الأوقاف في دمشق في عصر المماليك البحريّة
الأوقاف في دمشق في عصر المماليك البحريّة
زينب العاصمي
ا.د علي حلاق مشرفًا رئيسًا
ا.د محمد علي القوزي مشرفًا مشاركًا
المقدمة
المماليك: هم عبيد أتراك وجراكسة ومغول جنّدهم الأيّوبيون في الخدمة العسكرية. تمكّن بعضهم من الوصول إلىٰ الحكم وأسّسوا في عصر سلالتي المماليك البحريّة والمماليك البرجيّة.
- المماليك البحريّون (1253 – 1382م) (648 – 784هـ): يعدّ السّلطان نجم الدين أيوب مؤسس المماليك البحريّة وكان ذلك بعد أن شعر بتدبير المؤامرات علىٰ الدّولة وحاجته الكبيرة لجيش قوي ومنيع يساعده في الحكم، وهذا ما جعله يقوم بتأسيس هذه الجماعة. ودُعوا بالمماليك البحريّون لإقامتهم في جزيرة الروضة علىٰ النيل وكان أولهم (أيبك المعز) ابن السّلطان نجم الدين وأشهرهم الظاهر بيبرس وقلاوون المنصور وقد تمكنوا من الوصول إلى الحكم عن طريق استغلال الظروف الداخلية والخارجية لدولة الأيوبيين واستطاعوا حكم مصر فترة طويلة.
- المماليك البرجيون: (1382 – 1517م) (784 – 923هـ) أقاموا في برج القلعة وكان أولهم برقون وآخرهم طوفان باي الثاني (الأشرف) الذي أعدمه سليم الثاني.
بسط بعض السّلاطين المماليك سيطرتهم علىٰ سورية وأجزاء من آسيا الصغرىٰ وحاربوا الصليبيين والمغول. حكم أكثرهم مددًا قصيرة كانت تنتهي دائمًا بالاغتيال.
بعد أن قضىٰ العثمانيون علىٰ دولتهم البكوات منهم قوة، ومصدر اضطرابات وفتن حتىٰ تخلّص منهم (محمد علي الكبير) في مذبحة القلعة عام (1811م).
ورغم اشتهار عهدهم بالفوضىٰ السّياسيّة والاغتيالات إلا أنهم تركوا آثارًا عمرانية هامة (مساجد – مدارس – أضرحة – تكايا).
والعصر المملوكي هو العصر الذي أضحت فيه مصر وبلاد الشام مركزًا للتجارة العالمية والطريق الرئيسي للتجارة بين الشرق والغرب وبوابة العبور إلىٰ أوروبا الأمر الذي يجعلنا نفسّر سبب تلك الثروة الواسعة التي تمتع بها المماليك وذلك الثراء الضخم وما نتج عنه من ازدهار النشاطات الدّينيّة والفكرية جراء ازدهار الوقف كما سنرىٰ – كما مارس المماليك نشاطًا دينيًا وعلميًا خصبًا ظهرت آثاره في مصر وبلاد الشام من خلال إحياء الشعائر الدّينيّة وإقامة المنشآت الدّينيّة والعلميّة والرغبة الجامحة في الإقبال علىٰ التعليم والتأليف والكتابة وإنّ من أعظم إنجازات وإيجابيات علماء ذلك العصر أنهم أعادوا وبزمن قياسي ما خسرناه من التراث والفكر الإسلامي الذي تعرض للنهب والسلب والإحراق والإغراق والإتلاف علىٰ يد المغول، وتابعوا فوق ذلك مسيرة التأليف والإبداع، فكوّنوا نهضة كبرىٰ توّجت حلقات تطور الحضارة الإسلامية.
أولًّا: الوقف وأنواعه
الوقف لغة: هو الحبس والمنع وهو مصدر وقفت الشيء إذا حبسته وأوقفته ثم اشتهر إطلاق المصدر، أعني الوقف علىٰ اسم المفعول فيقال: هذا البيت وقف، أي: موقوف. ومن ثمّ جُمع علىٰ أوقاف.
والوقف شرعًا هو حبس العبد عن أن تَملك لأحد من العباد والتصدق بمنفعتها ابتداءً وانتهاءً، أو انتهاءً فقط.
فالتصدق ابتداءً وانتهاءً يكون فيما إذا وقف العين من أول الأمر علىٰ جهة من جهات البرّ التي لا تنقطع كالفقراء والمساجد والمدارس والمستشفيات والحصون والخانات والمقابر والسقايات والقناطر… ونحو ذلك، وهذا هو المسمىٰ بالوقف الخيري.
والتصدق انتهاءً فقط يكون فيما إذا وقف العين من أول الأمر علىٰ من يحتمل الانقطاع واحدًا أو أكثر، ثم جعلها بعدهم لجهة برٍّ لا تنقطع كالوقف علىٰ نفسه وذريته أو علىٰ زيدٍ ونسله ومن بعدهم للمساكين، ويسمىٰ هذا بـ: الوقف الأهلي. (عبد الجليل عشوب: كتاب الوقف 2000م، ص9).
وقد وزعت أملاك الدّولة في مصر والشام في عصر المماليك علىٰ ثلاثة أوجه: أراضي الدواوين السّلطانيّة وأراضي ديوان الوزارة وأراضي موزعة علىٰ أفراد أو جهات (عماد بدر الدين أبو غازي: تطور الحياة الزراعية زمن المماليك الجراكسة، ص9).
أما باقي الأراضي فملكٌ حرّ لأفراد يقومون بوقفها علىٰ النفس والذرية أو علىٰ جهات خيرية مختلفة، كما أن الدّولة لها يدٌ طويلة وسلطات واسعة علىٰ تلك الأراضي جميعها بالمصادرة أو بالميراث الحشري (القلقشندي: صبح الأعشىٰ، ج3 ص464).
وبالتالي دور الدّولة الفاعل في أوضاع الحيازة الزراعية، وفي غالب الأحوال فقد كانت الملكية الخاصة للأفراد محدودة لا يعتدّ بها خلال القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي، ولكن سرعان ما اختلف الأمر عند نهاية العصر المملوكي وهو ما كشفته وثائق ذلك العصر (عماد أبو غازي: مرجع سابق، ص10).
وبشكل عام فقد تحوّلت كثير من الإقطاعات العسكرية إلىٰ أراضي وقف وغيرها ولكن دون أن توضح المصادر أوجه إنفاقها ناهيك عن عدم تحديد المساحة الموقوفة بدقة في أغلب بلاد الشام نتيجة لاشتراك أكثر من حائز في ملكتها ودون تحديد نسبة كل حائز وبخاصة أن مساحة الأراضي الزراعية التي كانت تجري في حيازة الأوقاف في الشام عمومًا في بداية العصر المملوكي كانت قليلة ولكنها زادت في أواخر القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي عما كانت عليه حتىٰ بلغت عشرة قراريط من أصل/24/قيراطًا أي نسبة (41.6%) فيما بين عامي (777هـ – 1375م) (5883 – 1478م) حيث ذكر القلقشندي أن البلاد جارية في إقطاع الدواوين والأمراء وغيرهم من سائر الجند إلا النزر اليسير مما يجري علىٰ الأوقاف ولا يعتد به.
وقد شهد العصر المملوكي عدة أنواع من الأوقاف هي:
- الأحباس المبرورة: يقصد بها الأراضي الموقوفة على المساجد والمدارس والزوايا والربط، ويتحدث فيها السّلطان بنفسه وتارة يشرف عليها نائب السّلطان ثم استقر الحال علىٰ أن يشرف عليها الدودار. ويساعده ناظر الأحباس وقد وقفت عدة أراضي بدمشق علىٰ هذا النوع.
- الأوقاف الحكمية: يقصد بها الأراضي الموقوفة علىٰ الحرمين الشريفين وكانت تخضع لإشراف قاضي القضاة الشافعي الذي عُرف باسم/ناظر الأوقاف/ولم نجد أراضي موقوفة علىٰ هذا النوع وقفًا مباشرًا وإنما تحوّل بعض الوقف الأهلي إلىٰ أوقاف حكمية منها ما أوقفه (سف الدين منجك) علىٰ جهة البر علىٰ أولاده وذريته وعقبه وعند الانقراض على الحرمين الشريفين.
- الأوقاف الأهلية: يقصد بها الأراضي والعقارات التي يوقفها الناس علىٰ أنفسهم وأهليهم وهذه الأوقاف وإن كانت تخضع لإشراف قاضي القضاة الشافعية إلا أنه كان لها ناظر خاص بها غالبًا ما يكون الواقف في أثناء حياته ومن بعده الأرشد فالأرشد أو السّلطان أو أحد الأمراء في الدّولة وكان الواقف في هذا النوع من الأوقاف يوقف الأرض أو العقار علىٰ نفسه وأولاده وذريته جيلًا بعد جيل حتىٰ ينقرض نسله ثم تؤول بعد ذلك إلىٰ جهة من جهة البر، مثل: وقف جلال الدين محمد المنجي علىٰ أولاده وذريته وبعد الانقراض علىٰ البر والصدقة. ونظرًا لأن هذه الأوقاف تبدأ أهلية وتنتهي خيرية فقد أطلق عليها الأوقاف الأهلية الخيرية. (محمد محمد أمين: الأوقاف والحياة الاجتماعية في مصر 2014م – ص108 – 113).
ويشتمل هذا النوع من الأوقاف علىٰ أراضٍ من أعمال مصدر والشام وبلاد أخرىٰ مقررة وهي موقوفة لصالح الخوانق والمدارس والجوامع، وقد خصص النوعان الأول والثالث من الأوقاف لبناء المؤسسات العلميّة والدّينيّة ولذلك نالت هذه الأماكن حصة الأسد من الأوقاف.
ومن ناحية ثانية كانت للأوقاف عامة أثرها الاقتصاديّ المؤثر في شتّىٰ مجالات حياة الدّولة، فمن عائداتها أنفق علىٰ المؤسّسات التّعليميّة ودور الثّقافة والمشافي والمصحات.
ثانيًا: ازدهار الأوقاف في العصر المملوكي
شهد العصر المملوكي تطوّرًا كبيرًا وازدهارًا لمختلف الأنظمة والأنشطة ومن جملتها نظام الوقف، حيث كان نظام الوقف نظامًا راسخًا متغلغلًا في المجتمعات الإسلامية، ولكن ما شهده المشرق الإسلامي من تطورات في العصر المملوكي وما أحاط بهذه التّطوّرات من ظروف خاصة انعكست آثارها علىٰ نظام الوقف وأعطته صورة مغايرة إلىٰ درجة كبيرة لما كان عليه قبل العصر المملوكي. وفي الوقت نفسه ساعدت علىٰ انتشار الوقف. فكل من كان لديه أرضًا أو عقارًا أو مالًا ثابتًا أو منقولًا في ذلك العصر كان يتطلّع لوقفه لسبب أو لآخر إمّا وقفًا خيريًا أو أهليًا لأن الظروف (بل طبيعة العصر) كانت تحتم هذا الاتجاه (عبد اللطيف إبراهيم: دراسات تاريخية في وثائق من عصر الغورىٰ – 1926م، ص3).
وكان لانتشار الأوقاف وازدهارها في العصر المملوكي أثر كبير في تنوع (ما يوقف وما يوقف عليه) تنوعًا كبيرًا حتىٰ كاد أن يشمل كل شيء تقريبًا أما عن أهم الأشياء التي انتشر وقفها في العصر المملوكي فهي الأراضي الزراعية والمباني مثل: الدور والقصور والمدارس ومكاتب الأيتام والخوانق والربط والوكالات والفنادق والقياس والخانات والسبل وأحواض الدواب ومعاصر الزيت والقصب والحمامات والطواحين والأفران ومخازن الغلال ومصانع الصابون والنسيج ومعامل لترقيد الفروج ومعامل للنشا والنشادر…. إلخ.
ويمكن أن نقول إنّه من دراسة وثائق الأوقاف في العصر المملوكي تبيّن لنا أنّ كلّ شيء يمكن أن يدرّ دخلًا عد لخراج وأنواع الضرائب المختلفة، ولم يقتصر الأمر علىٰ ما يدرّ دخلًا فقط، فقد وجد من أوقف عبيده لخدمة مؤسّسة دينيّة، وذلك أنّ الفقهاء أجازوا وقف الرّقيق – وأزواجهم وأولادهم إذا كانوا يعملون في صنيعة ثم أوقفها صاحبها بمدر فيها منهم علىٰ أساس تبعية الرقيق للأرض، كما قام البعض بوقف عبيدهم لخدمة المسجد أو المدرسة، ففي وثيقة (وقف سليمان باشا) يقف ستة من عبيده للعمل في خدمة المسجد الذي شيّده فوق قبر سارية الجبل، وحدد الواقف لهؤلاء العبيد أعمالًا معينة، كما خصّص لهم أجرًا من ريع الوقف، وفي حالة تكاسلهم أو هربهم حدّد عقابًا لهم (محمد محمد أمين: الأوقاف والحياة الاجتماعية في مصر – 2014م، ص101).
ولأهمية الوقف عيّن له موظف سمي (ناظر الوقف) وهو مسؤول عن المباشرة في توظيف الوقف بحسب الجهة المخصّصة لها، وترتبط بهذه الوظيفة وظيفة (نظر الأحباس) وهي وظيفة عالية المقدار وموضوعها أن صاحبها يتحدث في رزق الجوامع والمساجد والأربطة والزوايا والمدارس من الأرضين المغردة لذلك.
وما هو من ذلك علىٰ سبيل البرّ والصدقة لأناس معينين وتتبع هذه الوظيفة لديوان الأحباس أو ديوان الأوقاف.
وكان ريع الأوقاف هو المصدر المالي الأساسي لغالبية المؤسسات العلميّة في العصر المملوكي، ويفهم من هذا أن الحركة العلميّة الواسعة التي شهدها ذلك العصر، وبسبب الإقبال علىٰ إنشاء المدارس واستمرار التعليم فيه إنما هي في الحقيقة من نتائج ازدهار الأوقاف وانتشارها في العصر المملوكي.
كان للأوقاف الفضل الأول باحتفاظ المساجد الكبرىٰ بشهرتها العلميّة من ناحية واستمرارها كمراكز للحركة العلميّة من ناحية أخرىٰ، فنلاحظ أنه لم يَبنَ مسجد إلا وقد قُرّر له وقفه الذي سيصرف منه عليه وعلىٰ القائمين ببنائه والعمل به من الأئمة والخدّام والمؤذنين والمدرسين وغيرهم. (المقريزي، الخطط المقريزي، ج2، ص295، 296).
علىٰ الرغم من زيادة عدد المدارس في العصر المملوكي فإنّه لم تكن هناك سياسة تعليميّة للدّولة أو للسّلاطين وإنما كانت الدّوافع الدّينيّة والسّياسيّة السّبب في إنشاء المدارس والمكاتب وهذا ما أعطىٰ الأوقاف الأهمية الخاصة بالنسبة للتعليم، فالأوقاف هي التي ثبّتت أركان المدرسة، ودعمت نظامها ومكّنتها من أداء رسالتها، وكان الرّيع الذي تقدّمه الأعيان الموقوفة علىٰ المدرسة شهريًا أو سنويًا نقدًا أو عينًا هو الضّمان لاستمرار العمل بالمدرسة حيث تدفع منه مرتبات موظفي المدرسة والطلبة بحسب شرط الوقف (محمد محمد أمين: الأوقاف والحياة الاجتماعية في مصر، 1980، ص204).
ثالثًا: نماذج عن أوقاف المؤسسات العلميّة في دمشق
تنوّعت الأوقاف في دمشق فشملت العديد من المباني والمنشآت سواء أكانت مخصصة لأغراض دينية أو علمية أو صحية، وفي هذا المجال يمكن الحديث هنا عنه الأوقاف التي أوقفت علىٰ المؤسسات العلميّة من مدارس ومساجد ودور قرآن وخانقاوات وزوايا وبيمارستانات وغيرها في دمشق (بوران لبنية: الخانقاوات والزوايا الدمشقية – 2004م، ص160).
حيث بلغ عدد دور القرآن في دمشق في العصر المملوكي الأول (سبع دور).
أشهرها (دار القرآن الجزرية) التي أسسها وأوقفها شيخ قرّاء عصره: (شمس الدين بن الجزري) (حسام الدين الحزوري: الحركة الفكرية ومراكزها في دمشق في عصر المماليك البحريّة، 2011م).
بالإضافة إلىٰ (دار القرآن الصابونية) التي أنشأها (أحمد بن علم الدين الصابوني) وفرغ من بنائها سنة (1463م – 868هـ) وقد شرط الواقف فيها قراءة البخاري كل ثلاثة أشهر، وإقراء القرآن الكريم، وبنىٰ اتجاهها مكتبًا موقوفًا عشرة مع شيخ يقرئهم القرآن العظيم ويُصرف علىٰ كل ذلك من الوقف وكان ذو جهات كثيرة.
قُرىٰ في بيروت وقُرىٰ في غوطة دمشق وقرىٰ في بعلبك وأخرىٰ في حوران وقرىٰ وبساتين أخرىٰ متفرقة في مناطق متفرقة.
(عبد القادر النعيمي: الدارس في تاريخ المدارس، ج1، 1990م، ص10).
أما دور الحديث النبوي الشريف فقد قُدّرت بستة عشر دارًا أهمها (دار الحديث النورية) التي أنشأها (السّلطان العادل نور الدين محمود).
(حسام الدين الحزوري: الحركة الفكرية ومراكزها في دمشق في عصر المماليك البحريّة، 2011).
وهو أول من بنىٰ دارًا للحديث، وقال أبو شامة في أول الروضتين في ترجمة نور الدين: (وبنىٰ بدمشق أيضًا دار الحديث ووقف عليها وعلىٰ من بها من المشتغلين بعلم الحديث وقوفًا كثيرة).
وقال الأسدي: (فلما بنىٰ الأشراف دار الحديث غربها شرط أن يؤخذ من وقفها ألفا درهم فتضاف إلىٰ وقفها انصلح حالها).
(عبد القادر النعيمي: الدارس في تاريخ المدارس، ج1، 1990م، ص74).
وكانت أوقاف المدارس غنية في عصر المماليك حيث كان الوقف يزوّد المدرس بحاجتها من المدرّسين الذين قد يبلغ عددهم (30) مدرّسًا، ويزودها بالماء والنور والأثاث.
وكانت بعض الأحباس الغنية توفر الخبز والنفقات للطلبة، كما أنّ ثمة مدارس تأتي نفقاتها من إبحار السوق وبضعة بساتين، ومن بعض أسباب التجارة.
فقد كان وقف المدرسة الريحانية مكونًا من بساتين وقطعة أرض وخمسة أسداس مزروعة وأسطبل.
وقد كان وقف المدرسة الجوانية غنيًا علىٰ يبدو من نفقاتها: فقد كان كلَّ من مدرّسيها الخمسة والعشرين يتقاضىٰ/130/ درهمًا شهريًا، بالإضافة إلىٰ كيل كبير من القمح وآخر من الشعير لدابته أيضًا. وكان النّاظر علىٰ المدرسة يتناول عُشر مدخول المدرسة لقاء أتعابه وسهره ومراقبته ما تملكه المدرسة.
وقد خصص/800/ درهمًا لتنفق علىٰ الاحتفاء بليلة نصف شعبان. وكان للناظر أن يزيد عدد المدرّسين وغيرهم إذا رأىٰ في ذلك نفعًا. (نقولا زيادة: دمشق في عصر المماليك – 1966م، ص120).
أما الخانقاوات فكانت من أهمها الخانقاه الأندلسية وكانت أوقافها مشتركة مع أوقاف الخانقاه السميسياطية.
بلغ مصادر الوقف 38 مصدرًا منها الدكاكين وقطع الأراضي والأسطلات والحمّامات والبساتين والأحكار والمزارع.
وأشارت بعض السجلات إلىٰ أن أوقاف عدد كبير من الزوايا كانت إمّا ذرية في البداية، ثم بعد انقراض النسل والأعقاب يتحوّل الوقف إلىٰ خيري.
وأما خيرية وتصرف عوائدها علىٰ مصالح الزوايا حسب شروط الواقفين. ومن هذه الزوايا الزاوية الآرموية: والتي تقع في منطقة الروضة.
أوقف السّلطان الملك الظاهر ما قيمته (6380) درهمًا من حاصل قرية مادع من سوق الحرادين، علىٰ/إبراهيم بن عبد الله بن يوسف الآرموي/ثمّ علىٰ أولاده وأنساله وأعقابهم، فإذا انقرضوا عاد وقفًا جاريًا إلىٰ: الزاوية الآرموية بسفح قاسيون. (بوران بنية: مرجع سابق، ص170، 171 – 187).
رابعًا: بيوت دمشقية في عصر المماليك أوقفت مدارس العلم
برزت في دمشق في عصر المماليك ظاهرة ملفتة وهي ازدهار الوقف العلمي ومساهمة الجميع في ذلك، إذ نقف في المصادر التاريخية علىٰ ميزة لأهل هذه المدينة ربما لم تتوافر عند غيرهم وهي وقف بيوتهم بعد مماتهم مدارس علميّة، ومثال علىٰ هذه البيوت نبدأ بالحديث عن دار الحديث البهائية، وقد كانت دارًا للشيخ المسند بهاء الدين أبو محمد القاسم، فوقفها آخر عمره دارًا للحديث النبوي الشريف ودرس فيها أفاضل العلماء وتخرّج منها طلبة علمٍ كثيرون بفضل هذا الوقف.
بالإضافة إلىٰ المدرسة القواسية والتي كانت دارًا للأمير عز الدين إبراهيم بن عبد الرحمن بن القواس. أوصىٰ أن تُجعل مدرسة لمّا حضرته الوفاة (733هـ – 1334م) ووقف عليها أوقافًا دارة، وأصبحت منارة علم في دمشق.
ودار الحديث السامرية كانت دارًا للشيخ أحمد بن علي البغدادي السامري في دمشق فوقفها دار حديث وخانقاه وعُقدت فيها دروس العلم.
ولم تقتصر أهمية الأوقاف في دراسة الطب علىٰ البيمارستانات بل جاوزتها إلىٰ المدارس والمساجد والخوانق والمكتبات.
خامسًا: المكتبات والوقف
توافرت في عصر دولة المماليك عوامل عديدة أدت إلىٰ ازدهار المكتبات. وجل هذه العوامل ارتبط بعملية الوقف، كبذل السّلاطين والأمراء وحبّ العلماء وحبّ العلم والمعرفة، وسعي طلبة العلم لاقتناء الكتب بنسختها أو استعادتها من المكتبات الموقوفة أو بشرائها.
وظهر عامل جديد ومهم كان له الأثر الكبير في نمو المكتبة الإسلامية في ذلك العصر، وهو التوجه نحو الاعتناء بالكتب فنيًا من حيث النسخ والتجليد والترهيب والحفظ وانتشار الأسواق المختصة بتجارتها.
ولا يغيب اهتمام الأيوبيين بإنشاء المكتبات الكثيرة المتنوعة التي ورثتها دولة المماليك، فكان لذلك أثر في إثراء المكتبة في ذلك العصر.
وقد يغيب عن بعض الناس الأهمية الكبيرة للمكتبة المملوكية التي لا تُقدر بثمن فهي المكتبة التي حفظت العلم والتراث العربي الإسلامي من الفقدان والضياع بعد أن أحرق التتار الكتب وأغرقوها عند اجتياحهم بغداد، لذلك تحتوي مكتبات العالم الكبرىٰ اليوم الآلاف من المخطوطات المملوكية التي لا يضاهيها عدد من عصر آخر، وتفوق في غنىٰ مضمونها مضمون كتب أي عصر من العصور.
وفي ذلك العصر حظي الكتاب – مصدر المعرفة – بالمنزلة الراقية والمنزلة العظيمة في قلوب أهل العلم بمختلف مشاربهم وميولهم الفكرية، فنال كثيرًا من الاهتمام والعناية، فلم تقتصر العناية به علىٰ إنشاء المكتبات العامة، بل سعىٰ الكثير إلىٰ إنشاء مكتبات كبيرة في منازلهم.
فتعدّدت أنواع المكتبات الموقوفة في عصر المماليك، فوجدت المكتبات الملحقة بالمساجد، والمكتبات الملحقة بالمدارس، والمكتبات الشخصية الخاصة، واشتملت هذه المكتبات علىٰ عدد كبير من الكتب في شتىٰ أنواع العلوم والمعارف، ووضعت تحت تصرّف طلبة العلم كوقف يطلّعون علىٰ ما فيها وينهلون منها. وارتبطت بنظام تعلق بقائمة الوقف يحفظها ويصونها وينظّم الاطلاع علىٰ محتوياتها وتداولها.
وألحقت المكتبات الموقوفة بالكثير من المساجد، فألحقت مكتبة بالجامع الحظيري وأخرىٰ في الجامع الحاكمي.
واقترنت المكتبة بالمدرسة في عصر المماليك، لذلك يندر أن نجد مدرسة ليس فيها مكتبة موقوفة عليها: فقد كان في المدارس مكتبات تحتوي مادة علمية يطلع عليها الطّلاب ويستكملون بها تعليمهم وكان في المدرسة الفاضلية «جملة عظيمة من الكتب في سائر العلوم يقال إنها كانت مئة الف مجلد».
واشتملت المدرسة الظاهرية علىٰ أمهات الكتب في سائر العلوم والختمات الشريفة وكتب التفسير والحديث والفقه واللغة والطب والأدبيات ودواوين الشعر.
وسارت أمور هذه المكتبات وفور نظام محدد تبعًا لشروط الوقف لكونها تمثل جزءًا مهمًا من الأواة التعليمية علىٰ مدىٰ العصرين الأيوبي والمملوكي، فكانت خزانة الكتب تقسم إلىٰ رفوف مقطعة بحواجز وعلىٰ كل حاجز باب مقفل بمعصّلات وقفل وكان فيها إطارات كبيرة وصغيرة مصنوعة من الخشب، واحتوت كل خزنة مجموعة من الكتب تصور عليها ورقة مترجمة ملصقة علىٰ باب كل منها، وكانت المصاحف الكبيرة توضع في خزانة خاصة جانب المحراب في المدرسة، وأثبتت الكتب في سجل علىٰ هيئة كتاب يتضمن قوائم الكتب مرتبة بعناية بحسب الموضوعات أو أسماء المؤلفين.
وكان يشرف علىٰ المكتبة موظف خاص يسمىٰ (خازن الكتب) وحددت مهمته تبعًا لشروط الواقف.
وحدد الواقفين نظام الاطلاع والاستعارة بدقة تامة بغية الحفاظ علىٰ الكتب من الضياع. فمن الواقفين من منع الاطلاع علىٰ الكتب لمن عُرِف بتفريطه بها.
وشرط بعضهم الآخر كتابة اسم المستعير علىٰ أن يمحىٰ بعد الإعادة زيادة في الحرض، وحرّم بعض الواقفين خروج من المكتبة نهائيًا.
وفي حال سمح بإخراج الكتب من المدرسة فكثيرًا ما كان يشترط الواقف ألا يتمّ ذلك إلّا برهن. والأولىٰ في الإعارة أن تكون للمحتاجين إلىٰ الكتب والعارفين لقيمتها ونص بعض الواقفين علىٰ ضرورة عزل خازن الكتب إذا بدا منه أي تقصير. وكثرت إلىٰ جانب مكتبات المساجد والمدارس مكتبات خاصة، وهي المكتبات الشخصية المنزلية المملوكة من قبل الأفراد، وقد يساهم هذا النوع من المكتبات في الحركة الفكرية، لغنىٰ هذه المكتبات بالكتب الكثيرة التي جعلها أصحابها وقفًا أو ميراثًا للمدارس وللأصدقاء في أغلب الحالات.
سادسًا: الأوقاف وأثرها علىٰ نظام التعليم
كانت الأوقاف في العصر المملوكي فعالة إلىٰ درجة كبيرة، ويحق لنا أن نقول وبكل ثقة أنها كانت الشريان الرئيسي لكل النشاطات العلميّة، فلم تكن المورد المالي للمؤسسة العلميّة فحسب بل كانت أكثر من ذلك.
إذ أن كتاب الوقف كان اللائحة الأساسية للمؤسسة التعليمية التي تضم نظام المدرسة والأسس التربوية للتعليم والشروط التي ينبغي أن يتصف بها القائمون بالتدريس والموظفون ومواعيد الدراسة وسكن المدارس والمرقبات… وغير ذلك من التنظيمات الإدارية والمالية.
- الوقف والنظام الداخلي للمدرسة
انقسمت المدارس في عصر المماليك إلىٰ قسمين من حيث نوعية التعليم:
المدارس الابتدائية: وتشتمل المساجد ومكاتب التعليم: وفيها يتلقىٰ الطلبة العلوم الابتدائية الأولية.
والمدارس العليا: التي تشبه الجامعات في عصرنا وتتمثل بالمدارس الكبرىٰ التخصصية.
وأما المواد العلميّة المدرسية في كل من هذين القسمين فقد تخصصت كل مدرسة بتدريس علم أو عدة علوم.
وارتبط نظام المدرسة بعدد من الوظائف المهمة التي تولاهما موظفون اختلفت مهماتهم بحسب العمل الموكل إليهم وجميعهم كانوا مسؤولين عن الحفاظ علىٰ المدرسة وتنظيم فعالياتها وأنشطتها والحفاظ علىٰ نظافتها ورونقها وتسيير شؤون الطلبة فيها ومراقبة أحوالهم… وكلّ ذلك حسب لائحة الوقف.
وتأتي علىٰ رأس هذه الوظائف (وظيفة النّظر) وهي من أهم الوظائف التي ترتبط بالمؤسسة التعليمية ويسمىٰ صاحبها (بالنّاظر) وهو من ينظر في الأموال وينفذ تصرفاتها وترفع إليه حساباتها لينظر فيها، فيمضي ما يمضي ويرد ما يرد.
والنّاظر: مأخوذ إما من النّظر الذي هو: رأي العين فهي بمعنىٰ الرعاية والإدارة.
وإما النّظر الذي بمعنىٰ التفكير بما فيه المصلحة من ذلك.
ويختلف النّظر باختلاف ما يضاف إليه؛ كناظر الجيش وناظر المال وناظر الجامع. وتظهر أهمية وظيفة النّظر في تسيير أموال المؤسسة التعليمية واستمرار عملها.
ومن مهمات النّاظر الإشراف علىٰ المؤسسة التعليمية بكل أساسياتها من عماراتها وأوقافها والنشاط القائم بها والاعتناء والمحافظة عليها، بالإضافة إلىٰ اختيار المدرس الكفء.
ومن الوظائف المتعلقة بالمدارس: وظيفة البوّاب، ومهمته تنظيم الداخلين إلىٰ المدرسة والخارجين منها، فيمنع دخول من ليس له ارتباط بها.
أما أعداد الطّلاب فقد حددت في بعض الأحيان في كتاب الوقف وتركت من دون تحديد في أحيان أخرىٰ مع تحديد عدد المدرّسين، واختلف عدد الطّلاب من مدرسة إلىٰ أخرىٰ.
- المساكن المدرسية
ويبدأ دور الوقف هنا من البداية، إذ أنّ علىٰ واقف المدارس والسّكن فيها أن يكون ورعًا بعيدًا عن البدع ويغلب ظنه أن هذا الوقف من المال الحلال، ثم علىٰ واقف مسكن المدارس الالتزام بإسكان الطّلاب المرتبين لسكن هذه المدرسة فلا يسكن غيرهم، فإن فعل ذلك كان (عاصيًا ظالمًا) وإن لم يحصر الواقف ذلك فلا بأس إذا كان السّاكن أهلًا لها.
وقد تمتعت المساكن الدراسية بخدمات راقية تدلّ علىٰ رقي خدمات الأوقاف.
فقد ذكر عن المدرسة الظّاهرية أنّ (للناس في سكناها رغبة عظيمة ويتنافسون فيها تنافسًا يرتفعون فيه إلىٰ الحكام).
وكان السّكن المدرسيّ مؤلّفًا من عدة طوابق سفلية وعلوية، نصصت الطّوابق العلوية لأصحاب المقدرة علىٰ صعودها والطوابق السّفلية لغير القادرين علىٰ الصّعود ولأصحاب الفتيا ليسهل علىٰ الناس قصدهم.
وكان السّكن المدرسي يسير علىٰ نظام معين حسب لائحة الوقف يتألف من شروط السّكن وأنظمته، وقد خصص جماعة لذلك بابًا بعنوان (في آداب سكن المدارس) فمن ذلك يتعرف الطالب علىٰ شروط المدرسة قبل أن يقيم فيها ليؤدي حقوقها.
وأن يكون ساكني بيوت المدارس متحابين متوادين بإفشاء السلام وإظهار المودة والاحترام.
- المرتبات
خصّص للمدرسين وللطلبة مبالغ حالية أجريت عليهم شهريًا بالإضافة إلىٰ المعونات العينية، وكل ذلك من الأوقاف.
وقد تبيّن لنا في بداية هذا البحث أثر الأوقاف في الحياة العلميّة وأوردنا أخبارًا عن إغلاق عدد من المدارس بسبب انقطاع معونات المدرّسين والطلبة عنها.
وقد اختلفت المرتبات ما بين مدرسة وأخرىٰ علىٰ حسب كتاب الوقف؛ ففي مدرسة الظاهر بيبرس: كان يعطىٰ لكل مدرّس مئة وخمسون درهمًا في الشهر ولكل معيد أربعون درهمًا وللفقهاء أعلاهم عشرون درهمًا وأدناهم عشرة دراهم ولكل مقرئ خمسة وعشرون درهمًا وللبواب عشرون درهمًا.
أما دار القرآن الدلامية في دمشق (أنشأها أحمد بن دلامة البصري 847هـ – 1443م وجعل لها أوقافًا) ويصرف من هذه الأوقاف كالتالي:
إمام وله مئة درهم، وقيّم وله مثل ذلك. ستة أنفار من الفقراء من الغرباء والمهاجرين في قراءة القرآن لكل منهم ثلاثون درهمًا في كل شهر.
شيخ لإقراء القرآن وله مئة وعشرون درهمًا، ستة أيتام لكل منهم عشرة دراهم في كل شهر، شيخ يقرأ البخاري كل 3 أشهر وله مئة وعشرون درهمًا.
ناظر له ستون درهمًا في كل شهر، وغير ذلك…
والمدرسة الفارسية في دمشق أوقفها للعلم سنة (808هـ – 1405م) الأمير سيف الدين فارس الدودار وأوقف عليها حوانيت إلىٰ جانبها وجعل فيها تدريس المذاهب الأربعة وجعل فيها لكل شيخ ثمانين درهمًا وللطلبة كل شهر خمسًا وأربعين درهمًا وللمقرئين لكل منهم خمسة عشر درهمًا.
وكانت المعونات العينية متنوعة: ففي المدرسة الحجازية كان يُصرف في كل عام لأصحاب الوظائف في العيدين (الفطر والأضحىٰ) الكعك واللحم والطعام المطبوخ وغير ذلك.
وأعطي كل مدرس في مدرسة بيبرس رطلي خبز.. وكل معبد وإمام رطل واحد في كل شهر، وكان يفرّق علىٰ نزلاء خانقاه ركن الدين بيبرس في كل يوم اللحوم والطعام والحلوىٰ وثلاثة أرغفة خبز.
(عماد محمد النهار: بحث في الأوقاف الإسلامية في عصر المماليك – جامعة دمشق، ص80 – 16).
سابعًا: عوامل ازدهار الوقف في عصر المماليك البحريّة
وقد اتضح الأثر الأبرز للمماليك في الحياة العلميّة بتصدّيهم لبناء العمائر الدّينيّة والعلميّة التي أقيمت فيها الفعاليات الدّينيّة والعلميّة، ودرّس فيها العلماء، وتخرج بها العلماء الأعيان الذين كان لهم الدور الفعّال في النهضة الفكرية.
فأشاد المماليك المساجد والمدارس والروابط والزوايا والخوانق والبيمارستانات والمكتبات ووقفوا عليها الأوقاف الكثيرة لضمان استمراريتها.
ومن أهم العوامل هو العامل الاقتصاديّ فلقد كان اقتصاد دولة المماليك متينًا ومزدهرًا لاهتمام السّلاطين بالزراعة والصناعة وكذلك التجارة التي احتلت المكان الأول في الحياة الاقتصاديّة، ونتج عن ذلك الازدهار الاقتصاديّ ثراء الدّولة وامتلاك المماليك لثروات طائلة فكان إذا توفي أحد السّلاطين أو الأمراء خلّف وراءه تركات هائلة، فانعكس ثراء الدّولة علىٰ الأعمال العمرانية، واستطاعت الدّولة علىٰ الإنفاق بسخاء علىٰ هذه المؤسسات، مما جعلها تؤدي الدور المطلوب منها وأن تصل إلىٰ الهدف المقصود. (ناصر (عامر نجيب) الحياة الاقتصاديّة في مصرفي العصر المملوكي – دار الشرق، 2003م).
ويظهر كذلك العامل الدّينيّ الهام جليًّا في ازدهار الأوقاف، حيث ذُكر عن الأمير علاء الدين طيبرس أنه بعد أن استكمل بناء مدرسته الطيبرسية:
(أحضر إليه مباشروه صاب مصروفها فلما قُدِّم إليه استدعىٰ بِطشت فيه ماء، وغسل أوراق الحساب بأسرها من غير أن يقف علىٰ شيء منها وقال: شيء خرجنا عنه لله تعالىٰ لا نحاسب عليه).
(المقريزي: الخطط، ج2، ص383).
فلعل السبب الدّينيّ لم يغب عن سادي العمائر في العصر المملوكي ولا سيما السّلاطين، والأمراء الذين تقربوا إلىٰ الله عزّ وجلّ وطلبوا الأجر والثواب ولا سيما أن الله عزّ وجل يقول: ﮋﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﮊ [سورة النور، الآية: 36].
وأن الرسول ﷺ يقول: (من أحبّ الله عزّ وجلّ فليحبني، ومن يحبني فليحبُّ أصحابي، ومن أحب أصحابي فليحبَّ القرآن، ومن أحب القرآن فليحب المساجد، فإنها أَفنيةُ الله أَنبيتهُ، أذن الله في رفعها).
(القرطبي، محمد بن أحمد، تفسير القرطبي – القاهرة، دار الشعب، ج12، ص266).
وقد قال الرحالة العبدري في صور سلاطين دولة المماليك (ولككن ملوكهم أهل دين وعقائد سليمة وشفقة وحنان علىٰ المسلمين وتفضل علىٰ الفقراء وحسن ظن بأهل الدين وهم ركن الإسلام).
(العبدري، (محمد)، رحلة العبدري، دمشق، دار سعد الدين، 1999م، ص280).
فقد اعتنق المماليك الدين الإسلامي وهذا ما أشعر عددًا منهم بأنهم مسؤولين أمام الله ثم أمام الشعب عن الدفاع عن البلاد وإقامة بنيانها ومن ذلك تشييدهم المساجد والمدراس ووقف الأوقاف عليها، وقد عبر الشعراء عن هذه الصورة في مواضيع عديدة فقال أحدهم عن السّلطان الأيوبي الصالح نجم الدين أيوب:
بنيت لأرباب العلوم مدارسًا | لِتنجو بها من هول يوم المهالك |
وكان بعض المماليك قد أنشأ المدارس وأوقافها حبًّا بالعلم وتقديرًا لأهله.
وقد بيّن بعض الشعراء أيضًا ذلك عند افتتاح المدرسة الظاهرية، فذكر أحدهم عن الظاهر بيبرس:
مليكَ له في العلم حب وأهله فشيدها للعلم مدرسة غدًا ولا تذكرون يومًا نظامية لها |
فللَّه حب ليس فيه كلام عراق إليها شيق وشآم فليس يضاهي ذا النظام نظام.. |
(المقريزي: الخطط، ص375، ص379).
ويرتبط بهذا السبب كثرة العلماء والفقهاء وطالبي العلم في العصر المملوكي، فشجع ذلك المماليك علىٰ الإكثار من بناء المساجد والمدارس لأن العلاقة كانت وثيقة ومتينة بينهم وبين العلماء، فجاء نشاطهم متماشيًا مع روح العصر وتطورات الزمن واستجابة لتطور الحياة الفكرية.
ومن أسباب بناء المساجد والمدارس التنافس بين أصحاب المذاهب الفقهية كل منهم يريد بناء مدرسة تؤيد مذهبه الفقهي، فمثلًا في عام (767هـ – 1365م) قام الأمير يلبغا بتحديد درس في جامع ابن طولون فيه سبع مدرسين للحنفية وجعل لكل فقيه منهم في الشهر أربعين درهمًا وإردب قمع، وذكر أن جماعة من غير الحنفية انتقلوا إلىٰ مذهب أبي حنيفة لينزلوا هذا الدرس.
ويتجلّىٰ العامل الدّينيّ كذلك ممتزجًا مع العامل السّياسيّ في قضية الخلافة الإسلامية فنلاحظ أن مظاهر العلم تنتقل مع انتقال الحكم (الخلافة)، فالمدينة المنورة كانت موطن الحركة العلميّة وعاصمتها علىٰ عهد الرسول ﷺ والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ثم انتقلت هذه الحركة العلميّة إلىٰ دمشق بانتقال مقر الخلافة إليها وقيام الدّولة العباسية، ثم كان سقوط العاصمة العباسية علىٰ يد التتار فانتقل العلماء إلىٰ مصر وقاهرتها حيث استقر المماليك وأسسوا حكمًا وسلطانًا، وفي ذلك يقول ابن خلدون:
(ودرست معالم بغداد بدروس الخلافة، فانتقل بشأنهما من الخط والكتابة بل والعلم إلىٰ مصر والقاهرة). (ابن خلدون: المقدمة، ص528).
وربما من أسباب ازدهار الأوقاف الإسلامية في عصر المماليك خوف السّلاطين والأمراء وأصحاب المناصب العليا في الدّولة علىٰ ذريتهم وخلفائهم من أن تصادر أملاكهم بعد وفاتهم فعملوا في الإكثار من العمائر ووقفها لتكون ملكًا لهم، فك يستطيع أحد التطاول عليها وأخذها، وقد عبّر ابن خلدون عن ذلك بقوله: (إن أمراء الترك في دولتهم يخشون عادية سلطانهم علىٰ من يتخلفونه من ذريتهم، لما له عليهم من الرق والولاء، ولما يخشىٰ من معاطب الملك ونكباته، فاستكثروا من بناء المدارس والزوايا والربط ووقفوا عليها الأوقاف المقلة، يجعلون فيها شركًا لولدهم ينظر عليها أو يصيب منها). (ابن خلدون: المقدمة، القاهرة، دار الشعب، ص40).
ثامنًا: نتائج ازدهار الوقف في العصر المملوكي
إن دولة المماليك جاءت لتكمل إنشاء المؤسسات العلميّة والتربوية، وكان الأيوبيون قد سبقوها بإنشاء المدارس، لكن هذه المدارس زادت أعدادها في عصر المماليك زيادة لم تكن – في أي عصر من العصور الإسلامية في مصر والشام وكذلك المساجد التي أنشأت مع ظهور الدين الإسلامي، زادت أعدادها أيام المماليك بشكل ملفت وازدهرت باقي المؤسسات كالمكتبات والبيمارستانات والروابط والزوايا والخوانق، وكل ذلك كان بسبب ازدهار الوقف الإسلامي وفعاليته.
وقد ازدهرت دمشق في هذه الفترة بمئات المدارس الكبيرة المختلفة التي أُسست لتلقّي الثقافة الإسلامية الدّينيّة، وما يتصل بها من علوم العربية، فكان فيها مدارس للقرآن والحديث وللمذاهب الفقهية الأربعة وللطب.
وقد أسّس هذه المدارس ملوك دمشق – وسلاطينها وأمراؤها وولاتها وأزواجهم وأخواتهم من الأميرات والخواتين، ونساؤها العالمات وعلماؤها وقضاتها وتجارها وقد وقف أولئك جميعًا علىٰ هذه المدارس المتعددة أوقافًا وافرة من الأموال والقرىٰ والضياع والبساتين والحوانيت والخانات والقاعات، حتىٰ أصبحت دمشق – وأريافها أوقافًا لهذه المدارس المبثوثة في كل هي من أحيائها، فكانت هذه الأوقاف قدرّ المال عليها وتُرغّب الطّلاب في التعلّم بها.
ولعل دمشق قد تفرّدت في ذلك الزمن بعدد المدارس الذي فاض علىٰ مائة وخمسين مدرسة، وفاق بذلك مدارس بغداد والقاهرة والقدس وجميع مدن العالم الإسلامي، ونظرة إلىٰ كتاب النعيمي (الدارس في تاريخ المدارس) و(تنبيه الطالب) تبيّن أننا لا نبالغ فيما نقول.
وكما يقول الدكتور المجد بأن دمشق – تفرّدت بمجد دمشق – آخر من بين بغداد والقاهرة والقدس فقد كانت أسبق هذه المدن الثلاث إلىٰ تأسيس مدارس خاصة بالعلوم، أي الأمكنة التي تتخذ لتلقي علم واحد علىٰ أيدي شيوخ موقوفين عليه، متميزة بذلك عن حلقات المساجد.
(النعيمي (عبد القادر) كتاب: تنبيه الطالب والمدارس في أحوال القرآن والحديث والمدارس – دار الكتاب الجديد – ط2، 1973، ص6 – 8).
الخاتمة
– شكّل نظام الوقف المصدر الأساس لمصادر الإنفاق على المؤسسات التعليمية والخدمات الإجتماعية في بلاد الشام في دولة المماليك البحريّة.
-وفّر الوقف أسباب وجود المعايش في هذه المؤسسات، ومن ذلك إعطاء رواتب منتظمة للمدرسين والطلاب والموظفين الإداريين فيها، وتقديم الخدمة لفئات الصوفية وكفالة الأيتام، ما مكّن هذه المؤسسات من الإستمرار في القيام بعملها.
-قدمت هذه الأوقاف صورة واضحة للوظائف التي كانت موجودة داخل الخانقاوات والزوايا الدمشقية على اختلافها الإدارية والدّينيّة والخدمية.
-تنوعت مصادر الأوقاف في دمشق، فشملت المزارع والقرى والطواحين والمعاصر والأشجار وقطع الأراضي والحوانيت والبساتين.
-خصصت الأوقاف لتقديم الرعاية الصحية للمرضى في البيمارستانات، وخصوصاً مرضى الجذام من حيث الاعتناء بهم وصرف الأدوية لهم.
-لعبت الأوقاف من الناحية الثقافية دوراً مهماً، من خلال الأوقاف التي أوقفت على مختلف المؤسسات التعليمية من مدارس ومساجد وجوامع وخانقاوات وزوايا.
-بيّنت سجلات مدينة دمشق، تنوّع الأوقاف فيها، فشملت المباني والمنشآت سواء أكانت مخصصة لأغراض دينية أو علمية أو صحية.
-يمكننا حسبان الاهتمام بالأوقاف ظاهرة من ظواهر النشاط السّياسيّ الدّينيّ في عصر المماليك البحريّة، إذ أبدى سلاطين المماليك رغبتهم إلى زيادة المنشآت الوقفية لاستمالة فئات الشّعب المختلفة.
المصادر والمراجع
-إبراهيم، عبد اللطيف، دراسات تاريخية في وثائق من عصر الغوري،جامعة القاهرة،القاهرة، 1956.
-أمين، محمد، الأوقاف والحياة الاجتماعية في مصر، دار الكتب والوثائق القومية،القاهرة،2014.
-الحزوري، حسام الدين،الحركة الفكرية ومراكزها في دمشق في عصر المماليك البحريّة،الهيئة العامة السورية،دمشق،2011
-ابن خلدون، المقدمة، دار الشعب، القاهرة، 1985.
-زيادة، نقولا، دمشق في عصر المماليك، مكتبة فلسطين، بيروت،1966
-العبدري، محمد، رحلة العبدري ، دار سعد الدين، دمشق، 1999.
– عشوب، عبد الجليل،كتابالوقف،المكتبة المكيّة، القاهرة،2000.
-أبو غازي، عماد بدر الدين، تطور الحياة الزراعية زمن المماليك الجراكسة،عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة،2000.
-القلقشندي، صبح الأعشى،ج3، المطبعة الأميرية، القاهرة،1913.
-لبنية، بوران ، الخانقاوات والزوايا الدمشقية،الجامعة الأردنية، عمان،2004.
-المقريزي، تقي الدين أبي العباس،الخطط المقريزية، دار الذخائر، القاهرة،2002.
-نجيب، عامر، الحياة الاقتصاديّة في مصر في العصر المملوكي، دار الشروق،2003.
-النعيمي، عبد القادر، الدارس في تاريخ المدارس، ج1، دار الكتب العلمية،بيروت، 1990
عدد الزوار:392