أبحاثاللغة والأدب والنّقد

الحُبّ في شعر الأسر عند أبي فراس

الحُبّ في شعر الأسر عند أبي فراس

رقية مراد

مقدمة

ما أكثر الشّعراء الذين حُسبوا، وما أكثرر الأشعار التي قيلت في الأسر! فبدّدت بنور توهّجها ظلام الأسر والحبس الدّامس، وتنسّمت قوافي تلك الأشعار نسائم الحريّة، وخرجت من غياهب الحبس ودياجيرها، لتصبح تاجًا مرصّعًا على هامة الخلود، وقلادة حرّة في صدر الزّمان.

ويبقى الحبّ وذكر الحبيبة الأكثر تأثيرًا لأنّ الشّاعر في الأسر بعد فراق حبيبته يشعر بآلام شديدة في قلبه نتيجة الافتراق العاطفيّ.

ونحن عندما نتحدّث عن الحبّ في الأسر وعن الشّعراء وقصائدهم في الحبّ التي دبّجوها في غياهب السجّون، والأسر لا بدّ أن نتذكّر جميعًا قصيدة أبي فراس الحمداني الرّائعة “أراكَ عَصِيّ الدّمعِ” تأبى الدّمعة أن تنزل من عين العاشق الأسير ولكنّ قريحته الفيّاضة التّي لا تعرف حدودًا للعطاء أمطرت وابلًا من الحنين والعتاب.

أبو فراس الحمداني الحارث بن سعيد بن حمدان الثّعلبيّ الربعي أمير، شاعر، فارس وهو ابن عم ناصر الدّولة وسيف الدّولة  بني حمدان، ولموهبته الشعرية الإبداعيّة وصفه الثعالبيّ: “كان فرد دهره وشمس عصره أدبًا، وفضلًا وكرمًا ومجدًا وبلاغةً وفروسيةً”.

 

معالم الفخر والحبّ عند أبي فراس

الحبّ مشاعرٌ موجودة منذ القِدم، يولد الإنسان وتولد معه هذه المشاعر فيبدأ بحبّ نفسه فيحاول بصوته تأمين ما تحتاجه نفسه. و الشّاعر أبو فراس ابن البيئة الحمدانيّة قد بدا حاليًّا حبّه لنفسه ومدحه لِنَسَبه وفخره بهذا النّسب، فهذا ابن عائلة حاكمة عريقة في العصر العبّاسيّ. وقد عبّر عن فخره قائلًا:

أُولَئِكَ أَعمَامي وَوالِديَ الّذي                        حَمَى جَنَباتِ المُلكِ وَ المُلكُ شاغرُ

بحيثُ نساءُ الغادرينَ طَوالِقٌ                       وحَيثُ إِماءُ النّاكثينَ حَرائرُ

لهُ بسُلَيمٍ وقعةٌ جاهليّةٌ                              تُقِرُّ بها فَيدٌ و تشهَدُ حاجِرُ

وَأذكَتْ مَذاكيهِ بِسَرحٍ وَأرضِها                       منَ الضّربِ نارًا جمْرُها مُتطايِر

شَفَتْ منْ عُقَيلٍ أنفُسًا شفّها السُّرى                 فَهَوّمَ عَجلانٌ وَنوّمَ ساهِرُ

وَأوّلُ منْ شَدَّ المَجيدُ بِعَينِهِ                         وَأوّلُ منْ قّدّ الكَمِىُّ المُظاهِرُ

غَزا الرّومَ لَمْ يقصِدْ جوانِبَ غِرّةٍ                    وَلا سبَقَتهُ بِالمُرادِ النّذائِرُ([1])

ويقولُ في قصيدة أخرى و يشير إلى نسبه في شعره˛ فيفتخر بنسبه التّغلبيّ العربيّ الأصيل، قائلًا: (من الكامل)

حمدانُ جدّي خيرُ من وَطئ الثّرى                 وأبي سعيدٌ في المكارِمِ أوحَدُ

أعلى لنا لقمانُ أبياتِ العُلا                         وَأنافَ حَمدانٌ وشيّدَ أحمَدُ

يُعطي إذا ضَنّ السّحاب تَكرّمًا                     ويُجيرُ إن جارَ الزّمان الأنكدُ([2])

فلننظر إلى هذا الفخر وهو في أسره، فهو يتعالى فوق الآلام، ونفسه الأبيّة لا تقبل الضّيم والقيود، وقد كان يدخل المعارك الضّارية بحسامه، فهو مُتفرّد عن فرسان عصره لا يتخاذل في الدّفاع عن أعراض قومه، والعُلا مقرونٌ بفروسيّته، ودائمًا ما نجده يحلّق في فضاءات العزّة و الشّموخ فيقول: (من الطّويل)

مَتى تُخلفُ الأيّامُ مثلي لكم فتى           طَويلَ نجادِ السيف رَحبَ المقلّدِ

متى تلدُ الأيّامُ مِثلي لَكُم فتىً              شَديدًا على البأساءِ غَيْرَ مُلهّدِ

فَإنْ تَفْتَدُوني تَفْتَدوا أشرفَ العُلا           وَأسرعَ عَوّادٍ إليها معوّدِ

فإنْ تَفْتَدُوني تَفْتَدوا لِعُلاكمُ                 فتىً غيرَ مَرْدُودِ اللّسان أواليدِ

يُطاعِنُ عَنْ أعراضِكُمِ بِلِسانِهِ              وَيضْرِبُ عَنْكُمْ بِالحُسامِ المُهنّدِ[3]

 

  • حُبّ الأمّ

لقد اشتهر أبو فراس بحبّه لأمّه و شوقه إليها، ففي الأسر كان دائمًا يظهر لنا لوعته و حزنه على أمّه، فهو لا يهاب الموت بل يخاف على حزن تلك العجوز التي يلتهب فؤادها حرقة على ولدها الأسير، ويظهر ذلك من خلال قوله: (من مجزوء الكامل)

لَوْلا العَجوزُ بمَنبِجٍ                ما خِفْتُ أسبابَ المَنيّهْ

وَلَكانَ لي، عمّا سَأَلـ              تُ منَ الفِدا، نفسٌ أبيّهْ

لكنْ أردتُ مُرادَها،                وَلوِ انجذبتُ إلى الدّنيّهْ

وأرَى مُحاماتي عَلَيْـ               ها أنْ تُضامَ منَ الحَميّهْ

وحاول تخفيف معاناتها بقصيدة أرسلها لأمّه الكليمة الحزينة على أسره قائلًا: (من المنسرح)

يا أيّها الرّاكبان هَلْ لَكُمَا          في حَمْلِ نَجْوَى يَخِفُّ محملها

قُولا لها: إنْ وَعَتْ مَقالَكُما         وَإنّ ذِكري لها لَيُذْهلَها

يا أُمّتاهُ هذه مَنازِلُنا               نَتْرُكُها تَارَةً و نَنْزِلُها

يا أمّتاهُ هذه مَوارِدُنا               نَعلّها َتارَةً و نُنهَلُها

أَسلمَنا قومُنا إلى نُوَبٍ            أيسَرُها في القلوبِ أقتلُها

واستبدلوا بعدَنا رِجالَ وغًى        يَوَدّ أدنَى عُلايَ أمثَلُها([4])

نرى الشّاعر في هذه الأبيات قد استوقف الرّكبان وحمّلهم شوقه وحنينه، وقد عمل جاهدًا لتخفيف حزن والدته على بعاده، وحاول في الوقت عينه التّلميح لسّيف الدّولة الذي تركه في الأسر.

وعندما سمع بمرض والدته وتقييد البطارقة وهو بخرشنة فيشكو علّة أمّه بالشّام وابنها الّذي يحب أن يكون معها بأيدي العدا، وأكثر ما أمرضها همّها في أسره وإذا سكن ألمها، ومن أين له السّكون تتذكّره فتنزعج وتقلق.

ونراه يناجي أمّه بأن لا تجزع بل يطلب منها أن تتحلّى بالصّبر وتكون ثقتها بالله قويّة فالحوادث الجَلَل دائمًا ما تحمل في طيّاتها خيرًا خفيًّا، فخير الوصايا الصّبر، وهو حلّها الوحيد، وهذه وصيّة سيدنا يعقوب “فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون” ويناديها بقوله: (من مجزوء الكامل)

يا أّمّتاه لا تحزني وَثقي بفَضلِ اللهِ فيَّهْ
يا أمّتاه لا تيأسي لله ألطافٌ خَفيَّهْ
كَمْ حادثٍ عنّا جَلا هُ وكَم كفانا مِنْ بَليَّهْ
أوصيكِ بالصّبر الجَميـ لِ فإنّه خيرُ الوصِيّهْ

وفي الحنين إلى الأمّ لا بدّ من ذكر الرّثاء الذي كتبه فيها، فقد ماتت حسرة عليه، وهو وحيدها و تعب أيّامها، وقد غلبت على هذه الأبيات عاطفة التّحسّر على الأمّ التي رحلت وهو في الأسر فقال: (من الوافر)

أيا أمَّ الأسيرِ سَقاكِ غَيْثٌ                  بكرهٍ مِنْكِ ما لقي الأسيرُ

أيا أمَّ الأسيرِ سقاكِ غَيْثٌ                  تَحيّرَ لا ُيقيمُ ولا يسيرُ

أيا أمَّ الأسيرِ سقاكِ غَيْثٌ                  إلى من بالفدا يأتي البَشيرُ

أيا أمَّ الأسيرِ لمن تُرَبّى                   وقّدمْتُ الذّوائبُ والشُعورُ ([5])

وقال:

 

يا حسرةً ما أكادُ أحمِلُها                   آخِرُها مزعجٌ وأوّلها

عليلةٌ بالشّامِ مُفردةٌ                        باتَ بأيدي العِدا معلّلهُا

تُمسِكُ أحشَاءَها على حُرَقٍ                تُطفِئُها والهُمومُ تُشْعِلُها

وإذا اطْمئّتْ وأين أو هَدأتْ                عَنّت لها ذُكرَةً تُقَلْقِلٌها

تسألُ عنّا الرٌّكبانَ جاهدةٍ                  بأدمعٍ ما تكادُ ُتُمْهِلُها

لقد ظهر جليًّا تعلّق أبي فراس بسيف الدّولة بقصائد كثيرة كقوله : (من مجزوء الكامل)

هَلْ للفَصاحَةِ و السّما                     حةِ والعُلى عنّي مَحيدُ

إذ أنتَ سيّدي الّذي                       رَبّيْتَني وأابي سعيدُ

في كلّ يومٍ أستفيـ                         دُ من العَلاءِ وأستزيدُ

ويزيدُ فِيَّ إذا رأيْـ                   تُكَ في النَّدى خُلُقٌ جَديدُ([6])

فقد كتب هذه الأبيات عند قدوم سيف الدّولة إلى منبح ذكر فيها أبو فراس سبب حبّه الشّديد لسيف الدّولة، فهو الذي حضنه وعلّمه، فكانت مجالس سيف الدّولة كلّها أدباء ومفكّرين، ومجالسه يعمّها الأدب والشّعر. وتعلّم منه فنون القتال فأصبح فارسًا لا يشقّ له غبار في ميداني المواجهة العسكريّة و المواجهة الأدبيّة([7]).

وقال في مدح سيف الدّولة أيضًا : (من الطويل)

فَلا تُلزِمنّي خطّةً لا أُطِيقُها                فَمَجْدُكَ غَلّابٌ و فَضْلُكَ باهرُ

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فَخري وَفَخْرُكَ واحدًا           لَما سَارَ عَنّي بالمَدائحِ سائرُ

وَلكنّني لا أُغفِلُ الَقولَ عَنْ فَتًى            أُساهِمُ في عَلْيائِهِ وأُشاطِرُ

وَعَنْ ذِكْرِ أَيّامٍ مَضَتْ وَمَواقفٍ             مَكَاني فيها بَيّنُ الفَضلِ ظَاهِرُ

وهذا المدح نابع عن حبٍّ حقيقيّ، فهو لا يطمع بمال أو جاه، فهو شريكه في ذلك، لكنّه رأى فيه خير نموذج للملوك، لذا يعجز الّلسان عن وصفه، فسيف الدّولة صاحب الفضل الّذي يترفع على كلّ مدح و فخره هنا بسيف الدّولة لأنّه يرى فيه القدوة السّنيّة.

إنّ سيف الدّولة بنظر أبي فراس سيّدٌ لن يأتي بمثله الزّمن لا جودًا ولا كرمًا ولا أدبًا، فكما، نعلم فإنّ سيف الدّولة كان يملك جرأة عظيمة دفعته لغزو الإمبراطوريّة البيزنطيّة أكثر من مرّة، وهو في الخامسة والعشرين من عمره فانتصر عليهم، واستولى على سرير الدمستق و كرسيّه([8]).

وقد قال فيه أبو فراس: (من المتقارب)

أيا سيّدًاعَمّني جُودُهُ               بِفَضلِكَ نِلْتُ السَّنا و السّناءَ

وَكَمْ قَدْ أتيتكَ مِنْ لَيلةٍ             فَنِلْتُ الغِنَى وَسَمعتُ الغِناءَ([9])

ورغم كلّ التّعلّق الّذي يربط أبو فراس بسيف الدّولة إلّا أنّه عندما سُجن كانت قصائده يخيّمُ عليها العتاب لسيف الدّولة، فقد تركه في الأسر وهو يعلم بطولاته ومن ذلك قوله: (من الطّويل)

وَمَا كُنْتُ أخشَى أَنْ أَبيتَ وَ بَيْنَنا                  خَليجانِ وَ الدّربُ الأشمُّ وآلِسُ

وَلَوْ أنّني أستَصحِب الصَّبْرَ ساعةً                 وَلي عَنْكَ مَنّاعٌ وَدُونَكَ حَابِسُ

يُنافسنُي فيكَ الزّمانُ وأهلُهُ                          وكلّ زمان لي عليكَ مُنافسُ

شَريتُكَ من دَهْري بذي النّاس كُلُّهمْ                 فَلا أنا مَبْخوسٌ ولا الدّهْرُ باخِسُ

وَمَلّكُتكَ الّنفسَ النّفيسةَ طائِعًا                       وَتُبذَلُ لِلمَولَى النّفوسُ النّفائِسُ([10])

ومن أجمل قصائد العتاب تلك الّتي بثّ فيها أبو فراس أعلى مراتب الحبّ لسيف الدّولة، فهو يحمل بين طيّاتِ قلبه أصدق معاني الحبّ وأصفاه، فسيف الدّولة مأواه وسنده ولو ضمّه بين ضلوعه لأورق، وهذه الصّورة الشّعرية تحمل عتابًا فلا أحد سيحبّ سيف الدّولة كما أحبّه أبو فراس، وثباته في هذا الحبّ دليل صدقه، فكتب إليه بسبب تأخّره في الإفتداء: (من الطّويل)

تَنكّرَ سَيْفُ الدّين لَمّا عَتَبْتُهُ               وَعَرّضَ بي تَحْتَ الكَلامِ وقَرّعَا

فَقولا لهُ مِنْ أَصْدَقِ الوِدّ أَنّني              جَعَلْتُكَ مِمّا رابَني الدّهر مَفْزَعا

لو أنّني أَلنَنْتُهُ في جَوانِحي                لَأَوْرَقَ ما بين الضّلوعِ وَفَرّعَا

فَلا تَفْتَرِ بالناس، ما كُلّ مَنْ تَرَى          أَخُوكَ إذا أوضَعْتَ في الأمر أوضَعَا([11])

ولعلّ من أجمل ما كُتب في العتاب في الشّعر العربيّ هو المنسوب إلى أبي فراس الذي وجّهه إلى ابن عمّه سيف الدّولة، فمن أسمى مراتب الحبّ أن تمنح المحبوب مكانةً توازي جميع المخلوقات، فأبو فراس تمنّى لو أنّ علاقته بكلّ الدّنيا خراب وعلاقته بسيف الدّولة عامرة بقوله : (من الطويل)

فَليتُكَ تَحْلو والحَياةُ مَريرةٌ                  وَلَيْتُكَ تَرْضَى والأنامُ غِضَابُ

وَلَيْتَ الذي بَيْني وَبَينكَ عَامِرٌ              وَبَيْني وَبَيْنَ العاَلمين خَرَابُ

إذا صَحّ مِنْكَ الوِدُّ فالكُلُّ هَيّنٌ             وَكُلّ الذي فَوْقَ التُّرابِ تُرابُ

ويحاول استعطاف سيف الدّولة فيعاتبه ويقول له: جاءتك تريد ردّ ولدها الوحيد فكيف لك أن تغفلها  فأنت أملها الوحيد فيقول له:

جَاءتْكَ تَمتاحُ رَدّ واحدِها                  يَنتظِرُ النّاسُ كَيْفَ تُقْفِلُهَا

سَمْحتَ منّي بِمُهجةٍ كَرُمَتْ                أَنْتَ على يَأسِها مُؤمّلُها

إنْ كُنْتَ لَمْ تَبْذُل الِفداءَ لَهَا                فَلَمْ أَزَلْ في رِضَاكِ أبْذُلَها

تِلكَ المَودّاتُ كَيْفَ تُهْمِلُها                 تِلْكَ المَواعيدُ كَيْفَ تُغْفِلُهَا

تِلْكَ العُقودُ التي عَقدْتَ لَنَا                 كَيْفَ وَقَدْ أُحكِمَتْ تُحَلّلُها([12])

 

  • حبّ المرأة

لقد كتب أبو فراس لحبيبته أبلغ القصائد وأكثرها وقعًا جميلًا في النّفس مستخدمًا عنصر الحوار، فيستحضرها في مخيّلته ويلومها مفتخرًا بنفسه مُعاتبًا إيّاها، ويصوّر لها حزنه وقهره في غيابها، فقد أهلكت فؤاده، ويتهمها بأنّها هي من أزرَت به وليس الدّهر كما تدّعي هي، فيقول:(من الطّويل)

تُساَئِلُني مَنْ أنتَ؟ وهِيَ عَليمةٌ             وَهَل بِفَتًى مِثلي على حَالِهِ نُكْرُ؟

فقُلتُ كما شاءَت وَشاءَ لها الهوى         قَتيلُك! قالَتْ أيُهمُ فَهُم كُثْرُ

فَقُلتُ لها لَو شِئتِ لَمْ تَتَعنّتي              وَلَمْ تَسألي عنّي وَعِندَكِ بي خُبْرُ

فَقالَتْ لَقَدْ أَزرَى بِكَ الدّهرُ بَعْدَنا           فَقُلتُ مَعاذَ اللهَ بلْ أنْتِ لا الدّهْرُ

ومَا كانَ للأحزانِ لَوْلاكِ مَسْلَكٌ             إِلى القَلْبِ لكنَّ الهَوَى لِلبَلَى جِسْرُ

وَتَهلِك بَينَ الهَزلِ وَ الجِدّ مُهْجَةٌ           إذا ما عَادَاها البَيْنُ عَذّبَها بِها الفِكْرُ

استخدم الشّاعر هنا الّليل، وهو أكثر الأوقات الّتي تتأجّج فيها المشاعر وتزداد الّلهفة والاشتياق بين المتحّابين، فقد حمل لهُ الرّيح في الّليل رسائل من المحبوبة لم يشعر بها إلّا هوَ، وكلّ هذه الأبيات سببها شدّة الجوى و الهوى فيقول: (من الرّجز)

يشعر أبو فراس بغربةٍ بسبب بعاده عن محبوبته فيصف لها الحال بغيابها، فلو حضر كلّ أهله وغابت هي يشعر بالوحدة، فكلّ دارٍ ليست فيها فهي قفر، فهو حارب كلَ قومه بسبب عشقه لها، فلولاها كانت علاقته بهم قويّة مثل امتزاج الماء بالخمر و نراه يقول: (من الطّويل)

مُعَلّلتي بالوَصْلِ والمَوتُ دُونَهُ             إِذا مِتّ ظَمآنًا فلا نَزَلَ القَطْرُ

بَدَوْتُ وأهْلي حاضِرون لأنّني             أَرَى أنّ دارًا لَسْتِ مِنْ أهْلِها قَفْرُ

وَحارَبْتُ قَوْمي في هَواكِ وأنّهُمْ            وإيَايَ لَوْلَا حُبّك المَاءُ و الخَمْرُ([13])

يشكو الشّاعر في الأسر مرارة السّهر، فمن شدّة شوقه لا تغفو مُقلتاه فلا أُنْسَ بدون المعشوقة ولا يستطيع تخفيف الشّوق إلّا بذرف الدّموع، فقد كان قبل الأسر يخاف ويحذر من الفراق، ويخاطب رفاقه من العشّاق ليخبروه عن حال الفريق الّذين تقدمت جمالهم فيقول: (من البسيط)

إنّ الحبيب الّذي هامَ الفؤاد به             ينامُ عن طول ليلٍ أنتَ سَاهِرهُ

ما أنْسَ لا أنسَ يَومَ البينِ موقِفنَا           والشّوقُ ينهى الكاعني و يأمرُهُ

وقَولُها ودُموعُ العَيْنِ واكفةٌ                 هذا الفِراقُ الّذي كنّا نُحاذِرهُ

هل أنتِ يا رِفقةَ العِشّاق مُخْبرَتي          عَن الخَليطِ الّذي رُمّت أَباعِرُهُ

 

 

  • حبّ المعشوقة

لقد خرج أبو فراس من ظلّ الإمارة إلى ذلّ الأسر، وقاسى ما قاساه فقد خرج من عناية الأهل إلى مقابلة العدوّ المستكبر، وهذه التّجربة الأليمة التي لا يحسّ فيها بأيّ من ملذّات الدّنيا لا عطف قريب ولا عناية حبيب([14]). فهو أسير الجسم في بلدة و أسير القلب في مكان آخر فيقول في أسره: (من السّريع)

إرثِ لصَبٍّ فيكَ قَدْ زِدْتَهُ                  على َبلايا أسْرِه أَسْرا

قَدْ عَدِمَ الدّنيا ولذّاتِها                      لَكنّهُ ما عَدِم الصّبْرا

فَهُوَ أسيرُ الجِسْمِ في بلْدَةٍ         وَهُوَ أسيرُ القَلبِ في أُخْرى

ويرسِلُ سلامَه لحبيبته السَاكنة في الوادي فيعرِبُ عن حبّه لها بسبكةٍ جميلةٍ فيمتزج الحبّ بالغزل، فقد أحبّ البّوادي من أجلها، وشبّهها بالغزال فهي المتزيّنةُ بالحليّ على منكبها وعنقها، وبسبب حزنه على فراقها شمت به الحسّاد وابتهجت أفئدة الأعداء، ففي الأسر لا أحد يرقيه من المرض، ولا أحد يفتديه من القيود، ويعبّرعن هذه المشاعر قائلًا: (من الهزج)

سلامٌ رائحٌ غَادِ                    على سَاكنةِ الوادي

عَلى مَنْ حُبّها الهادي            إِذا ما زُرْتُ والحَادي

أحبُّ البَدوَ مِنْ أجلٍ              غَزالٍ فيهمُ بادِ

ألا يا ربّة الحَلْي                  على العَاتقِ والهَادي

لَقَد أبهَجَتِ أعدائي                وَقَدْ أشمَتِّ حُسّادي

بِسُقْمٍ مالَهُ راقٍ                    وَأسْرٍ مالهُ فَادٍ([15])

وفي ذكر الشّوق والّلوعة أكثر القصائد انتشارًا وتداولًا على ألسنة النّاس هي قصيدة أبي فراس و قد كساها من ححل البلاغة أبهى لباس فجرّد من نفسه شخصًا آخر يقول له أراك… وهو يحاول إخفاء دمعه ولوعته، فهو أميرٌ وشاعرٌ، ومن وجهاء آل حمدان، لا تُذاع أسراره ولا تدمع عيونه علنًا، فالسّجن مأوى الآلام وهذه القيود تثير همومه وشوقه، وتجري عبراته فلا يستطيع البوح بها إلًا في ظلام الّليل، فالسّكينة تسمح للذّات الدّاخلية بأن تستيقظ([16]) فيعرب عمّا خطر بباله بأروع و أصدق صورة قائلًا: (من الطّويل)

أراكَ عَصيّ الدّمعِ شيمتُكَ الصّبرُ         أما للهَوى نَهيٌ عليك ولا أمر

نَعَمْ أنا مُشتاقٌ وَعِنْدِي لَوْعَةٌ               وَلَكنّ مِثْلي لا يُذاعُ لَهُ سِرُّ

إذا الّليلُ أضْوَاني بَسَطتُ يدَ الهَوى        وَأذْلَلتُ دَمعًا مِنْ خَلائقِهِ الكِبْرُ

تَكادُ تُضيىءُ النّارُ بينَ جَوانِحي           إذا هِيَ أذْكَتها الصّبابةُ والفِكْرُ([17])

ونلاحظ في هذه الأبيات لومه وعتابه للمحبوبة، فهي تُنكِرُه، وهو يستنكر هذا النّكران والجهل الّذي تدّعيه فهل بفتى وفارس مثله يُنكَر؟ فهو في حلوّ الحياة ومرّها يستذكرها فنراه يقول:

فَلا تُنْكِريني يا ابنةَ العَمّ إنّهُ               ليَعْرِفُ مَنْ أنكرْتِهِ البَدْوَ وَ الحَضْرُ

ولا تُنكريني إنّي غَيرَ مُنكِرٍ                إذا زُلّت الأقدامُ واسْتُنزلَ النّصْرُ([18])

ويستحضرُ أبو فراس صورة البوادي المقتبسة من حياة الصّحراء وثقافتها، فيثشبّه محبوبته بالظّبية التي تجفل تارّةً و تدنو تارّةً كأنّها تُنادي صغيرها العاجز عن الرّكض فيقول:

كأنّي أُنادي دُونَ مَيثاءَ ظَبيةً              على شَرَفٍ ظَمْياء جَلّلَها الذّعْرُ

تَجفّلُ حينًا، ثُمَّ تَدنُو كأنّما                 تُتادي طَلًا بالوادِ، أَعجَزَهُ الحُضْرُ([19])

 

وبعد اطّلاعنا عل أغلب قصائد أبي فراس خلال مدّة الأسر نُلاحظ أنّ الحبّ احتلّ حيّزًا واسعًا فيها، لكنّه الحبّ الذّاتي، فنلاحظ علوّ صوت الأنا بعد انقطاعه عن العالم الخارجيّ وانطوائه على أحزانه، فرصدَ إنجازاته وافتخر بنسبه العريق، فَبَنو حمدان اشتهروا بالفصاحةِ والرّجاحةِ([20])، وذَكَر مواطن القوّة في حياته الجسديّة والعاطفيّة فهذه الذّات الّتي أضحَت متقلّبة بين الألم والشّوق والكبرياء والاعتزاز والحنين والذّلة والإفتخار، وربما ارتفاع صوت الأنا جاء لوازن بين انكساره في الأسر وكبريائه قبل ذلك.

وليطفئ بها نار ذاته المعذبة والمعللة، وهو ما فسّره د. نيلا غرانبرغ: “إنّ الجُرح النّرجسيّ الّذي تتحمّله الأنا يُجَنّد بعض آليات الدفاع، فالنّرجسيّة في التّصوّر الفرويديّ لا تمثّل حبّ الفرد لذاته فحسب، ولكنّها تُمثّل أيضًا عاطفة القوّة الكليّة([21]). ونراه اتّخذ اتّجاه الفخر والإعتزاز ليستعيد قوّته النّرجسيّة الكليّة.

والحبّ الذي هَيمَن على قصائد أبي فراس في أثناء الأسر بعد قصائد الفخر الذّاتي التي كانت لسيف الدّولة، فالشّاعر لم يخرج يومًا عن الإطار الأسريّ، فقصائده دلائل واضحة عل شدّة التّرابط والألفة، وخاصّةً أنّ سيف الدّولة تكفّل برعايته فكان الوالد والمُربّي والمُعلّم. ورغم تذبذب العلاقة بينهم في أثناء الأسر لكنّها باتت عتابًا وألمًا وشكوى وكلّها بغرض الفداء: (من الطّويل)

وإنّكَ المَولى الّذي بكَ أفتَدي              وَإنّكَ للنّجمِ الّذي بِهِ أَهتَدي

وَأَنتَ الذّي عَرَّفتَني طُرقَ العُلا            وَأَنتَ الّذي أَهدَيْتَني كُلَّ مَقصَدِ

وَأنتَ الّذي بَلّغتَني كُلَّ رُتبةٍ                مشيتُ إليها فوقَ أعناقِ حُسّدي([22])

 

الخاتمة

لقد كانت قصائد أبو فراس التي نظمها خلال مدّة أسره ممتلئة بالأحاسيس مفعمةً بالمشاعر الصّادقة فهي مشاعر حقيقية غير مصطنعة، مرّ صاحبها بتجارب قاسية صوّرها  أبلغ  تصوير، ولا  يمكن لقارئها إلّا أن يستشعر ما شعربه وقاساه حينها.

فالسّجن على الرّغم من أنّه تجربة مريرة، إلّأ أنّها ثرية جدًا، فقد فاضت قرائحهم شعرًا ثائرًا ناطقًا بروح المقاومة وإرادة الحياة؛ فهذا النّوع من الشّعر النّضاليّ الذي ولد في ظلام الزّنازين وخلف القضبان ودياجير الظّلام الدّامس صوّر تجربة المعاناة وسطّر ملاحم الصّمود في قصائد صادقة عذبة.

فهرس المصادر والمراجع

 ١- بسيسو، لين وماجد، شعر أبي فراس الحمداني دراسة فنيّة، ط، ١٤.٩ه، ١٩٨٨م.

٢- الثّعالبي، أبو منصور، يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر(شرح وتحقيق مفيد محمد قميحة)، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، ط١، ٢٠٠٠م.

٣- الدّويهي، خليل، ديوان أبي فراس الحمداني، دار الكتاب العربي، بيروت لبنان،  ١٤٢٨ه،٢٠٠٠م.

٤- الزّركلي، خير الدين، ديوان أبي فراس الحمداني، دار العلم للملايين. ط١، ٢٠٠٢ م.

٥- الشكعة، مصطفى، سيف الدّولة الحمداني، مملكة السّيف ومملكة الأقلام، عالم الكتب للطباعة والنشر، بيروت  لبنان، ١٩٧٧م.

٦- الصّمد، واضح، السّجون وأثرها في الآداب العربيّة من العصر الجاهليّ  حتى  نهاية العصر الأمويّ، مكتبة عين الجامعة.

٧- غرانبر، نيلا، النّرجسيّة دراسة نفسيّة ترجمة وجيه أسعد، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، سوريا ، ٢٠٠٠ م.

([1]) الدّيوان، ص137-138

([2])الدّيوان، ص209

([3])الدّيوان˛ ص98

([4]) الدّيوان˛ ص263

 

([5])الدّيوان، ص161

([6]) الدّيوان˛ ص 95

([7]) فنون الشعر في مجتمع الحمدانيين˛ ص 124

([8]) سيف الدّولة الحمداني: مملكة الدّولة ومملكة الأقلام˛ ص 109

([9]) الدّيوان، ص17

([10]) الدّيوان، ص 197

([11]) الدّيوان، ص 209

([12]) الدّيوان، ص 87

([13]) الدّيوان ص 92

([14]) شعر أبي فراس الحمدانيّ˛ دراسة فنيّة˛ ماجد ولين وجيه بسيسو ط1˛ 1409 ه- 1988م˛ ص 123-124˛ منقولًا من من مقدمة ديوان أبي فراس˛ سامي الدّهان

([15]) الدّيوان، ص80

([16]) ينظر السجون وأثرها في الآداب العربيّة من العصر الجاهليّ حتى نهاية العصر الأمويّ˛ص 209

([17]) الدّيوان، ص91

([18]) الدّيوان، شرح إبن خالويه، ص158

([19]) الدّيوان ص 159

([20]) يتيمة الدّهرفي محاسن أهل العصر تأليف أبي منصور الثّعالبي النيسابوري شرح و تحقيق د. مفيد محمد الجزء الأول الطّبعة الأولى 1403-1983 م دار الكتب العلميّة – بيروت لبنان ص 25

([21]) النّرجسيّة- دراسة نفسيّة د. نيلا غرانبرغر– ترجمة وجيه أسعد منشورات وزارة الثّقافة- دمشق- سوريا 2000م ص 76

([22]) ديوان˛ ص 85

عدد الزوار:65

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى