك إلى تكرار الكلمات في البيت وترجيعها، ثم تستخرج معها هذا الذكاء الذي جعل المتنبي “يمشي” بهذا الأسلوب عند كافور ويترك له ولغيره الاستنتاج في قصده ومراده.

ومثله قوله:

وَمَا طَرَبي لمّا رَأيْتُكَ بِدْعَةً لقد كنتُ أرْجُو أنْ أرَاكَ فأطرَبُ

وهو الذي جعل ابن جني يقول للمتنبي: لم تزد على أن جعله ابن زنه (أي قردًا) فضحك المتنبي لقول ابن جني.

فهذا الغموض الذي فيه الكثير من البراعة في اللغة والأسلوب والمعنى العميق والذي يكون صعبًا إلا على أهل الصنعة والفحول من الشّعراء، كان المخرج للمتنبي في كثير من الأحوال وأمام كثير من الأهوال، ولكنه لغته التي تشترك فيها نفسه مع قدرته على تطويع اللغة وجمالية الصياغة عنده.

وحتى في المبالغة التي قد تكون مستساغة أو غير مستساغة أحيانًا، فإن المتنبي يطربك بأسلوبه ولغته وصياغته ورميه بالمعنى “أقصى القوم” كما في قوله:

كفى بجسمي نحولًا أنّني رجلٌ لولا مُخاطَبتي إيّاكَ لمْ تَرَني

“والغريب أن هذا الشّعر يُجبرك على حفظه لا تصديقًا لمعناه، وإنما لذهاب المتنبي باستمرار إلى أقصى المعنى، إنّه دائمًا يبلغ من الأشياء أقصاها في مبالغة مدهشة بتطرفها وبهذا يجبرك المتنبي على رسم صورة لأقاصيه” ([7]).

بيد أن المتنبي حين ينحو بشعره نحو الوضوح والإبانة، وبأسلوبه نحو السّلاسة والتلقائية تجده ــ أيضًا ــ يترك الأثر البالغ في النّفوس، وخصوصًا إذا كان المحتوى من الإبداع والاتّساع ما يجعله محل شياع:

عِش عَزيزًا أَو مُت وَأَنتَ كَريمٌ بَينَ طَعنِ القَنا وَخَفقِ البُنودِ

وقوله:

وكلّ امرئٍ يُولي الجميلَ مُحبَّبٌ وكلُّ مكانٍ يُنبِت العزَّ طيّبُ

وحتى مع الحشو البديع:

صَلّى الإِلَهُ عَلَيكَ غَيرَ مُوَدَّعٍ وَسَقى ثَرى أَبَوَيكَ صَوبَ غَمامِ

ففي لغة المتنبي نفسه الواثقة، وعقله المتوثّب، وينابيع روحه الدفّاقة وحتى “ملامحه الداخلية” وطوفانه الدّائم في عالم الألفاظ والمعاني، وصخبه الذي تثور فيه اللّغة وهدوءه الذي تستريح فيها أمواجه عند شطآنها، ولوحاته التي إن لم تحمل الكثير من الخيار كما في شعر أبي تمام، لكنّها تحمل أفكاره وتصوّراته وتفتح لك الآفاق على مشروعه الكبير الذي هو مشروع كل حرّ وكل نزّاع للحريّة والاستقلال وكل تواق لاستدعاء منظومة القيم في خط الإصلاح وطريق التغيير.

وخلاصة القول إنّنا في تتبّعنا للمسارات الحداثويّة لأبي الطّيّب المتنبي سنعثر على الكثير من الحقائق والدّلالات التي تبعث الكثير من الإشارات حول السبب في بقاء شعره حيًّا يمشي مشي الشمس والقمر والليل والنهار، ومنها خاصيّة الصدق لأنّ المتنبي في معظم شعره كان ناقلًا لتجاربه الخاصة التي كانت فيها عيون رواحله عينه وبُغامها بغامه “فمعظم شعر المتنبي يكاد يكون صورة هذه الحياة التي ملئت بالتعب والقلق والاضطراب.

“جاهد المتنبي في حياته فزاحم ونازع وطاعن فكانت هذه الحياة المملوءة بالجهاد والمزاحمة والمنازعة والمطاعنة ملء شِعره… وهو لم يذق الراحة كل عمره” ([8])

وكان الدّهر نفسه في جملة الفوارس التي طاعنها ولاحقها، وقد تمرّس في ملاحقة الآفات حتى تركها تقول: “أماتَ الموتُ أم ذُعِرَ الذُّعرُ”.

وقد مات الموت على أبواب شعره وأمام طموحات نفسه، ومات جسده من دون أن يموت وميض قصيده، أو أن يهدأ غباره، أو أن يستطيع أحدٌ أن ينعى مجده.

