التّوجيه النّحويّ واللّسانيّ للتّحويل بالحذف في الجامع الصّحيح للإمام التّرمذيّ
التّوجيه النّحويّ واللّسانيّ للتّحويل بالحذف في الجامع الصّحيح للإمام التّرمذيّ
هدى عبدالله البريدي[1]
إشراف الدّكتور: بشير فرج
ملخّص البحث
تعدّدت وجوه خدمة اللّغة العربيّة وتكوّنت ضروبها، مما استدعى النّظر فيما استحدثه آخرون من علوم سميت باللّسانيّات، تلك الّتي سيطرت على واقع الفكر اللّغويّ العالميّ، الأمر الّذي استدعى الإقبال على هذه العلوم، وفتح آفاق الفكر لها لمعرفة منزلة العربيّة منها، بعدما بلغت اللّسانيّات أشدّ حالات إشراقها ورقيّها وصدارتها من منظور الفكر العالميّ، فظهرت نظريّات تناولت دراسة اللّغة من جوانب شتّى، وكان من بينها النّظريّة التّوليديّة التّحويليّة لصاحبها تشومسكي الّذي تأثّر بالنّحو العربيّ والنّحويين البلاغيين أمثال سيبويه وعبد القاهر الجرجانيّ، غير أن كلا العلمين اصطبغ بصيغة العصر الذي وضع فيه.
وقام البحث على دراسة التّوجيه النّحويّ واللّسانيّ للتّحويل بالحذف في الأحاديث النّبويّة في الجامع الصّحيح للإمام الترّمذيّ، وأبرز ما توصّل إليه البحث من نتائج أنّ التّحويل بالحذف قد وقع بحذف الرّكن الأساسيّ في الجملة الفعليّة والاسميّة، والرّكن المتمّم، كما وقع بحذف المسند والمسند إليه معًا، وذلك له توجيهه الدّلاليّ، وأكثر ما وقع التّحويل كان بحذف الرّكن الأساسيّ في الجملة الاسميّة للإيجاز، وأنّ عمليّة التّحويل تقوم على افتراض أنّ لكل جملة بنيتين: بنية سطحيّة تتمثّل بالجمل المنطوقة أو المكتوبة، وبنية عميقة تتّصل بالمعنى أو التّأويل الدّلاليّ للجمل، والبنية السّطحيّة قد تتعرّض للحذف كما قد تتعرّض للزيّادة والاستبدال والتّرتيب.
الكلمات المفاتيح: التّحويل، التّوجيه، الدّلالة، البنية العميقة، البنية السّطحيّة.
The syntactic and linguistic guidance for the transformation through omission in the authentic compilation of Imam Al Tirmidhi
Houda Abdullah Al- Braidy
Abstract:
Summary of the Research: The service of the Arabic language has various facets and forms, prompting an exploration into what others have introduced in the field of linguistics. This field has dominated the global linguistic thought, leading to an increased interest in these sciences and expanding the horizons of thought to understand the position of Arabic within them. Linguistics reached its peak and prominence globally, with theories addressing language study from various perspectives. One notable theory is the transformational generative theory introduced by Chomsky, who was influenced by Arabic grammar and rhetorical grammarians such as Sibawayh and Abdul Qahir al-Jurjani. However, both fields were shaped by the context of the era in which they emerged.
This research focused on studying the syntactic and linguistic direction of omission-based transformation in the Prophetic Hadiths in the authentic compilation of Imam Al-Tirmidhi. The key findings indicate that omission-based transformation occurred by deleting the essential components in both verbal and nominal sentences, including the subject, verb, and complement. Additionally, the transformation involved omitting both the possessor and the possessed simultaneously, guided by its semantic direction. The most prevalent form of transformation was the deletion of the essential component in nominal sentences for conciseness. The process of transformation assumes that each sentence has two structures: a surface structure represented by spoken or written sentences and a deep structure connected to the meaning or semantic interpretation of sentences. The surface structure is subject to deletion, addition, replacement, and rearrangement.
Keywords: transformation, guidance, syntactic, linguistic, significance, surface structure, deep structure.
المقدّمة
طرقت النّظريّات اللّغويّة الحديثة أسماع الدّارسين، فأخذوا يقبلون عليها لاستكناه خباياها، ويبحثون في جذورها لمعرفة أصولها، وتاريخ مولدها، وكان من بين هذه النّظريّات النّظريّة التّوليديّة التّحويليّة لصاحبها نوام تشومسكي الّذي يملك من الفكر والحذق ما يكفي لبناء نظريّة عالميّة، شغلت الباحثين للوقوف عند قواعدها ومرتكزاتها، وإمكان تطبيقها على اللّغات الإنسانيّة ولا سيّما اللّغة العربيّة. وما إذا كان صاحب هذه النّظريّة قد تأثّر بالنّحو العربيّ، ويقول الدّكتور مازن الوعر في هذا المضمار، وهو من تلامذة تشومسكي: “لو التفت الغرب المعاصر إلى التّاريخ اللّغويّ التّراثيّ العربيّ، لكان علم اللّسانيّات الحديث في مرحلة متقدّمة عن الزّمن الذّي هو فيه، هذه الحقيقة شاركني فيها عالم اللّسانيّات الأميركيّ نوام تشومسكي خلال حوار كنت قد أجريته معه عام 1982” (الوعر ،1992، ص122).
كما ويرى المتعمّق في دراسة النّحو أنّ معظم القضايا الّتي اشتمل عليها النّحو العربيّ لها ما يقابلها في النّحو التّوليديّ، ولا سيّما قوانين التّحويل الأربعة التي نادى بها النّحويّون العرب وصاحب النّظريّة اللّسانيّة وهي: الحذف والزّيادة والتّرتيب والاستبدال، وهذه الأولى هي صلب دراستنا، وهذا النّوع من التّحويل يقوم على “إخفاء عنصر من عناصر الإسناد الاسميّ أو الفعليّ أو جملة من البنية الظّاهرة الفوقيّة للّغة، وهذه الظّاهرة تشترك فيها اللّغات الإنسانيّة.
من هذا المنطلق استطعت أن أحدّد عنوان دراستي وهو “التّوجيه النّحويّ واللّسانيّ للتّحويل بالحذف في الجامع الصّحيح للإمام الترّمذيّ”.
أسباب الدّراسة: أمّا الأسباب الّتي دفعتني إلى اختيار هذا الموضوع فهي قلّة الدّراسات الّتي تناولت اللّسانيّات على الجملة العربيّة، ولا سيّما الأحاديث النّبويّة باعتبار أنّ السّنّة هي المصدر التّشريعيّ الثّاني بعد القرآن الكريم، ولأنّ الحذف ظاهرة بارزة في اللّغة العربيّة وتضمّنتها كتب اللّغة والبلاغة والنّحو، كما أنّ البحث في النّظريّة التّوليديّة التّحويليّة في هذه اللّغة قليل لإظهار الأشكال الترّكيبيّة المحوّلة بالحذف والكشف عن سرّ الدّلالات المتوارية خلف هذا التّحويل.
أهداف الدّراسة: تهدف هذه الدّراسة إلى تطبيق النّظريّة التّوليديّة والتّحويليّة على الجملة العربيّة الاسميّة والفعليّة والوحدات الإسناديّة، ومعاينة الشّكل التّحويلي لها بالوصف والشّرح والتّفسير في الصّور الواردة في الحديث الشّريف، وبيان التّوجيهات الدّلاليّة لهذه الأشكال المحوّلة بالحذف، ومدى تأثير هذا التّحويل في الجملة العربيّة، ومعناها ومدلولاتها؛ فهذه الدّراسة تكتسب أهمّيّتها من كونها تربط منهجًا لسانيًّا حديثًا وهو النّظريّة التّوليديّة التّحويليّة بالتّراث النّحويّ العربيّ، وإظهار مدى طواعيّة هذه النّظريّة على النّحو العربيّ.
منهج الدّراسة: اقتضت طبيعة الدّراسة اعتماد المنهج التّحليليّ استقراءً وتتبّعًا وتحليلًا، كونها تقوم على دراسة التّراكيب الإسناديّة الأصليّة دراسة مشبعة باللّسانيّات الّتي تبرز ما في الأحاديث النّبويّة من ثراء، فالمنهج الوصفيّ التّحليليّ يهتمّ بدراسة الظّاهرة اللّغويّة ووصفها، ويتعدّى ذلك إلى الرّبط والتّفسير والتّحليل واستخلاص النّتائج، كما لا بدّ من الاستعانة بالمنهج التّوليديّ الّذي يقوم على المعرفة اللّغويّة أي تحليل قدرة المتكلّم على إنتاج جمل لم يسمعها من قبل، والقدرة على فهمها.
وجاء هذا البحث للإجابة عن الإشكاليّة الآتية: ما التّوجيهات النّحويّة واللّسانية للبنى الترّكيبيّة المحوّلة بالحذف في الجامع الصّحيح للإمام التّرمذيّ؟ وهذه الإشكاليّة تفرّغت منها إشكاليّات عدّة، هي:
- إلى أي مدى يمكن الإفادة من آليّات المنهج التّوليديّ التّحويليّ في تحليل الجمل الّتي اعتراها التّحويل بالحذف في المدوّنة؟ وما سرّ الدّلالات المتوارية خلف هذا التّحويل؟
وليكون هذا البحث على صورة فضلى من العمل المجديّ يفرض اتّخاذ الفرضيّات المسبقة الّتي تشقّ طريقًا إلى الكشف عن سرّ الدّلالات المتوارية خلف التّحويل بالحذف من الأحاديث النّبويّة.
الفرضيّة الأولى: إذا كان التّحويل ظاهرة بارزة في النّحو العربيّ وفي المدرسة التّشومسكيّة، فمن المفترض أن تكون اللّغة العربيّة تقبل أي نظريّة لسانيّة غربيّة
الفرضيّة الثانيّة: يؤثّر عنصر الحذف كعنصر تحويليّ في دور الحذف والإسقاط في تحديد المعنى، وبالتّأكيد
قد يكشف عن الدّلالات المتوارية خلف هذا التّحويل.
أوّلا: مرتكزات النّظريّة التّوليديّة التّحويليّة
ارتبط الدّرس اللّغويّ في النّصف الثّاني من القرن العشرين بنوام تشومسكي الّذي شغل الدّراسين المعاصرين، ممّا جعله يتبوّأ مكانة مرموقة من تاريخ اللّسانيّات، منذ أن نشر كتابه البنى التّركيبيّة عام 1957، فتغيّر اتجاه اللّسانيّات من المنهج الوصفيّ المحض إلى منهج جديد يعرف بالنّحو التّحويليّ .
ولد تشومسكي في فيلادلفيا عام 1928م في ولاية بنسلفانيا، درس في المرحلة الجامعيّة علوم اللّغة والرّياضيّات الفلسفيّة، كما تعلّم شيئًا من مبادئ علم اللّغة التّاريخيّ من أبيه الّذي كان يعمل أستاذًا للعبريّة آنذاك، وأدّى تأثير والده فيه إلى دراسته للّسانيّات، أعدّ رسالة الماجستير في العبريّة الحديثة، وحصل على رسالة دكتوراه من جامعة بنسلفانيا، ثمّ درس في معهد ساتشوستس للتّكنولوجيّا، وظلّ يواظب في الدّراسات والأبحاث، ويحقّق النّجاحات حتّى صار أستاذًا جامعيًّا في علم اللّغة واللّغات الحديثة، وعضوًا في عدّة جمعيّات علميّة ولغويّة مثل الجمعيّة الأميركيّة للتّقدّم العلميّ، تأثّر بأستاذه هاريس، وقد وضع تشومسكي النّظريّة التّوليديّة والتّحويليّة الّتي أقامها على أسس علميّة.
اعتبرت هذه المدرسة أنّ القواعد أساس النّظريّة التّوليديّة والتّحويليّة، ذلك لأنّ القواعد الّتي تنظّم النّحو هي قواعد توليديّة وتحويليّة” (الوعر ،1988، ص114).
تميّزت هذه النّظريّة بانفرادها بتغيّر الأسس العقليّة الّتي ارتكزت عليها، فقد عدّت هذه المدرسة اللّغة تمثيلاً داخليًّا مجردًّا ونظامًا عقليًّا بعد أن كانت سابقًا نوعًا من أنواع السّلوك الإنسانيّ، وقد انطلقت التّوليديّة ممّا بدأه البنيويّون، ورأت أنّ اللّغة تتميّز بالإنتاجيّة الّتي بمقتضاها يستطيع المتكلّم أن ينتج عددًا لا متناهيًا من الجمل، وإن لم يسمعها من قبل، “وهذه السّمة الّتي تميّز الإنسان عن الآلات والحيوانات” (علي ،2004، ص83).
وهذا يعني أنّ اللّغة عمليّة ذهنيّة ونفسيّة، وقد أعادت هذه النّظريّة صياغة المكوّنات صياغة رياضيّة، وتناولتها في شكلٍ هرميّ تشجيريّ رأسه الجملة، ونهايته أصغر الكلمات النّحويّة الدّالة على المعنى.
ويرتكز اهتمام التّوليدييّن على قدرة متكلّمي اللّغة السّليقيين على فهم عدد غير محدود من الجمل المختلفة استنادًا على قواعد وأسس نحويّة “قادرة على توليد جميع الجمل الممكنة من النّاحية النّظريّة في تلك اللّغة (تواتي، ص52)
عدّ تشومكسي أنّ المنهج الوصفيّ في التّحليل اللّسانيّ ليس سوى أسلوب آليّ ينحصر عمله في الوصف اللّغويّ فقط، وعلى عالم اللّسانيّات في تحليله اللّغة أن يقترب من المتكلّمين النّاطقين بلغتّهم، وذلك لسير الكفاءة أو القدرة اللّغويّة الفاعلة في الذّهن البشريّ، بحيث يبدأ بصياغة الفرضيّات المؤديّة إلى نظريّة لسانيّة، ثمّ برهنة النّتائج بدقّة، وتثبّت صحّة الفرضيّة إذا أمكن.
انطلقت نظريّة تشومسكي من مسألة علاقة اللّغة بالفكر، وترتكز هذه النّظريّة على النّحو الكليّ الّذي عرّفه تشومسكي بأنّه “فنّ أو تقنيّة تبرز كيف تحقّق لغة ما المبادئ العامّة للعقل الإنسانيّ، وبأنّه العلم الاستنباطيّ المهتّم بالمبادئ العامّة غير المتغيّرة للغة المحكيّة أو المكتوبة” (تشومسكي ،1990، ص15).
واهتمّ هذا النّحو بدراسة الكفاءة اللّغويّة الّتي تعني معرفة المتكلّم الضمنيّة بقواعد لغته القائمة في ذهن كلّ من يتكلّم هذه اللّغة، كما اهتمّ بالأداء وهو الاستعمال الوظيفيّ لهذه القواعد، والكفاية هي الّتي توجه الأداء الكلاميّ، و”إنّ نحو أيّ لغة يفترض أن يكون وصفًا للملكة الذّاتيّة الأصليّة للمتكلّم المثاليّ” (العلوي ،2004، ص44).
وارتكزت نظريّة تشومسكي على البنية العميقة والبنية السّطحيّة، فالبنية العميقة هي العمليّات العقليّة للتّفكير في الجمل قبل تحويلها إلى البنية السّطحيّة، وكان اهتمام تشومسكي بالغًا بالبنية العميقة لأنّ النّظريّة التّشومسكيّة تقوم على الجانب العقليّ للّغة.
والبنية السّطحيّة هي “ما يكون ملموسًا على السّطح من جمل منطوقة أو مكتوبة، بحيث تحوّل العمليّات العقليّة في البنية العميقة إلى بنية سطحيّة ملموسة” (الراجحي ،1979، ص124).
والحدس أساس عند صاحب النّظريّة، فالتّفكير اللّغويّ عند أبناء الجماعة الواحدة يعمل على التّمييز بين الأنواع من الجمل بمقتضى ملكة موجودة لدى النّاطقين بلغتهم، وقد أسمى الاستعمال اللّغويّ المقبول بالجملة النّحويّة، وغير المقبول بالجملة غير النّحويّة، وتكمن أهمّيّة الحدس في كونه “يتيح للباحث الألسنيّ ملاحظة القضايا المثيرة للاهتمام، كما يساهم في استنباط القوانين اللّغويّة” (زكريا ،1982، ص98).
فالتحويل هو “الخروج من الذّهن المجرّد إلى المنطوق، فما دامت في الذّهن فهي توليديّة، وإذا خرجت فإنّها تصبح تحويليّة” (فضل ،2005، ص86)
واللّغة إبداعيّة عند تشومسكي لأنّ المتكلّم قادر على إنتاج عدد لامتناه من الجمل، ويستطيع أن يفهم جملًا لم يسمعها من قبل، واللّغة إبداعيّة لأنّها قائمة على عنصر الابتكار لا المحاكاة والتّقليد، وترى التّوليديّة أنّ الفطرة هي المسؤولة عن اكتساب اللّغة عند الطّفل، وميّزت التّوليديّة بين قواعديّة الجملة ومقبوليّتها، فهناك جمل غير واضحة وغير مفهومة لكنّها يحكم عليها بالصّحّة والقواعديّة، وهي تعرف بالجمل الأصوليّة سواء أكان لها معنى أم لم يكن.
ثانيًا: مفهوم الحذف
الحذف ظاهرة من مظاهر التّحوّيل، وهي ظاهرة لغويّة عامّة تعتري كلّ اللّغات، والتّحويل بالحذف لا يتم عبثًا، إنّما وضع له النّحويّون والبلاغيّون ضوابط وشروطًا، وأهمّها: وجود قرينه دالّة على المحذوف سواء أكانت عقليّةً أم لفظيّةً أم حاليّةً، وأن لا يؤدّي الحذف إلى غموض، وأن يكون المحذوف طرفًا لا وسطًا، وأن لا يكون كالجزء، ولعلّ أهمّها أن يكون الحذف جاريًا على سنن العرب، وألّا يكون عاملًا ضعيفًا.
والتّحويل بالحذف انحراف عن المستوى التّعبيريّ العاديّ، وهو من القضايا المهمّة الّتي عالجتها البحوث النّحويّة والأسلوبيّة والبلاغيّة، وتكمن أهميّته بأنّه لا يورد المنتظر من الألفاظ، إنّما يتطلّب إعمال الفكر لفهم المقصود، وكثر التّحويل بالحذف في اللّغة الأدبيّة والعاديّة، وينبغي ألّا يتبعه خلل في المعنى أو فساد في التّركيب “إذ لا بدّ من أن يتأكّد المرسل من وضوح المحذوف في ذهن المتلقّي وإمكانيّة تخيّله” (حموده ،2004، ص 137).
وهذا ما ذهب إليه ابن جني حيث خصّص بابًا في زيادة الحروف وحذفها، جاء فيه: لا يمكن حذف بعض الحروف في بعض الأحيان، لأنّها دخلت الكلام بضرب من الاختصار، فلو ذهبت تحذفها لوجدتها مختصرًا لها هي أيضًا، واختصار المختصر إجحاف به،… وفي بعض الأحيان ينوب الحرف عن جملة أو عن كلمة، فإذا قلت: “ما قام زيدٌ” فقد أغنت (ما) عن النّفي، وهي جملة من فعل وفاعل”Invalid source specified..
أمّا أغراض الحذف فهي:
- التّخفيف:
وهو غرض أساسيّ لأنّ العرب حذفت كلّ ما تستثقله، وذلك كما ورد عند سيبويه في باب الاستثناء، قال: “هذا باب يحذف المستثنى منه استخفافًا، وذلك قولك (ليس غير)، و(ليس إلا)” Invalid source specified..
وقوله تعالى ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴾ [يوسف/ 29] فقد تم حذف حرف النداء استخفافًا.
- الإيجاز والاختصار:
تميل العرب إلى الإيجاز والاختصار في كلامها إن لم يؤدّ إلى غموض ولا يؤثّر على وضوح المعنى، فيحذف ما يمكن للسّامع أن يفهمه بالقرائن الموجودة مهما كان نوعها، يقول الفرّاء: “إذا كان المعنى معلومًا خرج منه ما يرد الكلام إلى الإيجاز”Invalid source specified..
وقال تعالى:(فإنْ لم تفعلوا ولن تفعلوا) فقد تم حذف المفعول به اختصارًا لوضوح المعنى، فالبنية العميقة لهذا التركيب (لم تفعلوا ذلك ولن تفعلوه).
- الاتّساع:
وهو نوع من الحذف للإيجاز والاختصار، كقوقه تعالى: ﴿واسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [يوسف/82] والبنية العميقة لها (وأسأل أهل القرية).
- التّفخيم والتّعظيم:
وذلك إذا كان المقام لا يناسب ذكر الاسم فيحذف تعظيمًا للمسمّى كما في قوله تعالى ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدت بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الشعراء /22 حتى 28] ففي هذه الآيات جمل محوّلة بحذف المبتدأ والمحذوف فيها لفظة الجلالة (الله)، لتكون البنية العميقة: الله ربّ السّموات والأرض/ قال: الله ربّكم وربّ أبائكم الأوّلين/ قال: الله ربّ المشرق والمغرب، وحذف موسى عليه السلام لفظة الجلالة تعظيمًا وتفخيمًا.
- تحقير شأن المحذوف:
ومثال ذلك قول الله تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة/ 18] والبنية العميقة لها المنافقون صمٌّ بكم ٌعميٌ، ويختص الحذف بالبنية السّطحيّة بحيث يطرأ على البنية الشكلية للتركيب ليصبح أكثر إفادة.
- التّهويل:
قد يفيد الحذف التّهويل كما في قوله تعالى:﴿ لَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ [الأنعام/30]، قال الزمخشري: “جوابه محذوف تقديره ولو ترى لرأيت أمرًا شنيعًا” Invalid source specified..
- الإبهام:
وهو أن تريد إبهام أمر على مخاطبتك فتحذفه، كأن تقول: كنت عند خالد قرأت وسمعت؟ “فيقال ذلك ما رأيت؟ وما سمعت، فتعرض عن ذكر ذلك قصدًا وإبهامًا”.
- التّعميم:
كما في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [يونس/25]. والمقصود بدار السلام الجنة، فالبنية العميقة لهذه الجملة يدعو جميع عباده” فتمّ حذف المفعول به وأطلق الفعل (يدعو) وقيّد الفعل (يهدي) لأنّ الدّعوة عامّة والهداية خاصة، وأفاد التّحويل بحذف المفعول به للدّلالة على العموم.
- الفراغ بسرعة للوصول إلى المقصود:
وذلك في أسلوب التّحذير (النّارَ النّارَ)، لفظة النّار تؤدّي وظيفة المفعول به جملة فعليّة محوّلة بحذف الفعل والفاعل وبنيتها العميقة (احذر النّار)، وحذف الفعل والفاعل لأنّ الوقت يضيق عن ذكر غير المحذّر منه.
10.مراعاة الأسجاع والفواصل:
ويتمّ الحذف مراعاة للأسجاع والفواصل كما في قوله تعالى: ﴿وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾ [الضحى/1/2/3]، هذه الجملة (وما قلى) محوّلة بحذف المفعول به وبنيتها العميقة (وما قلاك)، “فحذف المفعول به لتتحقق المناسبة الصّوتيّة بين أواخر الآيات، لأنّ فواصل الآية في هذه السّورة تقف عند الألف” Invalid source specified..
ثالثًا: التّحويل بالحذف في الجملة الاسميّة وتوجيهه الدّلالي
يكثر هذا النوّع من التّحويل لأن القول لا بدّ له أن يكون من خلال جملة محكيّة، فيحذف جوازًا، ومن أمثلته في الحديث الشّريف ما جاء في كتاب القراءات، وقد روي عن ابن عبّاس قال: “قال رجل يا رسول الله: أيّ العمل أحبّ إلى الله؟ قال: الحالّ المرتحل، قال: وما الحال المرتحل؟ قال الّذي يضرب من أوّل القرآن إلى آخره كلّما حلّ وارتحل”.
الشّاهد في الحديث: “الحالّ المرتحل”، إنّ لفظة (الحال) تعرب خبرًا لمبتدأ محذوف تقديره (أحبّ العمل) أو (هو)، والبنية العميقة لهذا الشّاهد هو (أحبّ العمل إلى الله الحالّ المرتحل)، وقد تمّ حذف المبتدأ من البنية السّطحيّة للحديث وهو حذف اختياري يهدف إلى التّركيز على موطن الفائدة عند الخبر، “وكلّ ما ورد بعد القول مرفوع ولا رافع له فهو خبر المبتدأ محذوف” (الشوا ، 2000، 82).
كذلك الأمر فقد ورد الحذف بغية الإيجاز في قوله “الّذي يضرب من أوّل القرآن إلى آخره، ولم يؤثّر حذف المبتدأ في الشّاهد على وضوح المعنى، وبنية الكلام العميقة (هو الّذي يضرب من أوّل القرآن إلى آخره)، وللإسناد قوانين تركيبية وبلاغيّة، وركنا الإسناد ضروريّان في التّركيب اللّغويّ، وليس كل اسم مرفوع يقع في أوّل الكلام هو المبتدأ، “فإن جيء بالاسم المرفوع في أوّل الكلام بغية الإسناد إليه كان هو المبتدأ، وكان الاسم المرفوع بعده هو المسند وهو الخبر.
- التّحويل بحذف المبتدأ مقدّر باسم الإشارة:
ومن نماذج هذه الصّورة أي التّحويل بحذف المبتدأ المقدّر باسم الإشارة ما رواه أبو هريرة أنّ رسول
الله مرّ على صرّة من طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا، فقال: يا صاحب الطّعام ما هذا؟ قال: أصابته السّماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطّعام حتّى يراه النّاس؟ ثمّ قال: من غشَّ فليس منا”.
الشّاهد في جملة “أصابته السّماء” وهي جملة تحويليّة، حذف منها المبتدأ (هذا) وبنيتها العميقة (هذا الطّعام أصابته السّماء). وقد دلّ على هذا الحذف السّياق الإيجاز، فالمطر أصاب الطّعام، وجاء هذا الحديث معنى الزّجر والنّهي عن الغشّ وتحريمه، وجاء الجواب نتيجة استفسار رسول الله ﷺ عن الطعام المبلل الّذي فسد بسبب المطر عليه، وهذا التّحويل بالحذف للترّكيز على موطن الفائدة وهو الخبر، كما أنّ جملة (أصابته) السّماء جملة محوّلة بتقديم المفعول به على الفاعل لإبراز أهمّيّة المفعول به.
- التّحويل بحذف المبتدأ في أسلوب المدح والذّم:
كما ورد عن جابر أنّ رسول الله ﷺ قال: “نِعم الإدامُ الخلُّ“.
نعم: فعل ماض جامد لإنشاء المدح مبنيّ على الفتح.
الإدام: فاعل للفعل (نعم) مرفوع وعلامة رفعه الضّمّة الظّاهرة على آخره. الخلّ: خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو، وقد جرى التّحويل بحذف المبتدأ من البنية السّطحيّة، وبنيتها العميقة (نعم الإدام هو الخلّ)، وهذا التعبير يتضمّن رفع شأن الممدوح، وفيه فضيلة الحق، وإنّه يسمّى أدمًا، أي فاضل جيّد.
- التّحويل بحذف المبتدأ من جملة جواب الشّرط:
وبرزت هذه الصّورة من التّحويل في باب ما جاء في عذاب القبر من كتاب الجنائز، فقد قال رسول الله ﷺ: “إذا مات أحدُكم فإنّه يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي، فإن كان من أهل الجنّة فمن أهل الجنّة، وإن كان من أهل النّار فمن أهل النّار”.
فقد جرى التّحويل بحذف المبتدأ من جملة جواب الشّرط، وتقديره (مقعده)، والبنية العميقة للترّكيب المحوّل بالحذف (فمقعده من أهل الجنّة) في الجملة الأولى/ و(مقعده من أهل النّار) في الجملة الشرطية الثانية، وكان للتّحويل بحذف المبتدأ في جملة جواب الشّرط توجيهه الدّلاليّ، فالشّرط هو ربط قضيّتين ببعضهما لا تتحقّق الثّانية إلّا بتنفيذ الأولى، فإذا مات العبد عرض عليه مقعده في الآخرة في الصّباح والمساء، فإن كان من أهل الجنّة عرض عليه مقعده ومكانه الّذي أعدّ له في الجنّة، وكذلك فإن كان من أهل النّار رأى مقعده الّذي ينتظره فيها. والملائكة تؤكّد هذه المعاني للميت.
- التّحويل بحذف خبر الحروف النّاسخة:
كان المشركون قد أرادوا شراء جسد رجل منهم اسمه نوفل بن عبدالله بن المغيرة، وكان قد قتل في غزوة الخندق، فقال النّبيّ ﷺ: “لا حاجة لنا بثمنه ولا جسده”،
(لا): نافية للجنس لأنّها تنفي جنس الاسم نفيًا قاطعًا، و(حاجة) اسم لا مبني على الفتح في محل نصب، وخبرها محذوف تقديره (كائنة أو مشروعة)، وكذلك وقد وقع التّحويل بحذف خبر (لا) النّافية للجنس لدلالة الجار والمجرور عليه، وله غرضه الدّلالي بنفي بيع جيفة المشرك وأخذ ثمنها لأنّها ميتة ولا يجوز تملّكها ولا أخذ عوض عنها.
- التّحويل بحذف الفعل الناقص واسمه:
روى عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله ﷺ: “بلّغوا عنّي ولو بآية”، لفظة (آية) هي خبر كان المحذوفة مع اسمها، و(لو): أداة شرط وهي حرف امتناع لامتناع، ولفظة (آية) تؤدّي وظيفة الخبر في جملة اسمية منسوخة ومحوّلة بحذف الاسم مع الفعل النّاقص، والبنية العميقة هي (ولو كان التّبليغ آية. وقد يحذف فعل اسم الفعل النّاقص كما في قول قتيبة قال: “نهاني رسول الله ﷺ أن أبيع ما ليس عندي”. والشاهد هنا في قوله (ليس عندي) فقد جرى تحويل بحذف اسم ليس، وبنيتها العميقة (ليس موجودًا عندي)، كما أنّ الجملة منسوخة ومحوّلة بحذف الخبر المقدّر، وتقديره كائن وهذا دليل على تحريم بيع ما ليس في ملك الإنسان ولا داخلًا تحت مقدرته.
- التّحويل بحذف خبر المبتدأ في الجملة الاستفهاميّة:
روى جابر بن عبدالله رضى الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: “هل لكم أنماطٌ؟ فالأنماط هي بسط لها حمل تجعل على الهودج ومفردها نمط، والشاهد هنا قوله ﷺ(هل لكم أنماط) أصلها التوليدي (أنماط موجودة لكم) مؤلفة من مبتدأ وخبر وجار ومجرور، لكن طرأ عليها تحويل بحذف الخبر وزيادة حرف الاستفهام، وهو استفهام إنكاري لأنّ السائل يذكر بسؤاله اتخاذ هذه الأنماط، كما جاء الحذف ليفيد الإيجاز، والبنية العميقة لهذه الجملة المحوّلة (هل أنماط موجودة لديكم؟).
- التّحويل بحذف خبر الأفعال النّاقصة:
ومن هذه الصّورة ما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله ﷺ “العمرة إلى العمرة يكفّر ما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة” والشّاهد هنا (ليس له جزاء)، أصل الجملة التّوليديّة (جزاء حاصل له)، طرأ عليها تحويل بالزّيادة فدخلت ليس لغرض النّفي، كما طرأ عليها تحويل بحذف خبر ليس، والبنية العميقة لهذا التّركيب (جزاء حاصل له)، وقد دلّ على هذا الحذف ما تعلّق به من جار ومجرور، فجزاء المرء الجنّة لأنّ العمرة تكفّر عن سّيئاته حتّى يقوم بعمرة أخرى، والحج المبرور جزاء صاحبه الجنّة.
- التّحويل بحذف الخبر بعد لولا:
روي عن الطفيل بن أبيّ بن كعب أن ّرسول الله ﷺ قال: “لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار” ولهذا الإسناد عن النّبيّ قال: “لو سلك الأنصار واديًا أو شعبًا لكنت مع الأنصار”، لولا: حرف امتناع لوجود، الهجرة: مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضّمّة الظّاهرة، ولقد جرى تحويل بحذف خبر المبتدأ بعد لولا وجوبًا تقديره حاصل أو موجود، وخبر لولا عامّ وليس خاصًا، ولهذا الحذف توجيهه الدّلاليّ هو لزوم حذف الخبر لعلّة قيام العلم به وطول الكلام بالجواب. وفي هذا الكلام ثناء للأنصار في دينهم لولا ما يمنعه من الهجرة التي لا يجوز تبديلها.
رابعًا: التحويل بالحذف في الجملة الفعليّة في الجامع الصّحيح للإمام التّرمذيّ وتوجيهه الدّلاليّ
- التّحويل بحذف الفاعل في الجملة الفعلية:
تمّ تحويل الفاعل بالاضمار والحذف، فكان ضميرًا مفردًا مذكرًا للمخاطب ومثال ذلك ما رواه أبو ذرّ قال: قال رسول الله ﷺ: اتّق الله حيث ما كنت، وأتبع السّيّئة الحسنة تمحُها، وخالق النّاس بخلق حسن”. في هذا الحديث ثلاثة شواهد، بحيث ورد فعل الأمر الّذي يعدّ فاعله محوّلًا إجباريًا، والأصل التّوليدي (اتّقى الرّجل الله، وأتبع الرّجل السّيئة الحسنة، وخالق الرّجلُ النّاسَ بخلق حسن)، هذه الجمل التّحويليّة محوّلة من الأفعال المضارعة (يتّقي، يتبع، يخالق) لأنّ فعل الأمر يصاغ من الفعل المضارع، كما تمّ حذف الفاعل وجوبًا، وجاء هذا الحذف لإفادة الوعظ والإرشاد والتّوجيه، وهذا الأمر يفيد الوجوب، “والواجب هو طلب فعل الشّيء على وجه الحتم، والالتزام”، (نجم ،2004، ص118).
وقد يخرج الأمر عن وظيفته الأساسيّة ليفيد وظائف أخرى تعرف من سياق الكلام، وهذا ما سمّاه البلاغيّون “خروج الأمر عن معناه إلى معنى آخر” (عباس ،1992، ص150).
وذلك كما جاء في الأمثلة الثلاثة التي ذكرناها في الحديث، فلا يقتصر الأمر على وجوب تنفيذ ما طلبه رسول الله ﷺ، إّنما تعدّى الوجوب إلى معنى الوعظ والتّوجيه، وإنّ الضّمير المستتر وجوبًا (أنت) في جملة الأمر الّذي يدلّ على الفاعل المحذوف وجوبًا يعطي توكيدًا لهذا الوعظ والإرشاد، فتقوى الله واجبة في السّرّ والعلانية، ومن تاب إلى الله توبة نصوحًا فإنّه يقطع بقبول توبته كما يقطع بقول إسلام الكافر، كما لا تتمّ التّقوى إلّا بالخلق الحسن في معاملة النّاس، فهذا الكلام يجمع بين حقّ الله وحقّ عباده.
وروى أبو هريرة قال: “قال رسول الله ﷺ: أَدّ الأمانة َإلى منِ ائْتمنَك، ولا تَخُنْ مَن خانكَ”.
خرج فعل الأمر “أدّ” عن معناه الأصليّ الذّي يفيد وجوب القيام بالفعل، وتعدّاه إلى الوعظ والإرشاد، والأصل هو (يؤدّي الرّجل الأمانة)، ولكنّ بتحويله إلى فعل الأمر تمّ حذف حرف العلّة لأنّه فعل معتلّ ناقص، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا، تقديره أنت، والأمانة مفعول به للفعل (أدّ) منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة.
كما وجاء الفاعل مضمرًا مفردًا مذكّرًا للمتكلّم. وقد ورد عن عبد الرحمن بن يزيد قال: قيل لسلمان: قد علّمكم نبيّكم ﷺ كلّ شيء، حتّى الجزاءة؟ فقال سلمان: أجل، نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول أو أن نستنجي باليمين، أو أن يستنجي أحدنا بأقلّ من ثلاثة أحجار، وأن نستنجي بترجيع أو بعظم”.
نلمح في هذا الحديث أنّ الفاعل للفعل (نستنجي) محوّل بالإضمار في البنيّة العميقة وتقديره (نحن) وهو يعود إلى سلمان وجماعته خاصّة، وإلى المسلمين عامّة، وهذا الفاعل دلّ عليه الفعل (نستنجي) لأنّه خاصّ بالنّاس، و”أغنى عن ذكره استحضاره في الذّهن لدلالة الفعل عليه، مجرّد أن ذكر هذا الفعل ينصرف الذّهن إلى فاعله، لأنّه لا يصلح إلّا له” (الشوا ، 2000، ص132).
- التّحويل بحذف الفعل في الجملة الفعليّة في بنية العطف:
وقد يحذف الفعل في بنية العطف، إذ روى أنس بن مالك أنّ رسول الله ﷺ كان يقول: “اللّهمّ لا عيش إلا عيش الآخرة فأكرم الأنصار والمهاجرة“. في هذا الحديث نجد أنّ الفعل مقدّر محوّل بالحذف معطوف بالأمر على الجملة السّابقة (أكرم الأنصار)، فتمّ حذف الفعل قبل الاسم المعطوف ( المهاجرة) تجنّبًا للتّكرار، وتعدّ هذه الوظيفة وظيفة جماليّة وصوتيّة لها علاقة بموازنة الفاصلات في الشّاهد من جهة، ووظيفة دلاليّة، وحذف الفعل المحوّل بالحذف المعطوف (أكرم) بعدما ذكره صراحة، كأنّ طلب إكرام الأنصار يؤدّي حتمًا إلى طلب إكرام المهاجرة، وقد دلّ الحرف السّابك العاطف (الواو) إلى إخفاء الفعل المحوّل بالحذف في البنية العميقة، وفي هذا الشّاهد حذف الفاعل المضمر وجوبًا تقديره أنت، ويعد الفعل (أكرم) محوّلًا من الفعل المضارع (يكرم).
- التّحويل بحذف المفعول به في الجملة الفعليّة:
روى أنس بن مالك قال: “خرّ رسول الله ﷺ عن فرس فجحش، فصلّى بنا قاعدًا، فصلينا معه قعودًا، ثمّ انصرف فقال: إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به، فإذا كبّر فكبّروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربّنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلّى قاعدًا فصلّوا قعودًا أجمعون”.
الشّاهد في قوله ﷺ: “وإذا رفع فارفعوا” والبنية العميقة، إذا رفع رأسه فارفعوا رؤوسكم، ولقد جرى تحويل بحذف المفعول للفعلين (رفع، ارفعوا)، وجاء هذا الحذف للإيجاز لأنّ المقام الّذي قيلت فيه يضيق عن الذكر والإسهاب رغم أنّ المحذوف مفهوم من قرينة الحال، ويحمل هذا الحديث معنى إرشاد المأمومين إلى الحكمة من جعل الإمام يُقتدى به في الصّلاة، وفيه وجوب متابعة المأموم لإمامه في التّكبير والقيام والقعود والسّجود والرّكوع.
- التّحويل بحذف الجار والمجرور في الجملة الفعليّة:
روى أبو هريرة أنّ النّبيّ ﷺ قال: “انتدب الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي، أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة، أو أدخله الجنّة، ولولا أن أشقّ على أمّتي ما قعدتُ خلف سريّة، ولوددت أنّي أقتل في سبيل الله ثمّ أحيا، ثمّ أقتل ثمّ أحيا، ثمّ أقتل”.
الشّاهد في قوله ﷺ “أن أرجعه بما نال: فقد طرأ تحويل بحذف الجار والمجرور (إلى بيته)، لذلك حذف الجار والمجرور في جملة (لولا أن أشقّ على أمّتي ما قعدت) وقد جاء هذا الحذف من قبيل الإيجاز، وهذا الإيجاز كان بمثابة النّسق الذي تسير عليه كونه خاصيّة فنيّة في الحديث الشّريف، وحذف الجار والمجرور لسهولة الإهتداء إليه من السّياق (فهمي ، 2003، ص61-62).
- التّحويل بحذف المضاف إليه في الجملة الفعليّة:
روت أمّ سلمة قالت: كان النبّيّ ﷺ “يوتر بثلاث عشرة ركعة، فلما كبر وضعف أوتر بسبع”. فالشّاهد بقوله “أوتر بسبع”)، فقد طرأ تحويل بحذف المضاف إليه من الجملة الفعليّة، لكنّه عوّض عنه بالتّنوين، وحكم العدد المفرد (سبع) أن يذكّر مع المعدود المؤنّث، لذا تمّ تقدير المضاف إليه المحذوف (ركعات) لأنّ مفردها (ركعة) وهي لفظة مؤنّثة، والبنية العميقة (بسبع ركعات)، ويقول ابن يعيش في شرح المفصّل “حذف المضاف إليه قليل إذا ما قورن بالمضاف، وذلك لأنّ الغرض من المضاف إليه التّعريف والتّخصيص، وإذا كان الغرض منه ذلك وحذف كان نقضًا للغرض وتراجعًا عن المقصود” (ابن يعيش ،2001، ص29).
وقد يكون التّحويل بحذف التّمييز ولا سيّما بعد العدد غير المفرد، إذ روى أبو هريرة قال: قال رسول الله ﷺ “لا تقدموا الشّهر بيوم ولا بيومين إلّا أن يوافق ذلك صومًا كان يصومه أحدكم، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غُمَّ عليكم فعدّوا ثلاثين ثمّ أفطروا”
الشّاهد في قوله (عدّوا ثلاثين ثمّ أفطروا) والبنية العميقة ثلاثين يومًا، فقد طرأ تحويل بحذف التّمييز من البنية السّطحيّة بعد العقد (ثلاثين)، وقد دلّ عليه سياق الكلام، وربما كان الحذف يفيد التّنبيه من أنّ الصّيام فرض شهرًا كاملًا أي ثلاثين يومًا. وجاء في الارتشاف “يجوز حذف التّمييز إذا قصد إبقاء الإبهام، أو كان في الكلام ما يدلّ عليه” (ابن حيّان ،1988، ص136)
نتائج البحث
– لقد وقع التّحويل بحذف المسند إليه في الجملة الفعليّة والاسميّة في الجامع الصّحيح للإمام التّرمذيّ، وأكثر ما وقع كان بعد جملة مقول القول للتّركيز على موطن الفائدة وهو الخبر. كما وقع التّحويل بحذف العنصر المتمّم كالمفعول به والمضاف إليه والاسم المجرور…. لأغراض بلاغيّة.
– يقترب مفهوم التّحويل في النّحو التّحويليّ التّوليديّ من مفهومه في النّحو العربيّ، إلّا أنّ النّحو العربيّ قام على القياس والملاحظة، بينما يقوم عند التّحويليّين على القوانين التي يجب تطبيقها بصرامة ودقّة، كما أقاموا نظريتهم على الفطرة، وحدس المتكلم، وعمليّات الحوسبة في الدّمج.
– إنّ عمليّة التّحويل تقوم على افتراض أنّ لكلّ جملة بنيتين، بنية سطحيّة تتمثّل بالجمل المنطوقة والمكتوبة، وبنية عميقة تتّصل بالمعنى أو التّأويل الدّلاليّ للجمل، والبنية السّطحيّة قد تتعرّض للحذف كما قد تقع فيها الزّيادة والتّرتيب والاستبدال.
المراجع والمصادر
- ابن حيّان. (1988). ارتشاف الضّرب من لسان العرب. القاهرة: مكتبة الخانجي.
- ابن يعيش. (2001). شرح المفصل. ط1. بيروت: دار الكتب العلميّة.
- ابن تواتي، تواتي. بلا تاريخ. المدارس اللسانيّة في العصر الحديث ومناهجها في البحث.
- تشومسكي، نعّوم. (1992). اللغة ومشكلات المعرفة. ط1. ترجمة د.حمزة بن قبلان المزنبي. دار توبقال الدّار البيضاء.
- حمّودة، طاهر سليمان. (2004). ظاهرة الحذف في الدرس اللغوي. مصر: الدّار الجامعيّة للطباعة والنشر.
- الرّاجحي، عبده. (1979). النّحو العربيّ والدّرس الحديث بحث في المنهج. بيروت: دار النهضة.
- زكريا، ميشال. (1982). الألسنيّة التوليديّة التّحويليّة وقواعد اللغة العربيّة. ط1. بيروت: المؤسسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر.
- سيبويه. (1988). الكتاب. ترجمة عبدالسّلام هارون. مصر: مكتبة الخانجي.
- الشّوا، أيمن عبدالرّزاق. (2000). الحذف في القرآن. مصر: رسالة ماجستير جامعة عين شمس.
- العلوي، شفيقة. (2004). محاضرات في المدارس اللسانيّة المعاصرة. ط1. بيروت، لبنان: أبحاث للتّرجمة والنّشر والتّوزيع.
- عبّاس، فضل. (1992). البلاغة فنونها وأفنانها. ط3. عمّان: دار الفرقان.
- علي، محمد يونس. (2004). مدخل إلى اللسانيّات. ط1. لبنان: دار الكتاب الجديد المتحدة.
- فضل، عاطف. (2005). مقدمة في اللسانيات. ط1. عمّان: دار الرّازي للنّشر والتّوزيع.
- فهمي، سوزان محمد فؤاد. (2003). شبه الجملة دراسة تركيبيّة. القاهرة: دار غريب.
- نجم، علاء الدّين. (2004). معجم مصطلحات أصول الفقه. ط1. الرّياض: مكتبة الرّشد.
- الوعر، مازن. (1988). قضايا أساسية في علم اللسانيات. ط1. دمشق: دار طلاس للدّراسات والتّرجمة والنّشر.
- الوعر، مازن. (1992). صلة التراث اللغوي العربي باللسانيات. مجلّة التّراث العربي العدد 48. سوريا: اتحاد الكتّاب العرب.
[1] جامعة بيروت العربيّة – قسم اللّغة العربيّة Beirut Arab University – Department of Arabic Language
عدد الزوار:327