الافتتاحية

سطوع الاتّجاه العقليّ في الصّورة الشّعريّة في العصر العباسيّ

سطوع الاتّجاه العقليّ في الصّورة الشّعريّة في العصر العباسيّ

عمر شبلي

إفتتاحية العدد 47

بتطوّر العقل العربيّ من عصر ما قبل الإسلام إلى العصر العباسيّ كان من الطّبيعي أن ينعكس هذا التّطوّر على كلّ منتجات العقل العربيّ الفكريّة والفنيّة والرّوحيّة، وهذا التّطوّر كان مرتبطًا بالعمر الزّمنيّ الذي بلغ مستوى عقليًا متقدمًا نتيجة التّرجمات والصِّلات الفكريّة والفنيّة والرّوحيّة التي تثاقف بها ومعها العقل العربيّ، وهذا المنحى واسع ومتشعب، وسأحاول حصره بالصّورة الشّعريّة التي عرفها العصر العباسيّ، ولم يكن هذا التّثاقف خروجًا من التّراث السّابق في الصّورة الشّعريّة المتحدِّرة من مرحلة ما قبل الإسلام إلى العصر العباسيّ، ولا ناقضًا له، بل كان إضافة فرضتها مُكَوِّنات الحياة الجديدة.

لقد أُخْصِبتْ الحياة العربيّة الجديدة بمعارف وافدة وبحياة اجتماعيّة تغيّر فيها البناء واللّباس وعادات اجتماعيّة كثيرة، ولأنّ الشّعر هو المُعَبّر الأعمق عن التّحوّلات التي تمسُّ حياة الأمم كانت استجابته سريعةً لهذه التّحوّلات، وأركّز هنا على الصّورة الشّعريّة، وكان الشّاعر أبو تمّام من أوائل المعبرين عن هذا التّحول، فقد سأله أحدُ سامعي شعره: لِمَ تقولُ ما لا يُفهَم؟ فقال له أبو تمّام: ولِمَ لا تفهمُ ما يقال؟. السّؤال  والجواب هنا تعبير عن تطور عميق، وسنذكر صورًا شعريّة له ولغيره في العصر العباسيّ، يقول أبو تمّام:

تَحَمَّلْتُ ما لو حُمِّلَ الدّهرُ شطرَهُ     لفكَّرَ دهرًا أيُّ عبْئيْهِ أثقلُ

صورة الدّهر هنا هي صورة أبي تمام وهمومه، وهو يحملُ عبئًا ثقيلًا لا يستطيع الدّهر أن يتحمّله لو كان إنسانًا، وأبو تمّام يقول أيضًا:

تَسَابق الشّعر فيه إذْ أرِقْتُ له     حتى ظننْتُ قوافيه ستقتتلُ

القوافي هنا تتشاجر كالبشر، ويقول في قصيدته الشّهيرة “السّيفُ أصدقُ أنباء”:

يا يومَ وقعةِ عمّوريةَ انصرفتْ     عنكَ المنى حُفّلًا معسولةَ الحَلَبِ

هنا يشبه أبو تمّام المنى التي تحقّقت بالنّصر على الرّوم بالنّياق الممتلئة الضّروع وحليبها كالعسل. وفي نفس القصيدة نرى أنّ الرّاحة الكبرى لا “تُنال إلّا على جسرٍ من التعب”. إنّ الأثر العقليّ شديد الحضور في هذا الشّعر، ومن عميق صوره الشّعريّة الرّائعة التي تذهلك فيها قوّة المرأى وعمق الشّاعريّة قوله في وصف يومٍ ربيعيّ:

مطرٌ يذوبُ الصّحوُ منه ودونَهُ      صحوٌ يكادُ من النّضارةِ يُمطِرُ

الصّناعة الإبداعية في هذه الصّورة مذهلة يذوب فيها الشّعر من قدرة العقل على هذا التّصور الرُّؤيوي الجامع بين البصر والبصيرة.

وسنسوق بعض الصور من شعر المتنبي التي يتدخل فيها العقل بقوّة دون أن يؤذي الشّاعرية الأصيلة بل يخصبها: يقول المتنبي:

نحن ركبٌ مِلْجِنِّ[1] في زِيِّ ناسٍ     فوق طيرٍ لها شُخوصُ الجِمالِ

من بناتِ الجديلِ[2] تمشي بنا في     البيـــــــدِ مشيَ الأيّام في الآجالِ

بطلولٍ كأنهنَّ نجومٌ                 في عِراصٍ كأنهنّ ليالي

تعبير عقلي ينطق عن السّرعة التي لا يخذل فيها العقلُ الشّعر ولا يؤذيه، وترقى روعته في البيتِ الثّاني حيث تمشي الجِمال بالرّكب كما تمشي الأيام في عمر الإنسانِ وأجله. هذه الصّور فيها من الإبداع الذي يتصالح فيه العقل مع روعة الصّورة شعريًّا، وهذا لم يكن معروفًا في الشّعر العربيّ الذي سبق المرحلة العباسيّة. وفي البيت الثّالث يشبه ساحات الدّيار ياللّيالي السّوداء من مرور الزّمن عليها. هذا التّصور العقليّ العميق يعمّق الشّعر ويمدّه بحياة لا يأتيها الرّدى أبدًا، ولا يخشى من العقلنة التي تقتل الشّعر الذي ينزاح فيه القلب عن العقل في العملية الشّعريّة، فالشّاعر المبدع يقيم علاقات عليا لا تسوء أبدًا بين العقل والقلب. ونستمع للمتنبي، وهو يقول:

تحاسدَت البلدانُ حتى لو انّها    نفوسٌ لسار الغربُ والشرقُ نحوَكا

البلدان تتحاسد كالبشر، ويتقدّم العقل ليشبّه البلدان بماديّتها بالنّفوس الإنسانية.

ومثل هذا التّشخيص التّصويري العقليّ والشّعري في آن قول البحتري:

ولو انَّ مشتاقًا تكلّفَ فوق ما     في وسعه لسعى إليك المنبرُ

وجميل العمل التّصويري المعتمد على الشّاعرية والعقل معًا في قول بشار بن برد:

ودعجاءِ المحاجرِ من مَعَدٍّ      كأنّ حديثَها ثمرُ الجنانِ

صورة جميلةُ إذ يتدخل العقل ليحوّل الكلام الجميل إلى ما يشبه ثمر الجنة مع شاعريّة مترفة وخصبة حتى لكأنّ الرّوح تتغذّى بسماع الصّوت الجميل.

وجميلة جدًا الصّورة الشّعريّة الملتهبةُ العاطفةِ، والتي يساعدها العقل على التّشخيص في قول الشّريف الرضي:

وتَلَفَّتَتْ عيني فمذ خفِيَتْ     عني الطلولُ تلفَّتَ القلبُ

كم هو رائعٌ أن يصبح القلبُ عينًا رائية، وكم كان الوعي والشاعرية منسجمين في هذه الصّورة.

قصدي أنّ الشّعر في المرحلة العباسيّة ترك مسافة أبعد من المراحل التي سبقته للعمل العقليّ نتيجة ثقافة الشّاعر وسعة اطّلاعه واختلاف أنماط العيش التي أحسّها ووعاها وعاشها.

وهذا لا يقلل أبدًا  من أهمية الشّعر في المراحل التي سبقت العصر العباسيّ لأنّ الشّعر الرّائع والخالد يظل أبعد من زمنه كثيرًا، ويظلّ حديثًا بمقدار اهتمامه ووفائه لقضايا الإنسان الكبرى، ولكنني حاولتُ أن أقول: إنّ الشّعر يتأثّر دائمًا بثقافة عصره مع انتمائه إبداعيًا للتّراث الذي تحدّر هو منه. ولأنّ العقل العربيّ نما أكثر في العصر العباسيّ فقد كان على الشّعر أن يحمل أيضًا روح العصر الذي ينتمي إليه.

[1] مِلْجِنّ: من الجنّ

[2] الجديل: من كرام فحول الإبل وأجودها.

 

عدد الزوار:5070

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى