التكفيرنقيض الإيمان عمر شبلي
قبل كل شيء يجب أن نؤكد أن الإيمان أوسع وأشمل من الدين، والدين أعمق وأوسع وأشمل من المذهب. وانطلاقاً من هذا الإدراك فإن هناك مؤمنين خارج أي دين بعينه، وخارج أي مذهب بعينه، فالإيمان بمدبّر هذا الكون وخالقه أوسعُ من أن يكون وقفاً على ملة بعينها أو دين بعينه، فإن “الخلق جميعهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله. والله بعظمته المطلقة هو “رب العالمين”، وليس رب المسلمين وحدهم. أما إذا كان دين من الأديان يعتبر أن كلّ من ليس من أتباعه هو كافر، فهذا يقود إلى وجوب محاربته لأنه كافر بنظر أتباعه، وهذا هو منطق المتشددين الذين فهموا النص المقدس فهماً جامداً دون الأخذ بمفهوم تطور الوعي الديني بتطور ظروف الحياة ومستجداتها التي تفرض حقائق لا يمكن تجاوزها أبداً. فإذا كان فهمنا للدين فهماً جامدا غير متحرك مع الحياة فإن علينا أن نقاتل العالم كله اليوم وأن نعد له ما استطعنا من قوة لإرهابه. وهذا الفهم القاصر يتناقض اليوم مع الحقائق القائمة التي تجعلنا في مواجهة العالم كله ومعرضين للإبادة، شئنا أم أبينا.
إن فكرة التكفير وانتقالها إلى الممارسة هي في معناها الحقيقي تصغيرلعظمة الخالق وحصرُ كوْنيةِ ربِّ العالمين في “الفرقة الناجية”. وهي فكرة يجب إزالتها من عقل المسلم وغير المسلم. فالله هو ربُّ العالمين جميعاً، هو بارئ كل شيء، وهو وحده” أعلم بمن اتقى”. نحن مازلنا نتعادى ونقتتل فيما بيننا ليثبت كلٌ منا أنه ينتمي إلى الفرقة الناجية، والمؤهّلة وحدها لدخول النعيم المقيم ونضع الفِرَق الواحدة والسبعين الباقية من المسلمين في الجحيم. هذا ضمن الدين الواحد، فكيف إذا حشرنا الآخرين تحت عقيدة هذا الفهم المحدود!. إن اعتقادنا بالفرقة الناجية وحدها هو إلغاء مفهوم الإيمان. وللأسف، التكفيريون يعتقدون هذا، سواءٌ أصحَّت رواية الحديث أم لم تصحَّ، لأننا في ممارساتنا وسلوكنا ومعتقداتنا نؤكِّده سرّاً وعلانيةً، ويكفي أن تنظر إلى ما يحيط بك من فرق ونِحَلٍ إسلامية لتتأكد من صحة ما نذهب إليه. إن كلّ فرقةٍ تؤكّد أنها الناجية، وغيرها في ضلالة: “وكل ضلالةٍ في النار”. وخلافنا على السماء مزّقنا على الأرض. كلُّ فرقةٍ تكَفِّرُ أختها، وكأننا نملك مفاتيح الغيب، ونملك “صكوك غفران” نعطيها من نشاء ونسلبها ممن نشاء. هذا جعلنا في مؤخرة الأمم، وانظر إلى دول العالم التي نتهمها بالابتعاد عن السماء لترى مدى تقدمها علينا. وعيها أرقى، سلوكها أكثر استقامة، نتاجها الفكري متقدم ونتاجها المادي يغزو أجسامنا ومقتنياتنا وبيوتنا، إنك لا تدخل بيتاً في بلاد العرب والمسلمين، ولا تجد فيه آلة من اليابان أو الصين أو الغرب، بينما لايوجد في بلادهم من بلادنا سوى النفط الذي يذهب إليهم صافياً ليعود إلينا حِمَماً في أجواف طائراتهم، وملايينِ الهاربين من بلادنا إليهم من الجوع والرعب والظلم، فقد ذكرت وكالات الأنباء قبل شهر تقريباً أن سفناً إيطالية أنقذت 215 مهاجراً غير شرعي هاربين من ليبية، كاد البحر يبتلعهم لولا سفن “الكفار” في إيطالية، وهذا يتكرر باستمرار. والسؤال لماذا يعرض هؤلاء أنفسهم لهذا المصير؟ أعتقد أننا لسنا بحاجةٍ للجواب. وهل الذين أنقذوهم من الغرق كفار؟
نعم، إن تكفير الناس يعني إلغاءهم وحرمانَهم من رحمة خالقهم، ويعني جعْلَ الدين حزباً سياسياً، وجعْلَ اللهِ رئيساً لهذا الحزب. هذا يعني أن الذين يُكَفِّرون الناس هم “الفرقة الناجية”. وسواهم غارق في ظلموت الكفر وعدم وجود رب لهم ينظر إليهم لأنهم ضالون، ومغضوب عليهم. أوليس هذا جعْلَ الله ملكاً لفئة دون غيرها. أو ليس هذا إساءة إلى سعة باب الله لكل مخلوقاته؟. عندما يكون الله مسلماً فماذا يفعل أتباع الديانات الأخرى، وما يفعل الوثنيّون وغيرهم من خلق الله. أوليس هذا حصراً لمعنى الله؟. أما كان الشاعر أبو نواس رائعاً عندما عظمت ذنوبه، ولكنه لم ييأس من رحمة ربه؟ أولم يكن فهمه للهِ فهماً كَوْنيَّاً حين قال:
يا ربِّ إن عظمتْ ذنوبي كثرةً فلقد علمتُ بأن عفوَكَ أعظمُ
إنْ كان لا يرجوكَ إلاّ محسنٌ فبمن يلوذُ ويستجيرُ المجرمُ!
فعلاً، بمن يستجير المذنبون إذا أوصِدَتْ أبواب رحمة الله في وجوههم؟ لقد كتب الشاعر دانتي على باب جهنم؟:” أيها الداخلون أتركوا وراءكم أي أمل في النجاة” إن التكفيريين يسيئون إلى الله حين يضعون سياجاً حول رحمته، ولو عرفوا الله حق معرفته لعرفوا أنه رب العالمين، ولأدركوا أن لكل إنسان حقاً في اللجوء إلى الله وطلب مغفرته، حتى ولو ارتكب كل المعاصي في حياته الدنيا.
إن الفكر التكفيري يحاول أن يجعل الماضي مستقبلاً، وقتها يصبح السير إلى الوراء هو المطلوب، هذا في زمن تتقافز فيه أقدام العلماء فوق الكواكب البعيدة. إن الانتقال من جيل إلى جيل لايكون بعمر الجسد، وإنما بالتربية، التربية هي التي تضع مقياساً للفرق بين الإنسان والحيوان. التربية وعْيُ الكون وحركته وبناء الحضارات التي ترقى بالوعي فيبتكر ويبدع. والوعي هو الذي يطرد الظلام من النفس الإنسانية. ولا يمكن لأمة أن ترقى وتنتمي لعصرها وللمستقبل إلا بنور التربية الواعية. إنّ جمودية الفكر هي تجميد للزمن ووقوف في الماضي الذي لا يمكن أن يكون سليماً إلاّ بسيره للأمام. لقد اتُهِمَ “ماجلان” بالكفر لأنه اكتشف أرضاً ليست مذكورة في الكتاب المقدس، وحوكمَ “غاليله” لأنه قال: إن الأرض تدور، ورغم ذلك وقف ليخاطب الأرض وهو خارج من المحكمة: “ومع ذلك فأنت تدورين”. واتُهِمَ ابن رشد بالضلالة لأنه قال إن العقل لايناقض الشريعة، وحُوربَ المعتزلة لأنهم كانوا فكراً تنويرياً.
سبب هذا كله هو الوقوف عند الفهم الجامد غير المتطور للنص المقدس، ولم يعِ أصحاب هذا الفهم أن النص المقدس يجب ألاّ يتناقض مع مسيرة الحياة وإنجازاتها الكبرى. لقد نزل القرآن مُنَجَّماً، أي متفرقاً على ثلاث وعشرين سنة، ليعلِّم الناس أن نزول النص كان يراعي ما استجدَّ في واقع الناس. لقد آن الأوان لفهم النص المقدس فهماً يتناسب مع حقائق العلم التي نراها ماثلة أمامنا، لقد قال الإمام علي لأصحابه: “إن القرآن حمّال وجوه”، ويعني هذا الكلام أن التفسير الجامد للنص المقدس غير صحيح. كيف نتقدم اليوم إذا حرّمنا فتح البنوك والتعامل معها، وكيف نستطيع منع رؤية التلفزيون لأنه ينقل الصورة! وكيف نسيطر على وعي جيل يقبل بنهمٍ جارف على “الواتس أب”، وعلى ما تنتجه وسائل الاتصال الحديثة من برامج تحيِّر عقولنا الساكنة في الماضي. الآن نحن في عصر تغيّرت فيه الحياة كثيراً، لقد كان أجدادنا يحملون سيوفهم لنشر دعوتهم بالقوة، فهل المطلوب اليوم أن نجبر العالم بالقوة على قبول فكرةِ:”أسْلِمْ تسلمْ”. ما كان مقبولاً في الأعصر الأولى لم يعد مقبولاً وممكناً في عصرنا الحالي. إن جمودية الفكر التكفيري أدّت إلى جمود النص، وهذا جعلنا في مؤخرة شعوب الأرض. ويكفي أن ننظر إلى ما يحدث في العالم لنرى ما نحن فيه من تخلف، وما أنجزه “الكفّار” من علوم. إن الإنسان في حقيقته هو نفس الأفكار التي يحملها، وما تبقّى “صورة اللحم والدم”. كيف ننظر ل”أديسون” الذي ملأ العالم ضوءاً، وكيف ننظر لأولئك الذين اكتشفوا الأدوية التي تخفف آلام البشر. وكيف ننظر لأولئك “الكفار” الذين وقفوا مدافعين عن قضايانا أكثر منا؟ كيف ننظر للفتاة اليهودية “راحيل” التي جرفتها الدبابة الإسرائيلية لأنها وقفت أمامها للدفاع عن بيت فلسطيني مظلوم، هل نحشرها في النار لأنها ليست مسلمة؟!، كيف ننظر إلى “المهاتما غاندي” الذي حرّرَ مليار إنسان في بلاده بثورته السلمية، لقد هزّ الاستعمار الغربي السيف في وجهه، وهزّ هو غصن السلام “فهزّ البحرَ والجزرا”. كيف ننظر إلى الشاعر القروي المسيحي “رشيد سليم الخوري” وهو يقول:
أنا العروبةُ لي في كلّ مكرمــــــــةٍ إنجيلُ حبٍّ ولـــــي قرآن أنعامِ
شغلتُ قلبي بحبّ المصطفى وغدتْ عروبتي مثَلي الأعلى وإسلامي
كيف نستطيع أن نقنع أنفسنا أن الزمن واقف في الماضي، ولا يتحرك أبداً؟ كيف نتقدم، ونحن ما زلنا نتناحر من أربعة عشر قرناً بسبب أحداث خلتْ وأصحابُها؟.
لقد أتقنّا مهنة الشتيمة وسباب الآخرين الذين عاثوا ببلادنا فساداً دون أن نسأل أنفسنا: لماذا هم أقوياء ونحن ضعفاء؟ ولماذا ركبوا على ظهورنا؟، يقول مثَلٌ صينيّ: “إذا كان ظهرُك منحنياً فلا بدَّ أن يصعدَ الآخرون عليه”، وقديماً قال المتنبي: “والدنيا لمن غَلَبا”. إننا نكذب في كل شيء، وفي الحديث الشريف: “الكذبُ مجانبٌ للإيمان”، فهل نحن مؤمنون؟ .وكذبنا يملأ أفواهنا وبيوتنا وتاريخنا، وإذا كنا لا نعي هذا “فتلك مصيبةٌ” وإذا كنا نعي ذلك “فالمصيبة أعظم”. يقول شاعر أندلسي:
فقلْ للأعورِ الدجّالِ هذا زمانُكَ إن عزمتَ على الخروجِ
هل كلامنا هذا جلدٌ للذات، وتمزيق لمعنى أن نكون؟ لا، أبداً. إن أول خطوة يجب أن نقوم بها للانتماء إلى عصرنا والتخلص من الفكر الظلامي والخروج من عصر الانحطاط هي أن نمارس الوعي النقدي بجرأةٍ وصدق لتجربتنا الحضارية عبر عصورها، سلباً وإيجاباً، هنا أخطأنا، وهنا أصبنا، لا بدّ من استعمال مبضع الجرّاح، لأن الذي لا يصحِّحُ أخطاءه يُعاقَب بتكرارها، نعم يجب أن نصمد وأن نصحح مواقفنا باستمرار، لأن الصحيح نفسه يحتاج إلى تصحيح في سيرورة الزمن. كل ذلك يجب أن ينجزه العقل النقدي، لا بدّ من الرجوع إلى العقل، “فكلُّ عقلٍ نبيُّ” كما يقول أبو العلاء المعري. والعقل ينجز العمل الذي يحارب الظلم والفساد والجاهلية.
نعم، إننا لا نجلدُ أنفسنا، وسنبقى نسعى لأن نكون. ومشكلة كينونة الإنسان الحقيقي المتمرد على الظلم والفساد عبّرَ عنها شكسبير بقوله: “نكون أو لا نكون، هذا هو السؤال”. يجب أن نرفع راية نظيفة ونقاتل تحتها للدفاع عن وجودنا، وسنبقى رافعين تلك الراية بأذرعٍ تنبتُ كلما قُطِعتْ. ومعركتنا في بطون الكتب قبل أن تكون في ساحات القتال. وعلينا أن نعي أن الفكر لا يتحوّل إلى قوة مادية إلا إذا حمله الناس، وعملوا به. علينا أن نبقى متوازنين، ولو كنا على طرف الهاوية.