 

خاتمة

إنَّ المتنبي يبدو اليوم أقرب إلى قرائه العرب أكثر من قرائه في عصره وفي العصور اللاحقة، فمنطق الأشياء يقول إنه بات اليوم مقروءًا أكثر، لسبب مهم هو أن دواوينه تطبع في آلاف النسخ وهذا كان متعذرًا في السابق، يوم لم تكن هناك مطابع، فضلًا عن دور النشر والتوزيع، وبالتالي فإنه يعرف بصورة أوسع مما كان عليه الحال في زمنه وفي ما تلاه من أزمنة .

وهذه المعرفة الأوسع له تيسّر كذلك اكتشافه من جديد مرة ومرات . قارئ اليوم المزود بأدوات معرفة جديدة وبذائقة جديدة يرى في المتنبي أشياء جديدة لم يكن بوسع مجايليه أن يروها، وهذه آية النص العظيم، الذي هو كالحجر الكريم الذي يزداد تألقًا مع الزمن، ولا يبلى .

 

وبهذا المعنى، يبدو المتنبي شاعرًا حديثًا أكثر من مئات ممن يقرضون الشّعر اليوم، فحداثة النص أو عصريته لا تُحدد بزمن كتابته، وإنما بقدرته على عبور الزمن، أي بقدرته على أن يحيا ولا يموت .

لم يحظَ شاعرٌ من شعراء العربيّة بمثل ما حظي به أبو الطّيّب المتنبّي من مكانةٍ عالية، فقد كان أعجوبةً أعجزت الشّعراء من بعده؛ حيثُ بقي شعره إلى الآن يُقرأ كمصدر وحي للكثير من الأدباء والشّعراء، كما تُرى فيه مظاهر القوّة والشاعرية القائمتين على التجربة الصادقة والحس الرهيف، وقد أبدع المتنبّي في صياغة أبياته صياغةً تأسرُ الألباب وتشغل القلوب، فقد كان شاعرًا ينتمي لطبقة شعراءِ المعاني، حيثُ كان موفِّقًا بين الشّعر والحكمة، وقد أخرجَ الشّعر عن قيوده وحدوده وابتكرَ الطريقة الإبداعيّة فيه.

 

المصادر والمراجع :

(1) مع الشّعر العربي: أين هي أزمة الشّعر، جودت نور الدين، دار الآداب، بيروت، ص115-116.

(3) عبد الزهرة زكي، عن صفحة العربي الجديد، 21 يوليو 2018.

(7) عمر شبلي، يا أيها الآتي من المستقبل، ص344.

(8) شفيق جبري، مقالات في كتاب: أبو الطّيّب المتنبي حياته وشعره، المكتبة الحديثة للطباعة والنشر، بيروت، ص44.

(9) مظاهر الحداثة في شعر المتنبي، صندل سلمان ابراهيم النداوي، جامعة ديالى – العراق .

(10)  ابو الطّيّب المتنبي في الشّعر العربي المعاصر، محيي الدين صبحي، مقابلة مع خليل حاوي، مجلّة المعرفة، العدد ١٢٢، عام ١٩٧٣، ص ٩٧/ نقلًا عن نعيم اليافي، أوهاج الحداثة، مصدر سابق.

(11) أبو الطّيّب المتنبي في الشّعر العربي المعاصر، ملتقى شذرات الإلكتروني .

(12) المتنبي الفارس من خلال أشعاره، جامعة زيان عاشور الجزائرية،2017.

(13) المتنبي والحداثة، جريدة التآخي، يونيو14  2023.

(14) المُتنبي شَاعرُ كُل العُصور، اسامة العسيلي،موقع الجزيرة نت 2018/7/21/.

(15) المُتنبي شاعر الشّعراء والعُلى والعَلياء، د. عضيد ميري.

([1]) مع الشعر العربي: أين هي أزمة الشعر، جودت نور الدين، دار الآداب، بيروت، ص115-116.

([2]) المصدر نفسه، ص118.

([3]) عبد الزهرة زكي، عن صفحة العربي الجديد، 21 يوليو 2018.

([4]) مع الشعر العربي، أين هي الأزمة، ص118.

([5]) عمر شبلي، يا أيها الآتي من المستقبل، ص291.

([6]) عمر شبلي، يا أيها الآتي من المستقبل، ص293.

([7]) عمر شبلي، يا أيها الآتي من المستقبل، ص344.

([8]) شفيق جبري، مقالات في كتاب: أبو الطيّب المتنبي حياته وشعره، المكتبة الحديثة للطباعة والنشر، بيروت، ص44.

عدد الزوار:67

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى